طوال الأيام والأسابيع التي تلت قيام ثورة 32 يوليو 1952 لم يصدر بيان أو تصريح منسوب لقادة الثورة إلا وكان يحمل الاحترام والتقدير لدستور مصر الذي كان قد صدر سنة 1923. وفجأة بدأت تتسلل إلي الصحف والندوات العامة نبرة خجولة تنادي بالنظر في أمر هذا الدستور! وسرعان ما تصاعدت النغمة لتصبح إلغاء هذا الدستور الفاسد الذي أفسد مصر! لم يكن «ثوار يوليو» هم أصحاب هذه الدعوة، بل كبار المثقفين وفقهاء القانون الدستوري الذين ملأوا الدنيا صياحاً وصخباً وضجيجاً قبل الثورة دفاعاً عن هذا الدستور، دستور الأمة. وحسب ما يقول اللواء «محمد نجيب» قائد الحركة - هكذا كانوا يسمون ثورة يوليو وقتها - «إن قرار إسقاط الدستور سبقه تمهيد من الصحف وكبار القانونيين الذين طالبوا من خلال مقالاتهم بذلك، وكانت حجتهم أن الدستور قد سقط فعلا بعد الثورة، وأن ما تبقي منه بعض نصوص لم تعد تتمشي مع أهداف هذه الثورة، وعلي ذلك طالب البعض بوجوب إصدار دستور جديد يحل محل الدستور المنهار وطالب البعض الآخر بتعديل الدستور علي الأقل. واقترن هذا الخلاف بخلاف آخر حول من الذي يعدل أو يغير الدستور؟! الحكومة؟! جمعية تأسيسية منتخبة؟! ولم نتدخل في مثل هذه المناقشات، لكننا أحسسنا أن دستور 1923 لم يعد يرضي أحداً!! ومع ذلك لم أكن متحمساً للتعجيل بهذه الخطوة وجاء «سليمان حافظ» بعد ذلك ليقنعنا عملياً بضرورة إلغاء دستور 1923». وهكذا أعلن «محمد نجيب» من منزله في الحلمية عبر محطة الإذاعة وبحضور أنور السادات إسقاط الدستور يوم العاشر من ديسمبر سنة 1952. -- بعد ثلاثة أيام بالضبط ووسط الأفراح والليالي الملاح ابتهاجاً بسقوط دستور 1923 كتب عميد الأدب العربي د. طه حسين في صحيفة الأهرام يعلن أن سقوط الدستور أو فقده لم يسره وأيضاً لم يسؤوه فقد كان وهماً لم يصدر عن الشعب بل صدر عن السلطان «يقصد الملك فؤاد». لكن الأهم من ذلك كله أن د. طه حسين أشهر وزير معارف في تاريخ مصر الحديث أبومجانية التعليم الحقيقية راح يكتب لكي يلفت النظر إلي ما يجب أن يكون عليه الدستور الجديد ومن يضعه وكيف. إن دلالة مقال طه حسين المنشور عام 1952 تذكرك بالضبط بأحوال مناقشات البشر هذه الأيام بعد ثورة 25 يناير 2011 العظيمة والرائعة. كتب د. طه حسين يقول: «أول ما ينبغي هو ألا يكون الدستور منحة تهدي إلي الشعب، فليست في مصر قوة تستطيع أن تهدي إلي الشعب دستوراً وإنما الشعب هو الذي يعطي نفسه الدستور الذي يريد، وهو الذي يعطي كل هيئة من هيئاته، وكل سلطة من سلطاته حقوقها ويفرض عليها واجباتها، وكل انحراف عن هذه الطرق المستقيمة يعرض للزلل ويورط في الخطأ، ويهيئ المشكلات التي لا تلبث أن تثور وتفسد علي الشعب أمره بعد وقت قصير أو طويل. والناس يتحدثون عن لجنة يراد تأليفها لوضع دستور جديد، وليس من شك في أن تأليف هذه اللجنة واجب ليس منه بد، ولكنه فيما أفهم لجنة تعد الدستور