قبل أن يبدأ وزير الخارجية الأمريكى «جون كيرى»، جولته بالشرق الأوسط، الأحد الماضى (انطلاقًا من القاهرة).. كان أن التقى «مسئول كبير» بوزارة الخارجية الأمريكية، الصحفيين المرافقين ل«كيرى»، لشرح أهداف الزيارة.. كان المعلن - بشكلٍ مسبق - أن الزيارة تتعلق - فى المقام الأول - ب«المشهد العراقى».. لذا، كان أن بدا على عددٍ منهم «عدم الإدراك الكامل»، لأن تكون «القاهرة»، هى محطة «وزير الخارجية الأمريكى» الأولى (؟!) وقتها، قال الرجل: «لدينا مع القاهرة، علاقات «ثنائية» طويلة الأمد، بُنيت على عدة ركائز.. صحيح أنها تمر بمنعطف حرج، فى الوقت الراهن.. لكن، لدى الولاياتالمتحدة - أيضًا - مخاوف جدِّية حول البيئة السياسية، هناك.. لذلك، كان أن دعت واشنطن مرارًا السيسى، والقادة العسكريين المصريين، لوضع البلد - مرة أخرى - على طريق الديمقراطية».
وأردف: «تشمل المخاوف الأمريكية: قانون حق التظاهر، وعدم وجود مساحة كافية للمعارضة، وأحكام الإعدام الجماعية، فى حق عناصر وقيادات الإخوان.. فبعض التكتيكات التى تستخدمها «الحكومة المصرية» لمعالجة القضايا الأمنية، ستؤدى إلى مزيد من الاستقطاب، وهو ما لن يدعم الاستقرار بشكل شامل».. وكان هذا الأمر - على حد وصفه - هو السبب «الرئيسى»، فى عدم مشاركة كبار مجلس الوزراء بالولاياتالمتحدة، فى حفل تنصيب السيسى هذا الشهر (!)
وبعبارات «شبه توجيهية»، تابع الرجل: «سوف يصر كيرى فى لقاءاته على أن الولاياتالمتحدة لاتزال بحاجة لرؤية العودة لسيادة القانون فى مصر، حتى تتحسن العلاقة بين البلدين.. فالعلاقة معقدة، وتحتاج إلى موازنة بين المصالح المختلفة.. لذلك، كان هذا هو الوقت المناسب، لزيارة وزير الخارجية الأمريكى، لاستكشاف هذه المصالح المشتركة».
وبالتزامن مع الزيارة، نفسها.. كان أن أعلن «مسئولون أمريكيون»، أن واشنطن أفرجت عن 572 مليون دولار من المعونة المخصصة لمصر - قبل نحو عشرة أيام - بعد حصولها على الضوء الأخضر من الكونجرس.. وهو ما يبدو معه أن ثمة «تحولا نوعيا» فى موقف الولاياتالمتحدةالأمريكية، من النظام الجديد فى مصر.. فإلى أى مدى يمكن أن نعتبر أن هناك تحولاً «فعليًّا» فى مواقف «واشنطن»، يمكن التأسيس عليه مستقبلاً (؟!)
(1)
فى 29 أبريل الماضى.. كان أن قرر السيناتور «پاتريك ليهى»، رئيس اللجنة الفرعية للمخصصات بمجلس الشيوخ الأمريكى، التى تشرف على المساعدات الخارجية (ديمقراطى من ولاية فيرمونت)، تجميد طلب الإدارة الأمريكية، بالموافقة على منح 650 مليون دولار أمريكى من المساعدات العسكرية لمصر.. وقال الرجل، فى تبرير قرار التجميد، إن اللجنة بحاجة إلى أن تلمس «أدلة مقنعة» على التزام الحكومة المصرية بسيادة القانون».. وكان أن ساند موقفه - حينذاك - مجموعة من أعضاء الكونجرس، ينتمون لكلا الحزبين: الجمهورى، والديمقراطى (!) لكن.. يمكننا - هنا - ملاحظة، أن قرار التجميد هذا، جاء عقب 24 ساعة فقط، من الحُكمين «الجنائيين» القاضيين، بإعدام عدد من المنتمين لجماعة «الإخوان» على خلفية قتل اثنين من رجال الشرطة.. وكان الحُكمان تكئة جديدة، استغلتها «واشنطن» إعلاميًّا، على نطاق واسع، للضغط على الحكومة المصرية، بأن ثمة تحركات متنوعة من شأنها تقييد الحريات، وقمع المعارضة، خاصة بعد صدور حكم بالسجن ثلاث سنوات على عدد من النشطاء.. فضلاً عن حظر «حركة 6 أبريل»، قضائيًّا(!)
