بعيدًا عن التفسيرات التطبيلية، والتشنج الإعلامي، وبمنأى عمن قال إن عزوف قطاع كبير من الشعب عن المشاركة فى انتخابات البرلمان يرجع إلى أن الناس اكتفوا بالرئيس عبدالفتاح السيسي، مشرعًا ومراقبًا ورئيسًا، ورفضًا لمنهج كيل الشتائم على الشباب الذى «شد اللحاف»، واكتفى بموقعى التواصل الاجتماعي، يجب أن نعترف بأن «فيه حاجة غلط». المشهد أوضح من واضح، هناك شعب ثار على نظامين فأسقطهما طلبًا للحرية، وليس لرغيف العيش فحسب، اصطف طوابير طويلة أمام اللجان، قال «لا» أحيانًا، و«نعم» فى حين آخر، انحاز إلى خيارات خاطئة أو صحيحة، ليس الوقت وقت التقييم، لكنه كان فى كل الاستحقاقات يقف أمام اللجان «من النجمة» يدافع عن خياراته، ويحاول فرض كلمته، بعد سنوات طويلة من السلبية والتهميش والجلوس على مقاعد المتفرجين.. وفجأة عاد الشعب إلى مقاعده.. لم يأت إلى «العرس الديمقراطي»، كأن الأمر برمته لا يعنيه. تفاصيل المشهد تعيدنا إلى عام 2010 ما قبل ثورة يناير، وتحديدًا إلى آخر برلمان للمخلوع، فوقتها ترك المصريون للحزب الوطنى «الجمل بما حمل».. لهم برلمانهم «يشبعوا به». هل يشعر المصريون بالإحباط إذن؟ وإذا كان المصريون يائسين بعد ثورتين.. فمن المسئول؟ هل هى الأحزاب السياسية التى لم تنجح فى الاقتراب إلى الشارع بطموحاته وأحلامه وأوجاعه؟ هل كانت الآمال فى الدولة المصرية أكبر من المتحقق؟ نسب التصويت المنخفضة تؤكد أن هناك ما يستحق التوقف أمامه، ما من أحد يريد أن تعود مصر إلى زمن بائد، حيثما كان المواطن فى شأن والدولة فى شأن.. ومن ثم فالمطلوب وقفة، من الدولة أولاً، إذا كانت معنية بأن يكون المصريون فاعلين ومشاركين سياسيًا، وليسوا مجرد أرقام مسجلة فى تعداد السكان. وترد الكاتبة الصحفية والقيادية اليسارية فريدة النقاش على الأسئلة السابقة قائلة: المشهد الانتخابى يبدو متناقضًا، فرغم أن ضعف الإقبال على الانتخابات كان متوقعا نظراً للعديد من العوامل، إلا أن المرحلة الأولى شهدت إقبالاً نسائياً يدعو للفخر وهى ظاهرة لافتة منذ قيام الموجة الأولى للثورة فى 25 يناير وحتى الآن.. ففى الاستحقاقات جميعها سجلت المرأة المصرية حضورًا مؤثرًا، لكن هذا لا ينفى أن الإقبال عامة كان محدودًا. وترى أن هذا العزوف يمثل «جرس إنذار»، واعتراضا صامتا على سياسات اقتصادية واجتماعية لم تنحز للشعب كما ينبغي، وهو الأمر الذى يجب أن يأخذه النظام على محمل الجد، أما فى حال البحث عما وراء الإنذار فإن هناك ضجرًا عامًا، لم يتطور إلى درجة الغضب بعد، والمطلوب فى الوقت الراهن أن نوقف «تدحرج كرة الثلج». وترى النقاش أن حالة الارتباك الشديدة التى صاحبت قوانين الانتخابات ساهمت بشكل أساسى فى إحجام المصريين عن المشاركة فى عملية التصويت. وتضيف أن كلا من قانون مباشرة الحقوق السياسية وقانون تقسيم الدوائر وقانون مجلس النواب قد استهلكت المصريين فى نقاش كبير بشأنها ولم تكن تلك القوانين محل رضا من الأطياف السياسية المختلفة لكنها مع ذلك صدرت. بعبارة أخري.. كانت القوى السياسية فى وادٍ والدولة فى وادٍ. وتقول: وقد ترتب على هذه القوانين عدم معرفة الناخبين بالمرشحين ولا برامجهم ولا حتى دوائرهم الانتخابية لدرجة أن الكثيرين فى دوائر مختلفة كانوا يلجأون إلينا كى نعرفهم بمرشحى الدائرة التى يصوتون بها لأنهم لا يعرفون شيئا عنهم، ولذلك أعتقد أن عدم معرفة الناخب بتلك الأمور هو فى حد ذاته فشل سواء من المرشحين أو من الإعلام الذى أتيحت له مساحات هائلة حتى يخبر المواطن بتلك التفاصيل لكنه فشل. وتؤكد النقاش أن المشهد الانتخابى الحالى اتسم بالتعقيد بسبب القوانين التى كان عليها اعتراضات ومن ضمنها إشكالية الدوائر الانتخابية. وتستبعد النقاش فى ختام كلامها اندلاع