فجأة.. هب واقفا على قدميه..ترجل عن سرير الإفاقة، الذى لازمه لسنوات، وأرخى يديه فى جيب حلته الرياضية الفاخرة، وأخذ يتمشى فى حديقة لا أول لها ولا آخر، بصحبة سيدة القصر الأولى لثلاثين عاما، منفردين أمام كاميرات المصورين المعدة سلفا..كما فعلها الرئيس المخلوع فى مشهد بالغ الاستفزاز قبل يومين، فعلها رجاله بعدة طرق أخرى، تصب كلها فى رسالة واحدة «نحن عائدون». كلهم شحذ الهمة، والأسلحة، وجمع الرجال، ورفع درجة السخونة فى وسائل إعلامه، أو القابلة للاستئجار فى الإعلام الخاص، لتجهيز المسرح للقادمين من الخلف، بعضهم من بوابة البرلمان، وبعضهم من نوافذ الإعلام، وبعضهم من أبواب الأسواق المشرعة للعابثين بأقوات الشعب، أما القلة الأكثر ذكاء أو بالأحرى خبثًا فاستعدت للعودة من باب كرسى الوزارة رأسا. ومن القلة الأخيرة، أو يتصدرها، آخر أمين أو «محلل» للحزب الوطنى المنحل حسام بدراوى. حرص بدراوى طوال سنوات مبارك على وضع صورته داخل برواز رجل التعليم والإصلاح، المتمدن الحداثى، والتكنوقراط الاستراتيجي، وخزان المعرفة العلمية الأحدث فى العالم، والجاهز فى كل وقت للتدخل السريع للإنقاذ، حتى صدق النظام البائد هذه الأكذوبة فى الوقت القاتل، وجاء بالرجل أمينا عاما للحزب الحاكم فى ذروة المشهد الأخير من قصة حياة النظام، ظنا منه أن البرواز الإعلامى الذى طالما صنعه بدراوى راج فعلا لدى الجماهير، فإذا به يشبك يده فى يد رأس النظام ورموزه ليهووا جميعا تحت أقدام الشعب الغاضب. وكما فعلها أمين لجنة التعليم فى برلمان مبارك، وأمين حزبه، وعضو أمانة سياسات نجله لسنوات طويلة، قبل يناير، يعود بدراوى محاولا فعلها بعد يناير ويونيو معا، بواسطة شلة أصدقائه القدامى فى الإعلام وشركائه فى بعض البيزنس، إلى حد علو أصواتهم بترشيحه شعبيا لرئاسة الحكومة أو تولى إحدى الحقائب الوزارية على أقل طلب متواضع. على أن الحقيقة أن الرجل لم يكن أبدا من وجوه الإصلاح لا للتعليم أو غيره، بقدر ما كان واحدا من وجوه مبارك فى إهدار و«شفط» ثروة مصر، والتربح من مواردها، باستغلال النفوذ والتواجد فى دائرة السلطة القريبة. نشأ بدراوى وعلا نجمه فى أروقة الحكم والثروة، ليس من باب التعليم والخدمة العامة، بقدر ما كان من باب التربح من بيع أراضى الدولة، كغيره من رموز المخلوع، سليمان وسرور والشريف والشاذلى والعادلى وطابور طويل من وزراء ونواب ومسئولين وضباط وقضاة ورجال أعمال، بل إن بدراوى كان له السبق فى عمليات التربح التى ورثها عائليا، ويكفى أنه ضيع على الدولة فى صفقة واحدة 1.7 مليار جنيه بالتمام والكمال بالأسعار. عرفت عائلة بدراوى لعبة تخصيص أراضى الدولة مبكرا، وربما سبقت فى ذلك عددا من رجال الأعمال الذين يقفون اليوم أمام جهاز الكسب غير المشروع مطالبين برد الملايين الحرام. ولم يكن الباب المشرع وراء السعى للاستحواذ على مساحات هائلة من الأراضى بغرض إنشاء مجمعات تعليمية وخدمية على أحدث الطرز التى تعلمها بدراوى فى الخارج، بل كان الاستثمار العقارى