إلا أن هذا القرار حظى، وقتئذ، بعدد من التحفظات البحثية «الخجلة»، إذ كتب الباحث الأمريكى «إريك تراجر» - زميل «واجنر» بمعهد واشنطن - تحت عنوان «استئناف المساعدات العسكرية لمصر: ضرورة إستراتيجية»:
«على الرغم من أن حجب المساعدات قد أجبر مبارك - فى بعض الأحيان - على تغيير نهج سياسته، فإن هذه الأداة لن تعمل الآن بشكل فعال، كما كان عليه الوضع من قبل، نظرًا لأن طبيعة الدولة المفككة (كان هذا قبل إعلان فوز السيسى بالانتخابات الرئاسية)، تعنى أن كل مؤسسة تمارس سيطرة قليلة خارج نطاق نفوذها.
فعلى سبيل المثال، يتمتع الجيش الآن بتأثير ضعيف على السلطة القضائية، ولذلك، لا يمكن التراجع عن أحكام الإعدام التى أصدرتها المحكمة مؤخرًا ضد المئات «من المتهمين»، إذ من المرجح أن يخفف معظمها فى النقض».
وأردف «تراجر»: فى ظل هذه الظروف، يمكن أن تؤثر المساعدات العسكرية الأمريكية بشكل أكيد على شىء واحد فقط، ألا وهو: السلوك الخارجى للجيش المصرى.
ورغم ذلك، يمكن أن يهدد حجب المساعدات من قدرة واشنطن على ضمان تعاون مصر على المدى الطويل.. وأحد أسباب ذلك، هو أن روسيا تحاول توسيع نفوذها فى الشرق الأوسط من خلال بيع الأسلحة إلى القاهرة، كما أن العديد من دول الخليج العربى - التى أرسلت مساعدات بمليارات «الدولارات» للحفاظ على استقرار الحكومة المصرية الحالية - تدعم بقوة الجهود التى تبذلها موسكو.. لذلك سيؤدى حجب المساعدات - الآن - إلى بعث رسالة مربكة للغاية بشأن الأولويات الإستراتيجية لدى واشنطن.. ومن المحتمل أن تخسر الولاياتالمتحدة أيضًا فوائد استراتيجية أخرى فى حالة حجب المساعدات، بما فى ذلك حقوق التحليق فى سماء مصر والمرور «المميز» عبر قناة السويس.
وأخيرًا - والقول ل«تراجر» - فإن الحكومة المصرية التى تتولى شئون البلاد حاليًّا قد تغدو أكثر تماسكًا بعد بضعة أشهر من الآن، عندما يتقلد وزير الدفاع السابق «عبدالفتاح السيسى» مقاليد الحكم، ويصبح رئيسًا للبلاد كما يُرجح.. وفى ظل هذه الظروف، فإن استخدام المساعدات العسكرية لتمهيد الطريق أمام مناخ سياسى «أكثر تقدمًا» قد يؤدى إلى إحداث فرق.. ولجميع هذه الأسباب، يجب أن يكون وزير الخارجية الأمريكى «جون كيرى»، مستعدًا لاستخدام الخيارات المتاحة له لضمان استمرار المساعدات.
(2)
كان لما نبَّه إليه «تراجر» أثره المهم فى تقريرٍ تالٍ، وضع - مؤخرًا - أمام الإدارة الأمريكية.. لكن ما يُهِمنا هنا - وهو ما سيؤكد عليه التقرير الذى سنستعرضه لاحقًا - أن التغير «النسبى» فى موقف الولاياتالمتحدةالأمريكية، لم يكن نابعًا عن قناعة تامة، بقدر ما هو لجوء لاستراتيجية (تقليل الخسائر)، مع النظام المصرى الجديد، عقب الإطاحة الشعبية بحليف واشنطن (جماعة الإخوان) من الحكم - بدعم من مؤسسات الدولة - فى 3 يوليو الماضى.
لذلك - ومنذ اللحظة الأولى للإطاحة بحكم الإخوان فى مصر - كانت واشنطن حريصة على الاحتفاظ بعدد من أوراق الضغط «السياسية» فى يدها، تحسُّبًا لأى تغيرات مستقبلية، فى الموقف المصرى. بعض هذه الأوراق (قديم)، تم تحديثه، مثل ورقتى: (حقوق الإنسان، والحركات الاحتجاجية).. وبعضها تم استحداثه تأسيسًا على توظيف «وسائل الميديا» فى حشد الجماهير، عند الضرورة، وتضخيم أزمات المجتمع المصرى الداخلية، أمام وسائل الإعلام الغربية فى المستقبل، إذ بدأت «الولاياتالمتحدة»، منذ فترة وجيزة، فى توجيه دعمها، لتدريب عدد من السينمائيين على ما أطلق عليه «سينما الموبايل»، وآليات صناعة الأفلام التسجيلية والوثائقية (يمكن إضافة هذه النقطة لحيثيات قرار إنشاء وزارة خاصة ب«العشوائيات»، باعتبارها أحد مصادر الأزمات الرئيسية داخل المجتمع المصرى).
