أمام بهاء وروعة افتتاح المتحف المصرى الكبير، جاءت فى ذهنى كلمات الدعاء الخالد المذكور فى كتاب الموتى، الذى يُعَد من ضمن مجموعة الوثائق الدينية والنصوص الجنائزية، التى كانت تُستخدم فى مصر القديمة، كدليل للميت فى رحلته للعالم الآخر، نحو 1550 قبل الميلاد. إنه الدعاء الذى يدافع به الميت عن نفسه (ويسمى الاعتراف بالنفى)، يقول: «السلام عليك أيّها الإله الأعظم إله الحق.. لقد جئتك يا إلهى خاضعًا لأشهد جلالك.. جئتك يا إلهى متحليًّا بالحق، متخليًا عن الباطل، فلم أظلم أحدًا ولم أسلك سبيل الضالين، لم أحنث فى يمين ولم تضلنى الشهوة؛ فتمتد عينى لزوجة أحد من رحمى، ولم تمتد يدى لمال غيرى، لم أكن كذابًا ولم أكن لك عصيًا، ولم أسعَ فى الإيقاع بعبد عند سيده.. إنى (يا إلهى) لم أوجِع ولم أبكِ أحدًا، وما قتلت وما غدرت؛ بل وما كنت محرضًا على قتل، إنى لم أسرق من المعابد خبزها، ولم أرتكب الفحشاء ولم أدنس شيئًا مقدسًا، ولم أغتصب مالاً حرامًا، ولم أنتهك حرمة الأموات، إننى لم أبِع قمحًا بثمَن فاحش ولم أغش الكيل.. أنا طاهر، أنا طاهر، أنا طاهر. وما دمت بريئًا من الإثم، فاجعلنى يا إلهى من الفائزين». كلمات خالدة تسبق حتى الأديان السماوية وتؤكد أن ما يميّز البشر عن غيرهم من المخلوقات هو الحس الأدبى والأخلاقى وسعيهم الدائم للعيش بضمير صالح أمام الله وأمام الناس وأمام أنفسهم. إنها دليل على أن الحق والأمانة والرحمة والصدق واحترام حقوق الآخرين، مَهما اختلفوا عنّا فى اللون واللغة والدين والاعتقاد والثقافة والجنس، هى قيم خالدة ومحفورة فى الضمير الإنسانى حتى قبل الوحى الإلهى ونزول الأديان السماوية.. إنها دليل على أن الظلم والسرقة وحنث اليمين وخيانة الأمانة والوعود، والغدر بالأصدقاء، والكذب والاغتصاب والقتل والإرهاب والسرقة والغش هى جرائم تتبناها وتبررها فقط القلوب المتحجرة والنفوس المريضة والمنافقون، حتى وإن لبسوا العمائم واعتلوا المنابر وتوشحوا بأقنعة التدين والوقار والورع والتقوى. إنها معايير خالدة ومؤثرة وباقية مَهما مَرّ الزمان.. قد نختلف حول تفسيرها ولكننا لن نختلف أبدًا حول ضرورتها وحاجتنا لها.. إنها القيم الإنسانية المشتركة التى تمثل الأُسُس المشتركة التى تقوم عليها حياتنا، وهى ثوابت تعلمتها البشرية نتيجة خبرة وتعاقب الأجيال.. إنها بالنسبة للحكماء كالإشارات التى تهدينا من عواصف الجهل، وتحمينا من ظلام التعصب والانغلاق والتحجر، وهى بالنسبة للجهلاء والمراهقين فكريًا كالتحديات التى يعملون على تجاهلها والتقليل من قيمتها وفائدتها وضرورتها، وأحيانًا مقاومتها. إنها امتحان لمدى نضجنا الإنسانى والحضارى والفكرى والدينى.. حتى وإنْ تم استغلالها من البعض للتحكم والسيطرة إلا أنها تبقى علامات نور ترشدنا نحو الطريق الصحيح والصراط المستقيم وتوفّر علينا متاهة تكرار «التجربة والخطأ» وفقدان الهدف وتبرير الفظائع والسكوت عن الحق.. تبقى القيم الإنسانية المشتركة الأساس، الذى تلتقى حوله البشرية جمعاء سواء بالاتفاق أو بالحوار أو حتى بالتشكيك أو الرفض والإحجام.. إنها لآلئ تزين عُنُقَ البشرية: الكرامة الإنسانية، والعدل والمساواة، والصدق والأمانة، والرحمة والمحبة، والاحترام والتسامح، والحرية والمسئولية، والتعاون والإيثار، والسلام والأمن.. ولدينا فى التاريخ أمثلة معاشة لأشخاص ضربوا بها عرض الحائط فضرب بهم التاريخ عرض الخذلان والعار، ولأشخاص عاشوا بحسب هذه القيم فكانوا منارة ونموذجًا للأجيال التى جاءت بَعدهم. ولدينا فى دولة الإمارات العربية المتحدة مثال ناصع، لا يزال يُلهم ويُعلم الكثيرين، إنه حكيم العرب، طيّب الذكر، المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، الذى قال: «من دون الأخلاق ومن دون حسن السلوك ومن دون العِلم لا تستطيع الأمم أن تبنى أجيالها والقيام بواجبها، وإنما حضارات الأمم بالعِلم وحسن الخلق والشهامة ومعرفة الماضى والتطلع للحاضر والمستقبل».