لإقامة المنتجعات والفيلات الفاخرة، تلك التى تحمل دائما لافتة «للأثرياء فقط». البداية عام 1994، وتحديدا فى 20 يوليو، وهو اليوم الذى حصل فيه حسن بدراوى بدراوى وكيل مؤسسى شركة المصرية العربية للتعمير من هيئة المجتمعات العمرانية تحت وصاية الوزير إبراهيم سليمان على 60 فدانا فى مدينة 6 أكتوبر لإنشاء حى سكنى متميز باسم حى الورود، ثم منحه فى اليوم نفسه 50 فدانا أخرى فى الشيخ زايد بغرض إنشاء منتجع سكنى متميز باسم حى الندى لنفس الشركة التى آلت إلى حسام وذويه، ولاحظوا أن الشركة التى حصلت على 110 أفدنة فى ساعة من نهار كانت تحت التأسيس وقتها وغير موجودة فعليًا وقانونيًا على الأرض. وحصلت شركة بدراوى «الأب» على القطعة الأولى بسعر 55 جنيها للمتر، والثانية بسعر 50 جنيها فقط، بإجمالى 3 ملايين و465 ألف جنيه للمساحة الأولى، و10 ملايين و500 ألف جنيه للقطعة الثانية فقط. ولك أن تعرف ضخامة أثر الصفقة فى أرصدة بدراوى وشركته إذا علمت أن إجمالى ثمن الأرض يقل كثيرا عن ثمن أى وحدة سكنية حاليا فى تلك الأحياء الفندقية التى تربحت عائلة بدراوى من ورائها مئات الملايين. ويواصل حسام السير على درب الأب، ويحصل على قرار تخصيص 150 فدانًا فى منطقة المستثمرين الشمالية بمدينة 6 أكتوبر للشركة المصرية العربية للتعمير فى 2007 مقابل 50 جنيها للمتر فى الوقت الذى كان سعره الأصلى بالسوق ثلاثة آلاف جنيه، ورغم قرار مجلس الوزراء بإبطال التخصيص وطرح الأرض بالمزايدة فى العام التالى 2008. لكن خطة بدراوى لم تكن إنشاء منتجعات أو أحياء سكنية فاخرة، بل جنى الأرباح السريعة من بيع الأرض فور التخصيص، ولم يكتف بالاستحواذ على الأرض بهذا الثمن البخس، وراح يحرر عقود تنازل إلى الشركة المصرية العربية للمبانى الحديثة والتعمير لصاحبتها منى عبودة وبعض شركائها بطريق التخارج، مقابل 400 مليون جنيه، فور استلام الأرض، واستطاع بنفوذه إلزام هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة بالاعتراف بعقود التنازل رغم عدم استغلال الأرض فى الأغراض المنصوص عليها فى عقد التخصيص ومن ثم وجوب سحب الأرض. ولم يكن من المالكة الجديدة إلا أن تجاهلت حق الدولة فى أقساط الأرض البخسة، ولم تسدد مليمًا واحدًا من تلك الأقساط المتأخرة على بدراوي، وكتبت شيكات دون رصيد بقيمة 200 مليون جنيه، اضطرت وزارة الإسكان بعد تراخ طويل إلى رفع قضايا ضدها وحصلت على أحكام بحبسها وشركائها بعد قرار من اللجنة العقارية بسحب الأرض. وفى 28 أكتوبر 2007 حين تم إسناد بيع قطعة الأرض رقم 19 بمنطقة التوسعات الشمالية للشركة المصرية العربية للتعمير على مساحة 150 فدانًا بسعر 266 مليونًا و227 ألف جنيه على أن يكون تاريخ الاستلام فى 29 يونيو 2008، وبتاريخ 17 نوفمبر 2008 وافقت اللجنة العقارية الرئيسية لجلستها رقم 53 على تنازل الشركة المصرية عن الأرض إلى الشركة المصرية العربية للمبانى الحديثة والتعمير. وبتاريخ 29 أكتوبر 2009 تم التعاقد بين هيئة المجتمعات العمرانية والشركة