وتزامنًا، مع حرص وزير الخارجية الأمريكى «جون كيرى» على الالتقاء وممثلى منظمات المجتمع المدنى فى مصر، يوم الأحد الماضى (استغرق اللقاء نحو 35 دقيقة، سأل خلاله «كيرى»، عن دور منظمات المجتمع المدنى فى مصر، وقنوات الاتصال بينها وبين الحكومة المصرية، ورأى تلك المنظمات فى مجموعة القوانين المتعلقة بحقوق الإنسان وقانون التظاهر).. كان أن واصلت المعاهد الأمريكية، المدعومة استخباراتيًّا، مثل «المعهد الديمقراطى الأمريكى» - وفقًا للمعلومات «الدقيقة» المتاحة أمامنا - سعيها، لجذب المزيد من القطاعات الشبابية، للتدريب على آليات التأثير فى الرأى العام المصرى (عاد آخر وفد شبابى تم تدريبه بمعرفة المعهد فى «تركيا»، أمس الأول «الخميس»).. فضلاً عن إعادة توثيق الصلات بين هذه القطاعات والمركز الدولى للنزاعات غير العنيفة، أو:
International Center for Non-Violent Conflict »
الذى دعم «حركة كفاية»، بشكل قوى، منذ تأسيسها بالعام 2004 م.
وفى هذا السياق، أيضًا، يمكننا أن نضع جنبًا إلى جنب، ما أشَّرَ إليه عدد من الأوراق البحثية، الصادرة عن مؤسسة (كارنيجى) - أحد المبشرين الرئيسيين بحكم الإخوان لمصر، منذ النصف الثانى من عقد الألفينيات الأول - إذ صبت هذه الأوراق جُلَّ جهدها للتأصيل إلى أن مصر، تتجه نحو الحكم الديكتاتورى، منذ اليوم الأول، لإعلان «السيسى» رئيسًا للبلاد (!) .. فكان أن كتبت «ميشيل دن» - باحثة أولى فى برنامج كارنيجى للشرق الأوسط، تتركّز أبحاثها على التغييرات السياسية والاقتصادية فى البلدان العربية، خاصة مصر - بتاريخ 5 يونيو الجارى، أنه بعد أن أصبح المشير «عبدالفتاح السيسى»، الرئيس الرابع لمصر فى غضون سنوات قليلة.. تواجه الولاياتالمتحدة خيارات سياسية مؤلمة، إذ تنزلق مصر، (حليفها القديم)، إلى الحكم السلطوى فى أعقاب محاولة فاشلة للتحوّل الديمقراطى.. ومع ذلك من المستبعد أن يجلب تجدّد هيمنة الجيش الاستقرار نظرًا إلى المشاكل الاقتصادية الحادّة التى تواجهها البلاد، وانتهاكات حقوق الإنسان، والاستقطاب الاجتماعى والتعبئة الشعبية (!).. والواقع أن الأوضاع الأمنية والاقتصادية تدهورت بشكل ملحوظ منذ أن أطاح الجيش بالرئيس المدعوم من الإخوان المسلمين، محمد مرسى، فى تموز/يوليو .2013 وبالتالى، تتفاقم مشاعر الاستياء العام، والاضطراب السياسى ربما يكون وشيكًا(!)
وأضافت «ميشيل» فى ورقتها البحثية المعنونة ب«إستراتيجية أمريكية تجاه مصر فى عهد السيسى»: يجب على الولاياتالمتحدة ألا تمنح السيسى وحكومته دعمًا غير مشروط، لأن العمل بشكل وثيق مع (الحكومات المصرية القمعية!)، فى الماضى أدّى إلى نتائج سيئة، وولّد موجة عداء واسعة للولايات المتحدة.. وبدلاً من ذلك، يتعيّن على واشنطن إعادة تركيز جهودها الدبلوماسية على دعم الشعب المصرى، على أن تقتصر علاقاتها مع السيسى وحكومته على المصالح الأمنية الأساسية.
وأوصت بتحويل الجزء الأكبر من المساعدات - مليار دولار على الأقل من مبلغ 5,1 مليار دولار الذى يقدم سنويًّا - إلى واحد أو اثنين من «البرامج الكبرى»، التى تستهدف المواطنين بصورة مباشرة (!)، ودعم إعادة فتح الفضاء السياسى والمجتمع المدنى، من خلال تعزيز المساعدة المقدمة إلى المجتمع المدنى والمنظمات الحقوقية المطوّقة.. إلى جانب وضع إستراتيجية سياسية مشتركة مع أوروبا، والعمل معها لإقناع الحلفاء فى الخليج وإسرائيل لدعم - أو على الأقلّ عدم تقويض - التنمية البشرية والنمو الاقتصادى الشامل (بدلاً من الهيمنة
العسكرية)، باعتبارها مفتاحا للاستقرار الدائم فى مصر (!)