أو تعد مشروع الدستور ليعرض بعد ذلك علي الذين يمثلون الشعب تمثيلاً صحيحاً ليدرسوه ويناقشوه ويقروه كما قدم إليهم أو بعد أن يدخلوا فيه ما يحبون من تغيير وتبديل!! وإذا كان هذا الفهم صحيحاً فليس بهم أن تكون هذه اللجنة التمهيدية كبيرة أو صغيرة، تتألف من مائة أو من أكثر من مائة، أو أقل من مائة، وإنما المهم أن تكون لجنة من الذين يفقهون الدستور ويحسنون التصرف في أحكامه، ويحسنون العلم بحاجات الشعب وآماله ليكون المشروع الذي يعدونه مقارباً لا يكلف ممثلي الشعب في درسه وإقراره عناء ثقيلاً ولا بحثاً طويلاً، فقد ينبغي أن يكون الوقت الذي يمضي بين إلغاء الدستور القديم وإعلان الدستور الجديد غير مسرف في الطول». -- ثم يشير د. طه حسين إلي دعوة الأستاذ محمود عزمي إلي استفتاء الشعب فوراً في الاختيار بين الملكية والجمهورية لتستقبل اللجنة الإعدادية عملها علي بصيرة، ولعل قراء هذه الأيام - سواء كانوا في البيوت أو ميادين التحرير بطول وعرض مصر لا يعرفون قدر وقيمة ومكانة هذا المفكر العظيم والذي وصفه الأستاذ الكبير «محمد حسنين هيكل» بقوله «كان محمود عزمي مفكراً نافذ البصيرة ومثقفاً واسع المعرفة ولم يأخذ حظه في مصر لأن القصر كان غاضباً عليه كما أن الوفد كان يحسبه من أعدائه». وأعود إلي مقال د. طه حسين الذي يقول: «وأنا أشارك صديقنا - محمود عزمي - في هذه الدعوة وأكاد أعتقد أن اختيار الشعب واضح منذ الآن وأن استفتاءه سينتهي إلي تقرير النظام الجمهوري الذي يدعو إليه الداعون وأنا منهم منذ أنزل الملك السابق عن عرشه، فقد عاشت مصر علي النظام الملكي منذ عرفها التاريخ أو منذ عرفت هي التاريخ إلي الآن! وشقيت بهذا النظام شقاء متصلاً، كان لها في العصور القديمة ملوك يرون أنفسهم آلهة، ويراهم الشعب آلهة أيضا، ثم كان لها ملوك يرون أنفسهم ظلالا للآلهة أو ظلا لإله واحد، وكلهم كانوا يخادعون أنفسهم ويخادعون الناس، وكلهم كانوا يسيمون الناس فنوناً من العسف والخسف باسم هذا السلطان الوهمي الذي ينزلونه علي أنفسهم من السماء، وقد آن للمصريين ألا يخدعوا أنفسهم وألا يخدعهم أحدا عن أنفسهم وأن يعلموا أن الحكم يأتي منهم ولا يتنزل عليهم، وأن الحكام مهما يكونوا خداما لا سادة ينصبهم الشعب ليؤدوا بعض أعماله التي تتصل بمرافقه السياسية والاجتماعية علي اختلافها، فليس هناك سادة مقدسون يعصمون من التبعات ويرتفعون عن الشبهات ويسودون ولا يسادون! وإنما هناك حكام يختارهم الشعب ليدبروا له أمره في الحدود التي يرسمها لهم الدستور، يرزقهم علي ذلك أجورهم، ويسألهم بعد ذلك عما يعملون، سئم المصريون فيما أعتقد نظام الراعي والرعية، والسيد والمسود، ولست أعرف هذا العصر الذي ارتقي فيه العقل، وتنبهت فيه الشعوب لحقوقها أسخف سخفاً ولا أشد إغراقاً في الوهم من توارث الملك لا لشيء إلا لأن أسرة بعينها قد فرضت نفسها علي شعب من الشعوب بالحيلة أو