الجديدة بنظام سداد 10 % مقدم وفترة سماح 3 سنوات وسبعة أقساط سنوية بعدها مع إضافة سعر الفائدة المعلن من البنك المركزي.. ومنذ ذلك التاريخ والهيئة تخاطب الشركة لسداد الأقساط المتأخرة لكنها ترفض. وكشف تقرير للجهاز المركزى للمحاسبات عن أن تخصيص ال150 فدانًا عن طريق المزايدة بالأظرف المغلقة شابه مخالفات حيث تنازلت الشركة الأولى للثانية عن الأرض قبل إبرام العقد الابتدائى ما ترتب عليه إضرار متعمد بالمال العام ما أمكن حصره منه 609 ملايين و180 ألف جنيه، تتمثل فى فروق أسعار نتيجة عدم فسخ التعاقد وإلغاء التخصيص لعدم سداد مستحقات الدولة ولقبول الهيئة للتنازل بالمخالفة للقانون واللوائح وكذا مقابل الإشغال المستحق من تاريخ الاستلام حتى تاريخ التقرير فى 18 مايو 2014، فى ضوء عدم قيام اللجنة العقارية الرئيسية باعتماد توصية اللجنة الفرعية لجهاز 6 أكتوبر بفسخ التعاقد وإلغاء التخصيص فى 27 اكتوبر 2013. واكتشف الجهاز عملية تحايل فى إجراءات التخارج التى قام بها بدراوى حتى لا يكون التنازل صريحا باع بدراوى الأرض لإماراتى مقابل 100 مليون جنيه، على أن يسدد الإماراتى باقى الثمن لجهاز أكتوبر وبدخوله شريكا يتخارج «بدراوي» مع بقاء اسم الشركة حتى لا يتم سحب الأرض فيما اتبع الإماراتى نفس الأسلوب بالتنازل إلى منى أحمد عبودة. ورصد الجهاز مخالفات أخرى منها موافقة اللجنة العقارية الرئيسية فى 17 نوفمبر 2008 على تنازل الشركة المصرية العربية للتعمير عن الأرض إلى الشركة المصرية العربية للمبانى الحديثة قبل إتمام التعاقد الذى يثبت التزامات الطرفين بالمخالفة للمادة 15 من قانون الهيئة. كما لم تقدم الشركة المتنازل إليها إقرارا بقبول الالتزامات بالمخالفة للمادة 23 من اللائحة العقارية، كما تم التخارج من حسام بدراوى وذويه إلى خاطر مسعد وهو سويسرى الجنسية ومنى محمود عبود محمود ثم تخارج آخر من خاطر مسعد إلى منى عبود ونرمين وريم محمد رأفت وحسام الدين محمد عبدالرحمن مما يعتبر بيعا للأرض دون الرجوع لهيئة المالك الأصلى والقانونى حتى الآن بالمخالفة للمادتين 10 و15 من قانون الهيئة والمادة 21 من اللائحة مما أضر بالمال العام وأهدر فى هذا البند وحده 245 مليونًا بمراعاة سعر المثل فى بيع مساحة 3010 فدادين لشركة «بالم هيلز» فى نفس تاريخ التعاقد 27 مارس 2008. ولم يدفع بدراوى مقابل الاشغال بنسبة 0.5 % سنويا من قيمة البيع ما ترتب عليه إهدار 7.76 مليون جنيه، إلى جانب عدم طلب استصدار تراخيص المبانى بنسبة 50 % من المشروع على الرغم من استلام الأرض فى 29 يونيو 2008 بالمخالفة لكراسة الشروط والمواصفات التى تتضمن استصدار التراخيص خلال 6 أشهر من تاريخ أمر الإسناد فى 30 أبريل 2008.. إلى جانب قيام الشركة بتنفيذ 2.3 % فقط من المرافق الفرعية رغم قيام جهاز المدينة بتنفيذ نحو 6 % من المرافق الرئيسية بالمخالفة للاستفسارت الواردة بالعطاء المقدم منها والتى تشير إلى تزامن تنفيذ المرافق الرئيسية مع المرافق الفرعية علما بأن النسبة المحددة