وانتهت «دّن» للقول، بأن استمرار العلاقة التى تهيمن عليها «المساعدات العسكرية»، التى تأسّست فى سبعينيات القرن الماضى، لن يسهم إلا فى زيادة حجم المشاكل المصرية، وزيادة مساحة التطرف (!).. لذا، فإن تقديم الدعم الأمريكى للشباب والمجتمع المدنى، سيساعد على خلق كادر أكثر تعليمًا واستنارة بين المصريين، يمكنه التعامل على نحو أكثر اقتدارًا وإبداعًا مع (الموجة المقبلة من التغيير السياسى والاجتماعى)، عندما تأتى (!).. وسيكون هذا استثمارًا أكثر حكمة.
(3)
تعكس، إذًا، العديد من الأوراق البحثية الأمريكية - ورقة «ميشيل دّن» نموذج - أنَّ ثمة اتجاها أمريكيا «مبكرا» للتربص بعملية التحول الديمقراطى فى مصر، وفق النهج الذى ترتضيه الدولة المصرية (بما فى ذلك مؤسساتها المختلفة)، لا ما ترتضيه الولاياتالمتحدةالأمريكية، نفسها.. وأن ثمة تحركات «استباقية»، لوضع النظام المصرى الجديد، هدفًا لعمليات جديدة من (التثوير) - اشتقاقًا من الثورة - اعتمادًا على برامج متنوعة، تستهدف فى المقام الأول «القطاعات الشبابية»، وفقًا لدعاوى: «الإصلاح الديمقراطى»، و«الإصلاح التعليمى».. وهى استراتيجية ليست جديدة فى حد ذاتها، إذ بدت مؤشراتها - بشكل صريح - خلال خطاب الرئيس الأمريكى «باراك أوباما» بجامعة القاهرة فى العام 2009م.
وبالتالى.. إن كان باب «التثوير» لا يزال مفتوحًا، أمام عدد من مقترحى السياسات الأمريكيين، إذا ما اقتضت مصالح الولاياتالمتحدةالأمريكية الإستراتيجية بالشرق الأوسط ذلك.. يمكننا أن نستوعب، لماذا سارع عدد من نشطاء المراكز البحثية الأمريكية، بعدم إمهال النظام المصرى الجديد، أى فرصة لإثبات حسن نواياه نحو التحول الديمقراطى، وتصنيفه بشكل «متسرع» كنظام قمعى، منذ اليوم الأول، لدخول «السيسى» قصر الاتحادية.. إذ لا يمكن أن تؤتى هذه التحركات أُكلها، إلا عبر تصدير و(ترسيخ) صورة «سلبية» - دوليًّا ومحليًّا - عن هذا النظام.
ومن ثمَّ.. وعقب 24 ساعة فقط، من نشر «ميشيل دّن» لورقتها البحثية، ضمن أوراق «مؤسسة كارنيجى»، كان أن انضمت «دّن»، لكل من : «إريك بيورلند»، رئيس «مؤسسة الديمقراطية الدولية»، و«إريك تراجر»، بالمنتدى السياسى ل«معهد واشنطن»، لإصدار ورقة مشتركة، تحت عنوان : «نحو عهد السيسى: صفحة جديدة فى العلاقات بين الولاياتالمتحدة ومصر؟»، صبَّت - فى مجملها - نحو ترسيخ صورة ذهنية، مغايرة تمامًا، لما يمكن مشاهدته - خلال اللحظة الراهنة - بمصر (!)
قال «إريك بيورلند»: شهد الأسبوع الذى سبق الانتخابات الرئاسية فى مصر انتشار المراقبين الدوليين فى جميع أنحاء البلاد، حيث اطّلعوا على آراء المواطنين حول العملية الانتخابية. وبصورة إجمالية، بلغ عدد المراقبين 86 شخصًا مثّلوا 17 دولة مختلفة، وتوزعوا على خمس وعشرين محافظة من محافظات مصر السبع وعشرين.