بقوة السيف أو بحسن البلاء أحياناً. كل هذا كان يستساغ في العهود الماضية، فأما الآن فقد أصبح لوناً من الباطل يشبه هذيان الحمي أكثر مما يشبه أي شيء آخر». ويمضي د. طه حسين شارحاً ومفسراً جناية فكرة أو نظرية توريث الملك والحكم والاستئثار بأمر شعب كامل لا لشيء إلا لأنه انحدر من أسرة بعينها، ثم يمضي قائلا بعد ذلك: «لا شك إذن في اتجاه الشعب المصري الآن إلي النظام الجمهوري، فلتسرع الحكومة إلي تنظيم استفتائه قبل أن تنشيء اللجنة لإعداد الدستور ذلك أجدر أن ييسر لهذه اللجنة أمرها ويمهد لها إلي ما ستحاول طريقاً مستقيماً، فإذا أتمت هذه اللجنة عملها، وينبغي ألا تدفع إلي الإسراع الذي يفسد العمل ولا تؤخذ بالعجلة التي تفسد التفكير، دعت هيئة من ممثلي الشعب علي أن يكونوا من الذين يفقهون أحاديث الدستور ويحسنون التصرف فيها، وعرض عليه المشروع الذي أعدته اللجنة لتدرسه وتناقشه وتقره حرة لا مكرهة ولا معجلة ولا مضيقاً عليها. فإذا أتمت عملها أعلن الدستور وأنفذ واستقبل الشعب حياة مستقرة خصبة يعرف الناس فيها واجباتهم وحقوقهم ويعرفون أنهم مصدر هذه الواجبات وهذه الحقوق، ولست أدري إلي أي وقت طويل أو قصير يحتاج هذا كله، ولكن الذي أعلمه علم يقين هو أن هذا الوقت لن يذهب عبثاً، ولن يضيع في غير طائل فسينفقه الشعب في نوعين من النشاط الخصب النافع الذي هو في أشد الحاجة إليه والذي من أجله كانت «الثورة»! أحد هذين النوعين هو النشاط في إعداد الدستور واتمامه وإعلانه والآخر هو نشاط النهضة في التمهيد للدستور الجديد بوضع الأسس للإصلاح في حياتنا علي اختلاف فروعها وإزالة ما يمكن أن يعترض الدستور الجديد من العقبات»! واختتم د. طه حسين مقاله البديع قائلاً: «كذلك أفكر في حياتنا الجديدة التي بدأت منذ أعلن قائد الجيش سقوط الدستور القديم، ولست أدري أمخطئ أنا أم مصيب فيما أصور لنفسي من أمر المستقبل؟ ولكنني أرجو علي كل حال أن يعصم الله مصر من الزلل والخطل والخطأ ويهيئ لها من أمرها رشداً». وبعد شهر بالضبط من نشر مقال د. طه حسين صدر في 13 يناير سنة 1953 مرسوم بتأليف لجنة لوضع مشروع دستور جديد يتفق مع أهداف الثورة، كانت اللجنة مكونة من خمسين شخصية لم يختلف أحد علي وطنيتهم وكفاءتهم القانونية والدستورية، وتم انتخاب «علي ماهر» باشا رئيساً لهذه اللجنة، وكان د. طه حسين ضمن أعضاء لجنة الدستور! وفي يوم السبت 21 فبراير سنة 1953 افتتح اللواء «محمد نجيب» أعمال لجنة الدستور، وألقي خطبة استغرقت حوالي عشرين دقيقة وسط تصفيق حاد. وتولي الأستاذ «محمد علي علوبة» باشا أكبر الأعضاء سناً - في غياب أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد - الرد علي كلمة اللواء نجيب، ولعل أهم وأخطر ما جاء في كلمته هو: أن الدستور أخلاق قبل أن يكون نصوصاً، وأن دستوراً ناقصاً في أيدي نواب صالحين خير من دستور كامل في أيدي نواب