لتنفيذ المرافق أقل مما يجب على النحو الوارد بالتقرير. وفى خطوة تؤكد النية المبيتة للتربح من بيع الأرض، لم يلتزم بدراوى باستصدار القرار الوزارى باعتماد التخطيط والتقسيم خلال 9 أشهر من تاريخ أمر الإسناد تنتهى فى 30 أبريل 2008 فيما صدر القرار بتاريخ 11 نوفمبر 2009، وقيام الشركة ببيع 550 على الأقل من الوحدات 42 % منها لأعضاء نادى القضاة و%8 لأعضاء الرقابة الإدارية قبل اكتمال التنفيذ دون الرجوع للهيئة بالمخالفة للمادة الثانية من القرار الوزارى باعتماد التخطيط والتقسيم والبند 11 و12 من عقد البيع المحرر فى 29 أكتوبر 2009. وأكد التقرير عدم تناسب الملاءة المالية للشركة المتنازل إليها مع القيمة البيعية للأرض، حيث إن رأس المال المصدر والمدفوع لأى تجاوز 22 مليون جنيه، فيما أن قيمة البيع الأصلية دون فوائد تقسيط وغرامات تأخير وصلت إلى 226 مليون جنيه، وهى تمثل 8.3 % من قيمة الصفقة، بالمخالفة لموافقة اللجنة العقارية الرئيسية بالهيئة بحلول المتنازل إليه محل المتنازل فى جميع الالتزامات والشروط. وسجل التقرير عدم اعتداد المجموعة الوزارية لفض منازعات الاستثمار بخطاب نائب أول رئيس الهيئة بتاريخ 20 أبريل 2013 بشان مخالفة الشركة للمادة الثانية من القرار الوزارى رقم 451 لسنة 2009 باعتماد التخطيط، وبنود التعاقد، لتسليمها الوحدات قبل اكتمال التنفيذ وذلك لعدم نظر تظلم الشركة بشأن فترة السماح ومدة التنفيذ وبداية سداد الأقساط وحساب الفوائد وتوصيل المرافق وما استتبعه من صدور موافقة المجموعة الوزارية لفض المنازعات تتضمن مزايا لصالح الشركة دون النظر للمخالفات التى ارتكبتها. ورصد التقرير وجود مخالفة فى اختلاف المساحة الواجب بناؤها بين الوارد بالقرار الوزارى باعتماد التخطيط والمعاينة على الطبيعة مما يشير الى قيام الشركة بارتكاب مخالفات فى البناء تراوحت بين 65 مترًا مربعًا فى أحد النماذج و102 أمتار فى نموذج آخر. ومن مفاجآت الصفقة فقدان المظروف المالى والفنى المقدم من شركة بدراوى ضمن المزايدة رقم 524 على الأرض فى 2007، حيث أفاد مهندس المشروع باختفاء المظروف.. ومن المفارقات قيام هيئة المجتمعات العمرانية جهاز 6 أكتوبر بالرد على خطابات والتعامل مع رئيس نادى القضاة بشأن إثبات جدية الشركة فى تنفيذ مشروع جاردن هيلز وأحقيتها فى تسويق الوحدات. ورصد تقرير جهاز المحاسبات عدم التنسيق بين إدارات جهاز 6 أكتوبر وعلى الأخص الإدارة المالية والعقارية والقانونية بالنسبة لتحصيل مستحقات الدولة نتيجة ارتداد معظم الشيكات الآجلة لعدم كفاية الرصيد ما ترتب عليه إهدار للمال العام بلغ ما أمكن حصره بمعرفة الإدارة المالية للجهاز 808 ملايين جنيه و570 ألفا، وأوصى فى ختام التقرير بإحالة الملف إلى النائب العام لخطورة ما جاء به من مخالفات وإهدار للمال العام على مدار سبع سنوات بشكل متعمد تجاوزت خسائره على الدولة نحو مليار و700 مليون جنيه، فى صحة أمين الحزب الوطنى الحالم بالعودة للوزارة بعد ثورتين على حزبه ونظامه.■