ثورة لكنها تقول: لا أحد يمكن أن يجزم باندلاع ثورة قادمة على المدى القريب لكن هذه المؤشرات تدعو الرئيس عبد الفتاح السيسى والحكومة الحالية إلى إعادة النظر فى مجمل السياسات الاقتصادية والاجتماعية وكذلك القوانين المقيدة للحريات، وعلى رأسها القانون الذى يقال إنه لتنظيم التظاهر وهو فى واقعه لمنع هذه الوسيلة للتعبير السلمى عن الرأي. ويرى المهندس ممدوح حمزة أن ما حدث فى المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية إشارة واضحة ورسالة ضمنية بأن الشعب أصبح غير متفاعل مع العملية الانتخابية برمتها وكل ما يحدث على الساحة السياسية حالياً قائلاً: المواطن المصرى استشعر أن نتيجة الانتخابات الحالية محسومة سواء بصوته أو بدون صوته وأن القائمة الانتخابية التى سوف تربح المعركة هى القائمة التى تريدها الدولة. ويقول: لا أعرف لماذا قائمة فى حب مصر؟ من وراءها؟ ولماذا يتم دعمها بهذا الشكل؟ أدرك تماماً أنها ليست قائمة لجهة أجنبية أو للصوص من رجال الأعمال أو للتيار الدينى وكل هذه إيجابيات لكنها فى النهاية قائمة ليست لها صفة شعبية لأن التى وضعتها أجهزة الدولة ولهذا السبب لم يقتنع الشعب بها لأن الشعب لا يريد توجيهًا من الدولة كما أنه لا يريد وجوه الحزب الوطنى مثلما يرفض أعضاء حزب النور والإخوان وكل هذه العوامل كفيلة بالعزوف عن المشاركة، فضلا عن تدهور الاقتصاد والسياسة النقدية وعدم وجود مشروع اقتصادى كبير ذى جدوى حقيقية يستشعرها المصريون. ويؤكد الدكتور حسن نافعة أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة أن حالة العزوف عن التصويت فى المرحلة الأولى من الانتخابات يرجع إلى مجموعة من الأسباب التى يمكن أن نطلق عليها عوامل فنية لكنها ليست فنية بحتة على حد وصفه، نظرا لأنها مرتبطة بعوامل سياسية أبرزها قوانين الانتخابات من ضمنها قانون تقسيم الدوائر السيئ والذى جعل الدائرة الانتخابية ذات مساحة كبيرة تتطلب دعاية ضخمة ووقتًا كبيرا لم يتوافر للمرشحين. ويعرب عن اعتقاده بأن الحكومة وراء ذلك، فهى التى أصدرت تلك القوانين حتى استشعر المواطنون عدم وجود رغبة من الدولة لمشاركة شعبية فى هذا الاستحقاق الانتخابى المهم فى الوقت الذى يراها تفتح كل الأبواب لرجال المال والأعمال وتترك لهم حرية التصرف. ويقول: لقد أدرك المواطن أن الدولة تريد مشاركة عناصر مختارة فى العملية السياسية.. تمد أيديها لمن لديهم النفوذ المالى والعائلى والإعلامي، وعندما استوعب هذه الرسالة كان الموقف الذى اتخذه الناخب حيال هذه الانتخابات والقوانين التى صدرت لمنع أى منافسة حقيقية هو موقف احتجاجى بالعزوف، هذا الموقف ليس مجرد عدم رغبة فى المشاركة لأسباب متعلقة بأوضاع خاصة أو لعدم وجود وقت كاف أو لا مبالاة من الناخبين ولكن كنوع من أنواع الإنذار وكارت أحمر بلغة المباريات الرياضية. والرسالة هذه المرة للرئيس السيسى نفسه من الناخب فى الجولة الأولى من الانتخابات مفادها أن المصريين ليسوا راضين عما يحدث. فى السياق ذاته يصف الكاتب الصحفى عبدالله السناوى رد فعل الناخبين إزاء العملية الانتخابية فى المرحلة الأولى برسالة احتجاج تجاه الأوضاع السياسية والاقتصادية للبلاد تستحق التوقف أمامها طويلا واستيعابها، مطالباً الرئيس السيسى بفتح مجال العمل السياسى للجميع وتقوية الأحزاب ودعمها وبناء دولة ديموقراطية حديثة قادرة على مواكبة التحديات الاجتماعية والأزمات الاقتصادية للخروج بمصر من عنق الزجاجة. ويشدد على أهمية البحث عن أسباب عزوف الشباب عن صناديق الاقتراع، خاصة أن نسب التصويت فى أغلب الاستحقاقات الماضية كانت تتجاوز ال 50% والعزوف بعد ثورتين كبيرتين يعنى أن هناك مشكلة ينبغى إيجاد حلول لها فى أسرع وقت ممكن على حد قوله.