وعادة ما يُطلب من مراقبى الانتخابات توخّى الحياد واحترام القوانين المحلية؛ لذلك لا ينبغى اعتبار وجودهم بمثابة (مصادقة على العملية!).. ففى هذه الانتخابات - على وجه التحديد - اعتمد المراقبون نظامًا مبتكرًا لجمع المعلومات، شمل إدخال البيانات لحظة استقائها على أجهزة «لوحية» محمولة.. وعلى ضوء ما تم التوصل إليه من (استنتاجات محلية)، والتى لم تُشر إلى نسبة إقبال كبيرة، لا تبدو نسب الناخبين التى أبلغت عنها الحكومة موضع ثقة (!) .. وفى يوم الانتخابات نفسه جرى فرض العديد من القيود التى جعلت الأمور أكثر صعوبة من ناحية وصول المراقبين إلى العملية الانتخابية (؟).. وبينما تمكنت بعض الفرق المحلية من نيل التفويض، واجهت فرقٌ أخرى (ذات آراء سياسية معينة!)، عوائق وعقبات إجرائية متواصلة.. كما أن يوم الانتخابات قد شهد حضورًا مكثفًا للقوى الأمنية، شملت الجيش والشرطة وعناصر مسلحة أخرى. وقد رأى المراقبون عددا كبيرا من الأفراد الذين تواجدوا بزى مدنى أو عسكرى داخل مكاتب الاقتراع، ولعبوا دورًا أكثر بروزًا مما هو مستحب (!)
وفى حين قال «إريك تراجر»، إن «واشنطن» تقف - الآن - أمام معضلة، مفادها: إما مواصلة تقديم الدعم العسكرى لدولةٍ تسير باتجاه (نظام استبدادى!)، أو قطع هذا الدعم من أجل تشجيع الاعتماد على نظام ديمقراطى، وأن الأمل فى دفع السياسة المصرية باتجاه أكثر ديمقراطية - فى الوقت الراهن - ضعيفٌ للغاية (!).. لم يخرج ما قالته «ميشيل دن»، عن مضمون تقريرها السابق، بأى حال من الأحوال.
وعلى هذا.. يمكننا - إجمالاً - ملاحظة، أن تلك التقارير والأوراق البحثية، تبنت وجهة نظر «أحادية»، تسعى للدفع - ابتداءً - نحو التشكيك فى واقعية أرقام المشاركة الانتخابية «الحقيقية» بالاستحقاقات الرئاسية .. وتتعامى، بشكل لم يخل من «تعمد» عن أن ثمة تأييدا شعبيا «ظاهرا»، للعديد من التحركات «الرسمية»، التى أعقبت الإطاحة بحكم الإخوان فى مصر.. فضلاً عن الجانب التصنيفى «المتعجل» للنظام الجديد.
وتصب - فى مجملها - نحو ضرورة التمسك بورقتى المنظمات الحقوقية، والحركات الاحتجاجية.. لا دعمًا للتحول الديمقراطى فى مصر، حقيقةً.. لكن، للضغط على النظام الجديد، سعيًّا لإدخاله «الحظيرة الأمريكية» مرة أخرى، إذا ما تحرك لإحداث «توازن إقليمى» جديد، يخصم من الرصيد الأمريكى بمنطقة الشرق الأوسط، عبر التوجه شرقًا.. لكن، لماذا بدا أن هناك تغيرا «نسبيا» فى الموقف الأمريكى، رغم تزايد النبرة التحريضية ضد النظام الجديد (؟)
ربما يجيب عن هذا السؤال، بشكل أكثر وضوحًا، تقرير «تفصيلى»، عرف طريقه لإدارة أوباما، قبل إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية، مباشرة.. كتبه - فى حينه - «مايكل سينج»، المدير الإدارى لمعهد واشنطن.
