فى وقت يكاد يغيب فيه دور الأزهر عن عيون العالم الإسلامى، ويختفى علماؤه عن الساحة والمسئولية.. أتذكر شيخاً جليلاً أضاف للأزهر الكثير وأكد أن المسئولية ليست شرفية، وإنما هى عمل وكفاح وعلوّ بكلمة الله فوق كل كلمة، وأمر الله فوق كل أمر..أحدثكم عن رجل عظيم شرف الإسلام كواحد من أبنائه، وعالم من علمائه، رجل أخلص للأزهر كل الإخلاص فشهد فى عصره نهضة كبرى ومكانة رفيعة نحن أحوج ما نكون لها فى هذه الأيام الفارقة من التاريخ الإسلامى. أحدثكم عن شيخ الأزهر الإمام الأكبر عبد الحليم محمود رضى الله عنه، الرجل الذى كان أمة فى ذاته، إذا جلس فى مكان تحول ذلك المكان إلى مسجد ومدرسة وكان الناس يقصدونه من كل حدب وصوب ليستفيدوا من علمه ودينه وهو بذلك يعد صاحب ورائد مدرسة الفكر الإسلامى والتصوف فى العصر الحديث ولقب بأبى التصوف فى العصر الراهن. لقد عاش بروح التصوف الحق.. فكان يرى أن التصوف ليس زهدا فى الحياة وهروبا منها، بل هو فلسفة حياة يثريها وينمّيها.. لقد فهم التصوف الذى يرى الحياة جهاداً وكفاحاً ومواقف مشرفة، وارتفاعاً بالقيم الإنسانية، وعمل بذلك التصوّف الذى يرى الحياة جمالاً وكمالاً وعملاً صالحاً.. ولهذا لم يجد الشيخ من يشكّك فى أن تصوّفه هو حقيقة الدين، فقد كان متّبعاً غير مبتدع.. وكان بعيدا عن المظاهر الكاذبة والتمسك الأعمى بالسلطة والتبعية لها. استطاع شيخنا الجليل عبد الحليم محمود أن يعيد للأزهر اعتباره ومكانته وأزال جميع العوائق و العراقيل التى وضعت فى طريقه وفتح بابه على مصراعيه للوافدين من طلاب العلم والدين من أرجاء الكرة الأرضية فعاد الأزهر على يديه من جديد إلى مكانة القيادة العلمية والتربوية فى العالم الإسلامى.. ففى عهده عاش الأزهر أزهى عصوره، وبصدقه وفكره، وقلبه وروحه ومواقفه كان الأزهر علامة على الإسلام الحق والمسلمين الحقيقيين.. وكان يقول دائما إن المتوقع أن يكون الأزهر فى كل مكان فى العالم لأنه أقدم المؤسسات وأبو الجامعات ،كان الشيخ عبد الحليم محمود، نجماً فى سماء الحقيقة، ونموذجاً فريداً للعالم العامل بما يعلم، والشيخ الذى رفع سلطة العلماء على علماء السلطة ورجالها، وهو الرجل الذى قال «لا» لرئيس الجمهورية الراحل أنور السادات. حياة هذا الرجل حافلة بالإنجازات والمواقف التى ثبّتت فى قلوب وعقول المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها قيمة الأزهر، والمكانة الرفيعة لشيخ الأزهر، حين يتولى هذا المنصب عالم جليل مثله لا يخشى فى الله لومة لائم.. رجل يعرف قدر العلماء وأن كرامتهم فوق كرسى السلطة، وفوق كل سلطة. كان عالما حكيما يدرس الوضع بدقة وإمعان ويفكر فى القضايا والمشكلات تفكيرا جديا وسليما ويبحث لها عن حلول فى صمت ويبدى رأيه فى أوانه، لذلك استطاع أن يحفظ مكانة الأزهر ويبقى كرامته. هذا وقد عرف عن الإمام الأكبر عبد الحليم محمود رضى الله عنه عمق وغزارة الآراء الفقهية ودقة الاجتهادات مما جعله يكسب صفوف المعارضين قبل المؤيدين إلى جانب اللباقة والدراية الكاملة فى عرض أى موضوع ومسألة تتعلق بأمور الدين. وبهذه الأخلاق الكريمة كان يستحث المسئولين وكان يبصرهم بالظروف التى كانت تحيط بالوطن آنذاك وهى.. احتلال سيناء والتمرد الشيوعى.. والتمرد الدولى والقضايا الداخلية. فى عهده رحمه الله كان الأزهر نوراً للإسلام وناراً على أعدائه وجمع الشيخ بين الدعوة لإحياء القلوب بالتوبة والرجوع إلى الله والدعوة لإحياء العقول بالفكر الإسلامى النقى الواعى الذى كان هو رائده وتحرك بالأزهر إلى قلب الشعب والحياة فكانت عشرات المعاهد الأزهرية والمساجد والجمعيات وتزعم الأزهر فى عهده تطبيق الشريعة الإسلامية ورعاها وزودها بالفكر والدراسات والأبحاث وإخراج مشروع الدستور الإسلامى وقانون إسلامى أصيل للأسرة، وكرَّس الشيخ الجليل علمه ومعه علم العديد من رجالات الأزهر الشرفاء لحرب أعداء الإسلام وانتعشت فى ذلك العهد ومن جراء ذلك الجهد الأزهرى الحركة الإسلامية فكانت النبات الأصيل للأزهر ورجاله كما كانت امتداداً لكفاح الشعب المصرى المسلم وطلائعه من التيارات الإسلامية ودفع الشيخ عبد الحليم محمود ومعه الأزهر ثمناً غالياً جزاء هذا التحدى لأعداء الإسلام من طائفيين وقوى داخلية وخارجية مختلفة فكان أن تعرض الرجل فى حياته لأبشع هجوم وتشويه وشتم بذىء منحط فقد بدأ الحديث عن تلقيه الأموال العربية لبناء المساجد وكأن بيوت الله جريمة، وهوجمت سياسة بناء المعاهد الأزهرية وأخذ وزير التعليم فى تلك الفترة يتحدث عن ضرورة توحيد نظام التعليم فى مصر أى إلغاء التعليم الأزهرى وعندما مات الشيخ عبد الحليم محمود حرمت الجماهير من تشييع جنازته ومنعت حتى الآن أحاديثه الكثيرة من وسائل الإعلام لأنها كانت مؤثرة فى إحداث موجة التدين الذى يحاربونه وتحول الأزهر بعده إلى النقيض. (فى الأسبوع القادم نكمل حديثنا فإلى حينه).