عابثين. واللافت للانتباه أن ثورة 23 يوليو في ذلك الوقت ضمت إلي لجنة إعداد دستور ثورتها ثلاثة ممن شاركوا في إعداد وصياغة دستور 1923 الذي أسقطته وهم «علي ماهر باشا» و«محمد علي علوبة» باشا و«علي المنزلاوي باشا». والطريف أن الدكتور الفيلسوف «عبدالرحمن بدوي» كان عضواً في لجنة الخمسين ويقول في مذكراته: «كان من رأيي أن يرأس لجنة الدستور «أحمد لطفي السيد» فأعطيت صوتي له، وأذكر أنني حاولت إقناع د. طه حسين وكانت الأزمة في الجلسة لينتخب «لطفي السيد» لكنه تملص قائلاً: «إن لطفي باشا ليس مرشحاً وكلفني بأن أكتب في ورقة تصويته اسم «علي ماهر»!. وطوال حوالي عام ونصف العام من فبراير 1953 حتي أغسطس 1954 راحت اللجنة تدرس وتناقش وتحلل، ويلاحظ د. عبدالرحمن بدوي أن «د. طه حسين» الذي انضم إلي لجنة الحقوق والواجبات كان قليل المشاركة بالرأي وإنما كان يشارك في صياغة عبارة المادة. كانت مصر تستعد للاحتفال بمرور عامين علي قيام ثورة يوليو وكان د. طه حسين يمضي إجازته السنوية في باريس، ومن هناك أرسل بمقال إلي جريدة «الجمهورية» عنوانه «ثورتنا» نشر بتاريخ 14 يوليو قال فيه بالحرف الواحد: «إقامة الجمهورية مكان الملكية خير لا شك فيه ولكن الجمهورية محتاجة إلي الوقت والجهد والصبر لتثبت وتستقر وتتصل بقلوب المواطنين جميعاً، وتستأثر بنفوسهم، وكل هذا لا يتاح في عام أو عامين! وكل هذا لا يتاح بمجرد إعلان النظام الجمهوري وإنما هو محتاج إلي أن توضع النظم التي تكفل للجمهورية أن تشعر المواطنين إشعاراً عميقاً بأنها هي النظام السياسي الذي يكفل لهم حقهم في الحرية والكرامة وفي أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم ولأنفسهم لا لمصلحة هذه الطبقة أو تلك ولا لمصلحة هذا الفرد أو ذاك بل لمصلحتهم جميعاً علي اختلاف طبقاتهم ومنازلهم وحظوظهم من الثراء». ولم ينس الدكتور طه حسين أنه أحد أعضاء لجنة إعداد الدستور فكتب يقول: ولجنة الدستور ماضية في إعداد هذه النظم وهي ستفرغ من إعدادها غداً أو بعد غد لكن يجب أن نقنع أنفسنا بأن إعداد الدستور وقبول الشعب له وإعلانه والأخذ في تنفيذه لن يكون كافياً لتثبيت الجمهورية بل سيحتاج تثبيتها إلي تجربة طويلة لهذا الدستور حتي يظهر للمواطنين بعد التنفيذ أنه هو الدستور الذي يلائم حاجتهم وطاقتهم وآمالهم. فليس الدستور إلا عملا إنسانياً والأعمال الإنسانية ليست مبرأة من الخطأ ولا مضمونة الكمال وإنما هي في حاجة إلي أن تجرب وتنقح ويعاد النظر فيها بين حين وحين، فالخطأ كل الخطأ والخطر كل الخطر أن نظن أن إعلان الجمهورية قد منحنا النظام الجمهوري حقاً، وأن نظن أن إعلان الدستور الجمهوري قد ثبت الجمهورية وكفل لها الأمن والبقاء. انتهي ما كتبه «العميد» لكن الدرس الذي حرص علي الإشارة والإشادة به علي الدوام هو قوله «لست أخشي علي الثورة شيئاً كما أخشي عليها مشورة أنصاف المثقفين».