غياب إثيوبيا عن الاجتماع الأخير فى مفاوضات سد النهضة؛ وَلّد كثيرًا من الأسئلة حول سبب ذلك ومصير الاتفاق (المصرى- الإثيوبى).. تحتاج الإجابة لمعرفة وقْع تلك المفاوضات على الجبهة الداخلية فى إثيوبيا.. إذْ يبدو أن حل الأزمة يهدد استمرار رئيس الوزراء الإثيوبى فى منصبه. فتولِّى «آبى أحمد» لرئاسة وزراء إثيوبيا لم يكن أمرًا مقبولًا بالنسبة لكثير من الطوائف ومراكز القوى الإثيوبية، إذْ شهد 3 محاولات انقلاب عليه لعزله من المنصب إضافة لمحاولات اغتياله، لكن ما علاقة ذلك بمحاولته عرقلة تفاوضات سد النهضة؟!
تُعَد أزمة سد النهضة هى الورقة الوحيدة التى يستخدمها «آبى أحمد» لحشد وتعبئة الجماهير، أملًا فى توحيد كل من مؤيديه وخصومه السياسيين وراء هدف واحد.
من هذا المنطلق يذهب الكثير من المحللين إلى أن قرار إثيوبيا بالانسحاب من الجولة الأخيرة من مفاوضات سد النهضة فى واشنطن، قد وُظِّف من أجل تغطية رئيس الوزراء الإثيوبى على الوضع الداخلى المأزوم فى بلاده مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية والمقرر إجراؤها فى منتصف أغسطس المقبل؛ خصوصًا أن رئيس الوزراء الإثيوبى فى مأزق كبير، وفُرَص خروجه منه فى غاية الصعوبة، وهذا ما يفسر التصريحات الهجومية الصادرة مؤخرًا عن الجانب الإثيوبى وأبرزها تصريح غيتداحشو اندراجو، وزير الخارجية الإثيوبى «الأرض أرضنا والمياه مياهنا والمال الذى يُبنَى به سد النهضة مالنا ولا قوة يمكنها منعنا من بنائه».
تبع ذلك لقاؤه التليفزيونى الأخير الذى خص به قناة الجزيرة القطرية وحدها ليدافع فيه عن حق أديس أبابا فى بناء السد، وادعاؤه كذبًا بأن ما يثار عن أضرار سد النهضة محض دعاية وتجاوزه حدود اللياقة الدبلوماسية؛ مهاجمًا الجامعة العربية «كان أولى بالجامعة العربية تبنّى موقف يشجع على المُضى فى المفاوضات».
بالتزامُن مع ذلك أطلقت رئيسة إثيوبيا، ساهلورك زودى، برنامجًا لجمع التبرعات من المواطنين لدعم السد، ودعوتها جميع الإثيوبيين إلى تكرار انتصار (عدوة) فى استكمال بناء السد قبل الموعد المحدد- فى إشارة إلى انتصار إثيوبيا على إيطاليا فى مارس عام 1896م، عندما حاولت إيطاليا غزو إثيوبيا للتحكم بمدخل البحر الأحمر.
كما رافق رئيس هيئة أركان القوات المسلحة الإثيوبية، الجنرال «آدم محمد» رئيس أركان القوات الجوية العميد يلما مرديسا، وعددًا كبيرًا من قيادات القوات المسلحة الإثيوبية، فى زيارة لموقع السد بإقليم «بنى شنقول قمز» بغرب البلاد؛ للوقوف على عمليات البناء الخاصة به، والتعرف على آخر التطورات فيما يخص سير العمل فى مشروع السد، والتحديات أمام ذلك.
وأكد رئيس أركان القوات المسلحة، خلال الزيارة، أن القوات الإثيوبية مستعدة للتصدى لأى عدوان قد يواجه السد الذى بُنى بدعم من الشعوب الإثيوبية، وأن قوات الجيش الإثيوبى تعمل من أجل الدفاع عن مكتسبات الشعوب الإثيوبية وحماية حقوقه وأملاكه التى تعمل على تقديم التنمية لهم.
إضافة لتصريحه بأن أفراد القوات المسلحة يقدّمون الدعم المالى والعينى للسد، وقاموا بالتبرع لدعمه بجزء من مرتباتهم الشهرية منذ أن بدأت عمليات البناء فى السد الكبير فى أبريل من العام 2011م.
وفى الزيارة نفسها، أكد رئيس أركان القوات الجوية الإثيوبية أن قواته الجوية مستعدة للتصدى والدفاع عن البلاد وسد النهضة، ضد أى توجُّه يحاول المساس بالسد واختراق الحدود الإثيوبية، أيّا كانت الجهات، وأن السد يُعتبر أهم المكتبسات القومية للشعوب الإثيوبية.
ويرى مراقبون للشأن الإثيوبى، أن هذه التصريحات تأتى فى إطار جنوح «آبى أحمد» وحكومته الحالية بالشحن الداخلى ومغازلة الجيش واستمالة قياداته بتصدير ملف سد النهضة كقضية وطنية جوهرية تستدعى التخلى عن الخلافات الداخلية والاصطفاف خلف إدارته.