.. و«سينج»، هو مدير أقدم «سابق» لشئون الشرق الأوسط فى مجلس الأمن القومى الأمريكى.. وخلال فترة ولايته فى البيت الأبيض (2005-2008م)، كان مسئولاً عن وضع وتنسيق سياسة الأمن القومى للولايات المتحدة تجاه المنطقة التى تمتد من «المغرب إلى إيران» وبصفته المدير الإدارى لمعهد واشنطن، يشارك «سينج»، بشكل منتظم، فى «المناقشات» الخاصة، بتوجيه محتوى السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط.. فماذا قال «سينج» فى تقريره، على وجه التحديد (؟) (4)
حمل تقرير «سينج» عنوان: (مصر بعد الانتخابات: تعزيز العلاقة الاستراتيجية)، إذ جاء فيه ما نصه:
يمثل الفوز الذى حققه عبدالفتاح السيسى فى الانتخابات الرئاسية فى مصر التى جرت فى الأسبوع الأخير من أيار/مايو بداية فصل جديد لبلاده، ولكن ليس بالضرورة نهاية اضطراباتها السياسية والاقتصادية. فالسنوات الثلاث الماضية لم تترك مصر مكبلةً بمشاكل محلية وضائقة اقتصادية فحسب، بل أسفرت أيضًا عن زيادة التدهور فى العلاقات الثنائية بين مصر والولاياتالمتحدة. فقد انكفأت القاهرة على ذاتها، رافضة للمشورة أو التأثير، فى حين كانت واشنطن تراقب الوضع فى حيرة. ورغم أن المسئولين الأمريكيين يواصلون وصف العلاقات مع مصر بأنها «استراتيجية»، فإنها فى الواقع أصبحت علاقات نفعية، يتبادل فيها الطرفان احتياجاتهما الضرورية: فالولاياتالمتحدة بحاجة إلى علاقات «إسرائيلية - مصرية» مستقرة وتعاونية، ومرور تفضيلى عبر قناة السويس.. بينما تحتاج مصر إلى المعدات العسكرية والاعتراف الدولى.. وللمفارقة فإن مصر تمتلك (اليد العليا) فى هذه العلاقة على الرغم من مشاكلها، ويرجع ذلك أساسًا لأنها تعتقد أنه يمكنها اللجوء إلى أطراف أخرى لتلبية احتياجاتها على المدى القصير - روسيا لإمدادها بالمعدات العسكرية، ودول الخليج العربى للحصول على مساعدات، والمجتمع الدولى لنيل الاعتراف.. وفى المقابل، ليس لدى واشنطن بديل جغرافى سياسى عن مصر. .. وتحت عنوان فرعى يقول: «التطلع للمستقبل»، ذكر «سينج»: إن استمرار هذا النهج يبدو قصير النظر لكل من الولاياتالمتحدة ومصر.. فالاعتماد العسكرى على موسكو أو بكين، والاعتماد المالى على الجهات المانحة من دول الخليج - أو أى جهة مانحة فى هذا الصدد - على المدى الطويل، سيعرقل عجلة التنمية فى مصر بدلاً من أن يدفعها إلى الأمام.. وبالنسبة لواشنطن، فإن إعادة النظر فى سياسة الولاياتالمتحدة فى التعامل مع كل تحول يجرى فى مصر يبدو أمرًا مرهقًا ويأتى بنتائج عكسية، ولن يؤدى ذلك إلى تنفير المصريين فقط بل سيمتد الأمر لحلفاء آخرين يزعجهم التقلب الأمريكى.. فنجاح مصر كحليف مستقر ومزدهر أمر يصب بوضوح فى صالح الولاياتالمتحدة، مما يضفى أهمية على إيجاد الأدوات التى يمكن أن تؤثر إيجابيًّا على مسار البلاد.
وتابع: إن الأمور التى تتجسد حاليًّا فى مصر ستطول، وستكون إلى حد كبير خارجة عن سيطرة واشنطن. فسياسة البلاد لا تمثل انقسامًا بين الديمقراطية والاستبداد، أو الإسلاموية والعلمانية، وإنما تفاعل بين العديد من القوى الكبرى: (بيروقراطية متأصلة، وجيش مترامى الأطراف، وإسلام سياسى)، وأُضيف له قوة جديدة وقوية وهى: «توقع الشعب للمشاركة السياسية».. فكما هو الحال فى تركيا، وتايلاند، وحالات مماثلة، فإن التفاعل بين هذه القوى لا يسير وفق خط مستقيم نحو نتيجة معينة، بل يسير فى مسار متعرج ومضطرب يتطلب الصبر والاهتمام المتواصل من قبل واشنطن.
ومن المستبعد أن تضع وزارة الخارجية الأمريكية نفسها قريبًا فى موضع تشهد فيه عن سير مصر على طريق الديمقراطية، وبالتالى تمهد الطريق لاستئناف المساعدات العسكرية.. ولا ينبغى أن تكون العودة إلى الوضع السابق - الذى كان قد تدهور على مدى سنوات - هدف واشنطن، ولا القاهرة، بل ينبغى أن يُنظر إلى فوز السيسى باعتباره فرصة لإعادة تعريف العلاقة بحيث يصلح أن يطلق عليها مرة أخرى تسمية «الإستراتيجية».
وبيّن «سينج» خطوط العمل الواجب اتباعها، قائلاً: بمجرد اعتماد نتائج الانتخابات رسميًّا، ينبغى على الولاياتالمتحدة أن تعدل سياستها فى عدة مجالات محورى:
1- التعاون الأمنى: فعلى مدار سنوات عديدة، كان الهدف الدقيق من التعاون الأمنى بين مصر والولاياتالمتحدة غير واضح، ولذلك كانت مقاييس الحكم على نجاحه محيرة. على سبيل المثال، وفقًا لتقرير «مكتب محاسبة الحكومة» الأمريكى الصادر عام 2006 والذى يحمل فى طياته الإدانة، «أكد مسئولون والعديد من الخبراء أن برنامج «المساعدات العسكرية» المقدم إلى مصر يدعم أهداف السياسة الخارجية والأمنية للولايات المتحدة؛ ومع ذلك، فإن «وزارتى الخارجية والدفاع الأمريكيتين» لا تقيّمان كيفية إسهام البرنامج فى هذه الأهداف على وجه التحديد».
