فى فجر السادس والعشرين من أغسطس 2006، كانت القاهرة على موعدٍ مع ليلة استثنائية لن تُمحى من ذاكرة المصريين، المدينة التى لا تعرف النوم، كانت تستعد فى تلك الليلة لتوديع أحد رموزها العظام، والذى وقف تمثاله شامخًا فى قلب العاصمة لأكثر من خمسين عامًا، «عملاق حجرى» معبرًا عن عظمة الملك رمسيس الثانى. لكن ما بدا للكثيرين مجرد عملية نقل تمثال، كان فى الحقيقة ملحمة وطنية تتداخل فيها الهندسة بالآثار، والعلم بالعاطفة، والرمز بالهوية. هكذا بدأ د. زاهى حواس، عالم الآثار حديثه عن تلك اللحظة، وقال بكلمات يغمرها الفخر قائلًا: كنت أشعر أن رمسيس ينظر إلينا من علوّ تمثاله، وكأنه يسأل: إلى أين تأخذونني؟ لكننى كنت واثقًا أنه سيكون سعيدًا حين يرى موطنه الجديد عند سفح الأهرامات، حيث عاش أجداده وبنى مجده. ولم يكن قرار النقل سهلًا، فقد وقف التمثال لعقود طويلة فى قلب ميدان مزدحم بالضوضاء والاهتزازات الناتجة عن مرور القطارات والسيارات، بينما كانت ذرات التلوث تلتصق بوجه الملك الجليل. ويضيف د. زاهى حواس، كان رمسيس سيلعننا من قبره لو تركناه هناك، كنا نعلم أن بقاءه وسط فوضى من الدخان والاهتزازات يهدد بقاءه للأبد، وكان واجبًا علينا إنقاذه. بدأت خطة نقل تمثال رمسيس فى عام 2002، واستمرت أربع سنوات من الدراسات الدقيقة. شارك فيها مهندسون وعلماء آثار وخبراء ميكانيكا التربة، لضمان أن التمثال الذى يزن أكثر من 83 طنًا لن يتعرض لأى ضرر. وتم بناء قاعدة معدنية خاصة لتثبيته، ووُضعت أجهزة دقيقة لقياس الاهتزازات أثناء التحرك. عن تلك التجهيزات يقول «حواس»: كنت أتابع كل تفصيلة بنفسى، هذا ليس مجرد حجر ضخم، هذا رمز لحضارة بأكملها، كان علينا أن نثبت للعالم أن المصريين لا يزالون قادرين على حماية تاريخهم بأيديهم. وعندما حان يوم الرحلة، خرج التمثال من قلب القاهرة فى موكب مهيب. آلاف المواطنين اصطفوا على جانبى الطريق يلوّحون بالأعلام، بعضهم يبكى تأثرًا. ويصف د. حواس المشهد قائلًا: لم أكن أصدق أن المصريين سيخرجون بهذا الشكل. شعرت أن رمسيس حيًا بينهم، يسير فى شوارعهم، يستعيد أمجاده من جديد. على مدى عشر ساعات، قطعت الشاحنات العملاقة الطريق من ميدان رمسيس إلى موقع المتحف المصرى الكبير، مرورًا بشوارع أغلقت خصيصًا لتأمين الموكب. وعندما وصل التمثال إلى مكانه الجديد، كان فى استقباله فريق من الأثريين والمهندسين، وقفوا فى صمتٍ مهيب أمام الملك العائد إلى موطنه الطبيعى. وحين وضعنا التمثال فى مكانه - يقول حواس- شعرت وكأن روح رمسيس الثانى تملأ المكان. قلت فى نفسي: الملك الآن فى بيته بين أهرامات أجداده. لقد عاد إلى مجده. لم يكن هذا الحدث مجرد عملية نقل أثرية، بل كان رسالة للعالم «نجاح نقل التمثال يعنى شيئًا واحدًا بالنسبة لي: أن المصريين يستطيعون التخطيط والتنفيذ بثقة وعلم. حيث أثبتنا أننا لسنا فقط ورثة الفراعنة، بل نحن أيضًا أبناء حضارة قادرة على صون تراثها». عودة الملك إلى بيته مع اقتراب الموكب من موقع المتحف المصرى الكبير، بدأت ملامح الأهرامات تظهر فى الأفق. كانت الشمس تميل إلى الغروب حين وقف التمثال أمام موقعه الجديد، حيث انتظرته قاعدة ضخمة سيراه العالم واقفًا بزهوه عليها، ليراه الزوار من كل أنحاء العالم. يقول «حواس»: حين وضعنا التمثال فى مكانه النهائى، شعرت أن الأرض تنفّست. نظرت إليه وهو يواجه الأهرامات، وقلت فى نفسى: «ها أنت ذا يا رمسيس، عدت إلى موطنك بعد رحلة دامت ثلاثة آلاف عام.» منذ ذلك اليوم، أصبح تمثال رمسيس الثانى أول قطعة أثرية تستقر داخل المتحف المصرى الكبير قبل افتتاحه الرسمى. وقد صُمم المتحف بالكامل ليكون محوره البصرى، فكل من يدخل من البوابة الرئيسية يرى التمثال شامخًا، وكأنه يرحب بالزوار فى صمت الملوك. اليوم، تمثال رمسيس الثانى يقف شامخًا أمام المتحف المصرى الكبير، كأنه يستقبل الزائرين بابتسامته الهادئة، حارسًا لمجد الأجداد وبوابةً للحضارة. وبينما يتحدث د. زاهى حواس عن تلك الرحلة، يختم حديثه بكلمات فخر «حين أنظر اليوم إلى التمثال وهو يطل على الأهرامات، أشعر أننى أنجزت وعدى مع التاريخ. لقد أعدناه إلى حيث ينتمى، بين الرمال التى صنع منها مجده». رسالة إلى العالم يرى د. زاهى حواس أن ما حدث لم يكن مجرد عملية نقل أثرية، بل بيان حضارى للعالم كله، نجاح نقل التمثال أثبت أن المصريين قادرون على حماية تراثهم بعلمهم وخبرتهم. لم نلجأ لشركات أجنبية، ولم نستعن بخبراء من الخارج. كل شيء كان بأيادٍ مصرية. لذلك أعتبر نقل رمسيس الثانى شهادة جديدة على استمرار عبقرية المصرى القديم. ويضيف: كل حجر فى هذا التمثال يروى قصة مصر، كان رمسيس ملكًا بنى المعابد، وخاض الحروب، وخلّد اسمه على الجدران، لكنه اليوم يعلّمنا درسًا جديدًا، أن الحضارة لا تموت طالما أن هناك من يحميها. اليوم، بعد مرور أكثر من 19 عامًا على هذه الرحلة، لا يزال تمثال رمسيس الثانى شامخًا عند مدخل المتحف المصرى الكبير، بملامحه المعبرة عن القوة والسكينة.وحين تغرب الشمس خلف الأهرامات، تتسلل أشعتها إلى وجهه، فتنعكس على ابتسامته الغامضة كأنها تحية من الماضى للحاضر. واختتم د.زاهى حواس حديثه قائلًا إن رحلة نقل تمثال رمسيس الثانى ليست فقط فصلًا فى تاريخ الآثار المصرية، بل فصل فى تاريخ الإرادة الوطنية، كانت العملية درسًا فى الإيمان والعلم والهوية. ومن بين ضجيج القاهرة وصمت الرمال، سارت مصر كلها خلف موكب ملكها العظيم، لتقول للعالم من جديد.. هنا حضارة لا تعرف الفناء.