ويُرجعون ذلك إلى رغبة رئيس الوزراء الإثيوبى فى تجاوز الأزمات الداخلية بتحقيق مكاسب استراتيجية على صعيد السياسة الخارجية، ليس فى ملف سد النهضة فقط، ولكن فى العديد من الملفات الأخرى؛ إذ يريد تصوير الأمر باعتباره خطوة نحو عودة المجد الإثيوبى وتعزيز نفوذ أديس أبابا فى القرن الإفريقى.
فبَعد توقيع اتفاقية الصلح مع إريتريا وإعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، كانت الوساطة الإثيوبية فى الملف السودانى ومؤخرًا محاولات الوساطة فى شبه جزيرة الصومال والأزمة بين الصومال وصومالى لاند التى جعلت كثيرًا من التحليلات تؤكد أن رئيس الوزراء الإثيوبى يسارع فى اختراق الجدار العازل بين مقديشو وهرجيسا فى زمن قياسى، ويتجاهل حجم الأزمة بين الجانبين، وما لحق بأهل الشمال من مجازر وكوارث يصعب على أهلها النسيان والتراجع عن مطالبهم وحقوقهم بجرّة قلم، خلال زيارة واحدة إلى «هرجيسا» عاصمة صومال لاند.
ما جعل «آبى أحمد» فى مرمَى الاتهامات بأنه سعى من خلال الزيارة الأخيرة إلى صومال لاند لتحقيق مكاسب استراتيجية على صعيد السياسية الخارجية، قبل موعد الانتخابات البرلمانية فى بلاده ليستخدم هذه الورقة فى مواجهة المعارضة الإثيوبية.. ومحاولة تقديم نفسه أمام الغرب بأنه هو الأقدر على حماية مصالحه ومصالح شعوب منطقة القرن الإفريقى، والأهم أنه يسعى إلى تأمين منفذ بحرى فى الصومال لدولته الحبيسة التى يقدر عدد سكانها ب110 ملايين شخص.
بينما يعتبر رفض قادة صومالى لاند زيارة الرئيس الصومالى فرماجو إلى هرجيسا بمثابة رسالة استراتيجية إلى رئيس الوزراء الإثيوبى الذى يحاول الانفراد بتحقيق مكاسب جديدة دون مراعاة مصالح صومالى لاند، وبقية اللاعبين فى المنطقة، فضلًا عن المعارضة الإثيوبية التى انتقدت الصورة التى نشرها رئيس الوزراء الإثيوبى فى حسابه على الفيس بوك.
جميع المؤشرات تؤكد أن سير الأمور السياسية فى إديس أبابا، مع اقتراب موعد الانتخابات الإثيوبية ليس واضحًا، بالإضافة إلى الأزمات الاقتصادية الطاحنة، فالبُعد العرقى حاضر فى جميع جوانب العملية الانتخابية، التى تلوح فى الأفق، ومن المرجح أن تزداد قوة عوامل التأثير العرقى فيها.
وفى حال عدم تغلب دافع البقاء برؤية وطنية موحدة فسوف يتم تشجيع السياسيين الإقليميين بقوة على جذب الأوساط القومية لتعبئة مؤيديهم، وقد يشكّل ذلك منطلقًا لإثارة الخلافات الشديدة، بما يمكن أن يؤدى إلى وضع تصل فيه إثيوبيا إلى سلسلة من الولايات القضائية المجزأة دون منطق مشترك.
ولذلك كانت محاولات «آبى أحمد» إعطاء رسالة طمأنة للداخل الإثيوبى من خلال تصدير صورة «إثيوبيا موحدة» والعمل من خلالها على تحقيق الرخاء الاقتصادى، وهو ما لم تقتنع به المعارضة الإثيوبية.
وظهرت تحركات «آبى أحمد» الأخيرة من أجل كسب ود الداخل الإثيوبى، فى مظهرَيْن مُهمَّيْن، وهما زيارة وفد من أعضاء حزب الازدهار الذى أسّسه إلى سد النهضة ومتابعة أعمال البناء، واجتماعه، الاثنين الماضى، مع قادة فى قوات الدفاع الوطنى، معطيًا رسالة داخلية مفادها التأكيد على تعزيز ثقته فى قواته المسلحة.
جاء ذلك الاجتماع عَقب السياسات الهيكلية التى اتخذها «آبى أحمد» تجاه المؤسّسة العسكرية لخَلق قوى داعمة له من ناحية، والاستمرار فى الدعاية الانتخابية وتقويته ظاهريّا فى إثيوبيا من ناحية أخرى، فقد وافق مجلس النواب الإثيوبى مسبقًا على مشروع قانون لإصلاح وإعادة هيكلة الجيش، وإنشاء مفوضية للحدود والهُوية، ويتضمن مشروع القانون تعديل 8 مواد من إعلان تأسيس قوات الدفاع الإثيوبية وبناء قوات بحرية، واستحداث قوات الحرب السيبرانية والفضاء.
وأشارت التحليلات إلى أن إعادة الهيكلة فى ذلك الوقت تهدف إلى إعادة تخفيض عدد القيادات المركزية للجيش فى البلاد، من خلال تقليص عدد القيادات الإقليمية من 6 قيادات إلى 4.
بإزاحة الستار عن هذه الصورة المرسومة؛ فإننا سنقف أمام حقيقة واضحة وخلافات مستترة ومحاولات انقلاب، وكثير من المعوقات أمام سياساته إبان توليه رئاسة مجلس الوزراء.