لقد ظل برنامج المساعدات العسكرية «على ما هو» دون أن تُجرى عليه تعديلات تُذكر بسبب ثلاثة عوامل: الخوف من أن تلغى القاهرة المرور التفضيلى للقوات البحرية الأمريكية عبر قناة السويس أو تخفّض تعاونها مع إسرائيل؛ والشعور بأنه على العكس، فإن منع المساعدات العسكرية لا يمنح الولاياتالمتحدة نفوذًا كبيرًا على تصرفات مصر؛ بالإضافة إلى حقيقة أن الشركات الأمريكية ستعانى وسيحصل المنافسون الأجانب على مكاسب فى حال إلغاء المساعدات. ورغم أنه يمكن إخضاع كل سبب من هذه الأسباب للنقاش، حتى لو كانت جميع التأكيدات الثلاثة صحيحة، إلا أنها تقدم أساسًا ضعيفًا لأحد أكبر برامج المساعدات العسكرية التى تقدمها واشنطن.
ورغم ذلك فإن هذا لا يعنى القول بعدم وجود مصالح إستراتيجية بين الولاياتالمتحدة ومصر، التى ينبغى أن تكون أساسًا يقوم عليه التعاون الأمنى المثمر. وتشمل هذه المصالح مكافحة الإرهاب، وأمن الحدود، وحرية الملاحة، والحاجة إلى واردات الطاقة الآمنة، واتفاقية السلام المصرية - الإسرائيلية كدعامة للاستقرار الإقليمى.. والشىء الغامض، هو ما إذا كان برنامج المساعدات العسكرية الأمريكية الحالى - الذى يؤكد على منح المعدات الثقيلة ويساهم فى ترسيخ القوة السياسية للجيش المصرى - قد حسّن من هذه المصالح المتبادلة.
وبدلاً من استئناف البرنامج القديم من خلال البدء بمبلغ المساعدات ووضع قائمة تسوّق تتناسب معه، على واشنطنوالقاهرة أن تبدآ بالكتابة على ورقة فارغة، وتصمما برنامجًا للتعاون الأمنى يتوافق مع مصالحهما، ثم يحددان ثمن ذلك فيما بعد.
2- التقدم السياسى وحقوق الإنسان : لقد أسهم الفرح الناتج عن ثورة يناير 2011م، فى جعل المسئولين الغربيين والمصريين - على حد سواء - يعقدون آمالاً غير واقعية بشأن تحول البلاد.. فبينما ينبغى على واشنطن ألا تيأس من الضغط على القاهرة لكى تنتهج مسارًا ديمقراطيًّا، ينبغى عليها أيضًا أن تركز على أهداف واقعية يمكن البناء عليها.. ويجب أن تشمل بعض الأهداف المباشرة ابتعاد الجيش المصرى عن السياسة؛ يتعيّن على السلطات أن تسمح بقيام حملات مفتوحة خلال الانتخابات البرلمانية المقبلة؛ ويجب أن تلعب السلطة التشريعية دورًا قويًّا وأن تكون بمثابة رقيب على السلطة الرئاسية؛ كما يتعينّ على السيسى أن يتعهد بالامتثال بمدد الرئاسة ويفسح المجال أمام تناوب السلطة، الذى سيكون فى حد ذاته خروجًا حادًا عما كان عليه الوضع خلال العقود الستة الماضية من تاريخ مصر.. كما سيكون محل ترحيب من قبل الجميع.
وحتى فى الوقت الذى تضغط فيه واشنطن نحو تحقيق هذه الخطوات الواقعية، عليها أن تواصل الحديث عن حقوق الإنسان والديمقراطية.. ولكن ينبغى ألا يقتصر هذا الدعم على البيانات، بل يجب أن يهدف إلى مساعدة مصر على بناء مؤسسات ديمقراطية - على سبيل المثال، الأحزاب السياسية، ومنظمات المجتمع المدنى، ونظام قانونى عادل يعمل بشكل جيد - لاستبعاد الخيار الزائف بين التطرف والاستبداد.
وعلى واشنطن التأكد قدر الإمكان من أن برامج بناء القدرات لها أهداف واضحة، وأن تقّيم فعاليتها بصرامة، وأن تنسّق بينها بصورة متعددة الأطراف لزيادة تأثيرها.. كما أن عليها توسيع نطاق التوعية والمشاركة من قبل كبار المسئولين الأمريكيين لضمان ألا يتجزأ التواصل مع المجتمع المصرى فى صورة نشاط «''تنموى»'.
