لأول مرة تسألنى صديقة حميمة عن (إلى أى وطن أنتمى؟) ودون أن أدرى وبسرعة بديهة متعثرة أجبتها (وطنى فى كل قلب يحبنى وعين تحترمنى وعقل يقيّمنى) وما أن خَلَوتُ بنفسى حتى حملنى التفكير بسؤالها بين طيّات رياح ورعود تساؤلات تهزّ سكون خلوتى فأرانى حائرة أبحث فى قواميس التعريفات عن (ما هو الوطن؟) هل هو أرض ومادة؟ جغرافيا وموقع وحدود؟ هوية وانتساب؟ رحم متصلة بشريان حياة؟ هل يحتل وطن مكان وطن آخر على صفحة الانتماء والولاء؟ ثمّ ما حقيقة ما أحمله من عشق يسرى كما الدم فى العروق لعروبتى وأوّلها مصر، وما يحاول البعض تحجيمه بوسائل قياس شخصية ليست ذات مفعول ومصداقية. (ما هو الوطن؟) اختلفت التعريفات عند الباحثين، كلّ حسب منهجه الفكرى، ولكن الأغلبية اشتركت فى تعريفه بالمكان الذى يعيش فيه الأفراد تربطهم لغة مشتركة وحضارة وتراث وتقاليد، سواء بين من ولدوا على أرضه أو من هاجروا إليه وانصهروا مع أبنائه فى بوتقة انتماء واحدة، متساوين فى الحقوق والواجبات، يتمتعون بالأمان والاحترام وحرية الكلمة والفكر، حتى أقيمت الدولة وصار الوطن يعنى الدولة ثمّ النظام، وأصبح يحمل بُعدا فكريا وأيديولوجيا بنيت على أساسه العلاقات والمفاهيم والمصطلحات الحديثة التى استنبتت فى جسد المنظومة العربية الواحدة لتفرقها بالحدود المصطنعة، ثمّ ليصبح الوطن هو النظام، والنظام هو الوطن، وقد ساهمت الألسن الملتوية والمباهاة بالأصول المستوردة والأحقاد والإعلام، وعن جدارة، فى تأكيد هذا المفهوم ليتحول الانتماء والمواطنة إلى (هويّة) وعلاقة قانونية تؤثر على استقرار المواطن لو اختلّ شرط من شروطها. وهناك من عرّف الوطن بالعقيدة، وآخر بالذكريات والشخوص وكل ما هو ميت لا ينتقل مع الفرد، ليبقى للوطن تعريف خاص عند الأدباء والشعراء والفنانين ينطلق من تزاوج المادة بالروح. فهو الشجرة الممتدة جذورها فى تربة الأمّة، غذاؤها ولاء وماؤها انتماء، وديمومتها جينات موشومة على أغصان وثمار، كتلك التى يمتصها الطفل من ثدى أمّ. الوطن خليّة من خلايا أمّة ذات تركيبة ونسيج واحد. الوطن أمان واستقرار وعدل فإن فقدته فى أحد أوطان الأمّة فربما تجده فى آخر، فى عيون وقلوب ومشاعر وتراحم ومروءة، وطبيعة مشتركة، نفس المناخ والتراب والماء والسماء والنسيم والعبق والسحنة والدم واللسان. بل حتى الأحداث والشخوص التى غيّبها الأجل والشتات وأصبحت فى خانة الذكريات، سيثقلها ما يستجد من روابط وصداقات وأحداث ومناسبات، وكما كان الماضى حاضرا يصبح الحاضر ماضياً وذكرى. الوطن شغاف روح محفورة عليه أبجديات حياة من أول حرف، حتى آخره. الوطن قلوب نقيّة ومشاعر صادقة، ويد تربت على رأس غريب مهموم، وطموحات تتمازج فى كأس هدف واحد، إنسانية بلا حدود وحب بلا تلوّث لا يعرف شيفونية ولا عصبية ولا (أنا وأخى على ابن عمّى وأنا وابن عمّى، على الغريب وإن كان مظلوما). الوطن كما قال سيدنا على بن أبى طالب رضى الله عنه:، (الفقر فى الوطن غربة والغنى فى الغربة وطن) سواء الغنى بأصدقاء الخير وحب الناس أو غنى المادة. الوطن صديق صدوق وحبيب وفىّ. الوطن ليس بترابه أو نظامه، أو غناه وفقره بل بأهله (فالجنة دون ناس لا تنداس). الوطن منطقة معبّدة بالرضا بين عقل حكيم وقلب سليم. وهو القبلة المشتركة التى يتوجه إليها الناس غدا من كلّ فجّ عميق تجمعهم تكبيرة وتلبية بلغة واحدة وصوت واحد. الوطن الفاضل أبناء لو اجتمعوا على الخير ونكران الذات والإيمان المطلق والالتزام بمكارم الأخلاق لأصبحنا خير هوية تحملها الإنسانية والأمّة. هو ذا الوطن صديقتى الغالية.. وهى ذى عاشقة مصر المحلّقة بلا هويّة فى فضاءات عشق، وقلوب خيّرين، تخطّ بمداد الروح أصدق شعر ونثر. فليس للعشق والإبداع وطن.. ويبقى الأمان والعدل والسلام والحب هوالوطن.. و(وطنى وإن شغلتُ بالخُلد عنه نازعتنى إليه فى الخُلد نفسى).