على مدار سنوات طويلة تجمع أسرة صباح الخير روح ود وحب وصداقة قد لا تتوافر فى أماكن أخرى وحتى إن تواجدت فإن صباح الخير لها عبق وروح خاصة فى ردهات الجغرافيا.. وصفحات التاريخ للصبوحة عشرات ومئات المبدعين فى كل المجالات انصهروا فى بوتقة ساحرة وبقعة من أجمل بقاع وتجارب الصحافة المصرية. الانصهار فى بوتقة صباح الخير يجعل المسافات الإنسانية أقرب ما يكون بين الساعى وعامل المطبعة والصحفى والإدارى وعامل البوفيه فكلنا ينصهر ويستظل بالصبوحة، وعلى مدار سنوات أجلس مع عبدالعزيز خطاب «أقدم سعاة صباح الخير وروزاليوسف»، وأكثرهم شهرة وتحركا وانبعاجا وصداقة مع كبار الدار على مدار أربعين عاما قضاها ومازال بكل حب وانتماء، ونتذكر سويا المداعبات والطرائف والحواديت والصداقات، خاصة عن صديق عمره حجازى الذى كثيرا ما تواعدنا أن أصطحبه فى زيارة لطنطا، لكن حالت الظروف دون مشاهدة الفنان العظيم الذى لم تنقطع علاقة عبدالعزيز خطاب به، وكان مرسال الحب بينه وبين كل الصحف والمجلات التى عمل بها حجازى على مدار ربع قرن، نعم كان عبدالعزيز هو الرسالة والشفرة البسيطة فى حياة حجازى، الرسام والفنان الذى رفض صداقة كبار القوم ورجال السلطة والأمراء وفضل عليهم البسطاء الذين وجد فيهم ضالته وعودته إلى طبيعته، فكما عاش لهم فى رسومه عاش معهم فى حياته فصادقهم فى غير غرور، وعبر عنهم بكل قوة وحب. نعم إنهم البسطاء والمهمشون، العالم السحرى لهذا البسيط الرائع. مع عبدالعزيز خطاب إحدى شفرات حجازى الإنسانية، نعيش تلك السطور التى تحمل فى معناها مبادئ الرجل التى عاش ومات من أجلها. يقول عبدالعزيز خطاب بعفوية وحب ودموع تسابقه على رحيل رفيق العمر: إن الأستاذ حجازى معرفة قديمة جدا منذ أكثر من ربع قرن حينما أرسلنى ذات يوم الأستاذ لويس جريس رئيس تحرير صباح الخير لإحضار «شغل» من الأستاذ حجازى، بميدان الباشا بالمنيل، وكتب لى العنوان فى ورقة وإن كنت لم أستعملها، فقد ذهبت للعنوان حسب الوصفة! وطرقت الباب وفتح الأستاذ حجازى وعرفته بنفسى، وبعد دقائق كان «ظرف» الشغل فى يدى، وتكرر المشوار أسبوعيا بنفس الميعاد والدقيقة، وبعد شهر قال لى الأستاذ حجازى: يا عبدالعزيز إيه رأيك تشتغل معاى؟! وافقت على الفور دون شروط مؤكدا له أننى تحت أمره فى أى وقت. قال: أنا معاى شغل فى أماكن كثيرة وعاوز حد يساعدنى! لأنه لم يكن هناك إنترنت ولا عنده مدير مكتب ولا ساعى، ولا أى شىء من هذا القبيل. وبدأت رحلة ابن بطوطة فهذا ظرف لكل الناس، وآخر للأهالى، وثالث لصباح الخير، ورابع لماجد، وعلاء الدين، والعالم اليوم، وكوكبة من الإصدارات التى حفظت مواعيدها وأماكن النشر.. ومواعيد القبض والحصول على المقابل المادى، وكان قد أعطانى فى ذلك نسخة من مفتاح الشقة تعطينى حرية التواجد والدخول فى أى وقت، وكانت هناك نسخة أخرى مع أهله بطنطا. وتوطدت علاقتى مع الأستاذ حجازى كما لم تتوطد مع أحد، ولم أشاهد فنانا ولا صحفيا بحسه المرهف وكرمه الشديد وطيبة قلبه، والأهم عزوفه عن الإعلام والشهرة، فكم من وساطات فضائية وإعلامية حاولت جذبه أو محاورته، لكنه رفض. وكان يؤكد لى على الدوام: يا عبدالعزيز أنت مستشارى إيه رأيك فى الشهرة؟ كنت أقول له: كويسة وممتازة. فيرد : إنما لا أهواها ولا أبحث عنها إيه رأيك؟! أرد: خلاص تحت أمرك يا أستاذ حجازى. *فى مستشفى عين شمس يسرد عبدالعزيز سرا لأول مرة حينما دخل الأستاذ حجازى فى غيبوبة بشقته بالمنيل وكان يزوره مصادفة الأستاذ فؤاد قاعود الذى ظل يطرق على الباب مهددا يا حجازى افتح وإلا حكسر الباب.. أخذ يزحف حتى فتح له وفوجئ بالمنظر واتصل بالإسعاف فورا، وطيران على عين شمس التخصصى وأول ما فتح عينيه قال للأستاذ قاعود: أرجوك لا أحد يعرف بس اتصل لى بعبدالعزيز خطاب فقط وأعطاه نمرة منزلى، وفى دقائق كنت تحت قدميه، وأكد على ضرورة التزام السرير فى فترة تواجده بالمستشفى وقد كان عشرة أيام كاملة لم يعرف أحد حتى خرج من المستشفى بسلام الله. * فى شقة المنيل سوف تظل هى الشقة الأشهر فى منطقة الباشا لارتباطها بكل فنانى ورسامى وصحفيى مصر الزائرين لشقة حجازى: عادل حمودة، محمود التهامى، علاء الديب، سعاد رضا، لويس جريس، فؤاد قاعود، رءوف عياد، حامد اللاوندى، طه حسين، جميل شفيق من الأهالى.. وغيرهم من الذين كانوا يستضيئون بحجازى ويبادلونه الحب والاحترام والعشق المهنى والإنسانى لهذا الرجل الزاهد صاحب الريشة التى لا يعلى عليها، كما يقول عبدالعزيز: نعم أنا «أمى» أعرف الكتابة «طشاش» ولا أفهم فى الرسوم والخطوط والإيفيهات، إنما خلال سنوات طويلة عشرة مع هؤلاء القوم كونت صورة.. بالفهلوة.. والحب عن كل هؤلاء الكبار ولم أجد شغل كاريكاتير يعلو على شغل الأستاذ حجازى، كنت أشاهده ويقرأه عليه قبل الدفع به إلى النشر.. طبعا أعظمه وأرفع له السلام وكم من مئات المرات أجلس أمامه على المكتب حتى ينتهى من رسم أو آخر ويحدثنى أثناء رسومه وتعليقاته، ويقول: إيه رأيك؟! ونتبادل النكات والقفشات التى كنت أسمع منها الكثير والخطير، ولكنى لا أمتلك موهبة الحفظ ولا الرواية، لكن أتذوقها بحس فطرى عال، كما كان يقول لى رحمه الله. * العودة لطنطا يواصل عبدالعزيز: بعد خروجه من مستشفى عين شمس والعودة لطبيعة العمل فوجئت به يتصل بى من طنطا ويعطينى العنوان للحضور سريعا، وفعلا كنت طيارة، وهذا مرجعه إلى اعتماد الرجل علىّ فى كل كبيرة وصغيرة، لا تتصور مدى العلاقة والحب على مدار تلك السنوات! لا أبالغ إذا قلت لك إننى كنت أعتبره توأم روحى، وهو أيضا، ليست علاقة ساع أو سكرتير، إنها علاقة إنسانية قوية صعبة التكرار. وبعد ساعتين كنت فى شارع حسان بن ثابت بطنطا أطرق الباب، وعناق حار ودموع وأكد قائلا: يا عبدالعزيز أنا تركت القاهرة والناس والصحافة والضوضاء.. ولم أتركك وأنت يجب ألا تتركنى وأنا وحيد. وهذه غرفتك وهذا مفتاح الشقة، فى أى وقت وعاوزين نكثف «الشغل» وقد كان. سعدت كونى همزة الوصل بينه وبين العالم، وكنت أكثر السعداء بذلك. ولم يتغير وده وعشقه للبسطاء والغلابة الذين عاش لهم ومات بينهم، فقد وفر له أشقاؤه وأبناؤهم وأحفادهم فى العام الأخير كل سبل الراحة ووقفوا بجواره كما لم أشاهد أحدا يقف بجوار قريبين منه، وهذا نتاج عطفه عليهم واقترابه منهم والعيش لهم بكل جوارحه وقلبه وفرشاته. أما أنا فمازلت أحس بفقدان شىء عظيم، توأم روحى رحمه الله والذى لم أكف عن الدعاء له بالرحمة والمغفرة وحسن الثواب وهو طموح سوف يعطيه الله له لطيبة قلبه وإخلاصه. مرة أخرى رحمة لله على البسيط الرائع.. والعميق حجازى. وهذه لمحة بسيطة من حياة الرجل.