3- الاستقرار الاقتصادى والإصلاح : إن من أسوأ الأخطار التى تواجه استقرار مصر - وربما سيادة الحكومة المقبلة - هى حالة البلاد الاقتصادية المتردية. فالتدفق الضخم للمساعدات الخليجية قد ساعد الحكومة الانتقالية على تنشيط الاقتصاد، لكنه حل قصير الأجل فى أحسن الأحوال، بسبب استمرار البطالة والعجز المالى والتجارى، وعدم حل مشاكل الطاقة، ووجود قيود على النمو الاقتصادى، وتوقف نمو القطاع الخاص.
بالإضافة إلى ذلك، جاءت المساعدات الخليجية دون شروط اقتصادية مصاحبة، وبالتالى فإن ذلك لم يسهم فى فرض انضباط مالى على القاهرة بالطريقة التى تقوم عليها المعونة المقدمة من قبل «صندوق النقد الدولى» أو غيرها من المساعدات المتعددة الأطراف، الأمر الذى يجعل أى جهود غربية لربط المساعدات بالظروف الاقتصادية أو السياسية غير مجدية.. وفى الوقت الراهن فضّلت دول الخليج المانحة الاستقرارَ «قصير المدى» وتهميش جماعة «الإخوان» عن أى شىء آخر.
ومع ذلك، فبعد الانتخابات قد يكون حلفاء واشنطن فى الخليج أكثر انفتاحًا على تبنى نهج اقتصادى قائم على التنسيق تجاه مصر.. فلا يمكن أن تنجح مصر اقتصاديًّا على المدى الطويل دون إجراء إصلاح هيكلى كبير يعالج الإعانات الضخمة وغير الفعالة، والقطاع الحكومى المتضخم، وغيرها من المشاكل، إذ تؤثر هذه القضايا أيضًا على الاستقرار السياسى والأمنى عن طريق تأثيرها على النمو الاقتصادى وفرص العمل والتوظيف.
وانتهى «سينج» إلى القول بأنه، لكى تكون العلاقة المصرية - الأمريكية «استراتيجية» حقًا، يجب أن تفهم واشنطن إستراتيجيتها فى المنطقة ومكانة مصر فيها.. ومثل هذه الاستراتيجية ينبغى أن تشمل تقوية التحالفات الثنائية التى ضعفت «لعدة أسباب»، وتأكيد التعاون الأمنى، وتعزيز قدرات الحلفاء، وتعزيز الإصلاح الديمقراطى والاقتصادى على المدى البعيد. (5)
يبدو ما قاله «سينج» فى مجمله، صوتًا عاقلاً، يسعى للحفاظ على مصالح بلاده الاستراتيجية، بالشرق الأوسط.. ووفقًا للسياسة العاقلة، نفسها، علينا أن ندرك - نحن أيضًا - جيدًا، عناصر القوة والضعف فى الموقف المصرى.. فما بدا وكأنه «ركوع» مرحلى، من قبل الولاياتالمتحدةالأمريكية، لا يمكن أن يدوم للأبد، فى ظل وجود العديد من النبرات التحريضية ضد النظام المصرى.. وعلينا أن نتحسب جيدًا، لأى تغيرات مستقبلية «محتملة» فى الموقف الأمريكى. وإن كنّا - وللمرة الأولى - نمتلك اليد العليا، فى صياغة العلاقة الثنائية بيننا وبين الولاياتالمتحدةالأمريكية.. فإن الحفاظ على وجود هذه اليد فى موضعها، لا يتأتى بالهرولة أو الثقة المطلقة، فى صانعى السياسات الأمريكية، إذ أن سياساتنا المستقبلية، يجب أن تحتفظ بالبقاء على «مسافة مناسبة»، تحفظها من الوقوع فى «أسر المصالح الأمريكية» مجددًا.. وهذه المسافة، يجب ألا تقترب من «الخصومة» بقدر اقترابها، من أن تستشعر الولاياتالمتحدةالأمريكية، أنها لم تعد الخيار «الإلزامى» لمصر.. فالحفاظ على سخونة العلاقات مع كل من : موسكووبكين، أمر غاية فى الضرورة، لإحداث هذا التوازن.
لكن.. يبقى فى النهاية، أننا إذا أردنا تحجيم أوراق الضغط الأمريكية (وهى باتت أوراق محدودة، على كل حال)، فعلينا أن نُفرّغ هذه الأوراق من مضمونها، كُليًّا.. عبر اتخاذ عدد من الخطوات «الملموسة»، و«الداعمة» لتأسيس «تحول ديمقراطى» حقيقى، يقف حائلاً أمام حُجج التدخل الأمريكى، بزعم الدفاع عن «حقوق الإنسان»، و«نشر الديمقراطية».ووفقاً لما يتلاءم والمناخ المصرى فى المقام الأول.