انقلاب، حركة، نهضة، ثورة! أربعة مصطلحات مهمة كانت تطلق طوال الأيام والأسابيع التي تلي ما جري في مصر ابتداءً من يوم 23 يوليو 1952. كان جمال عبدالناصر يستخدم مصطلح انقلاب في وصف ماحدث، بل إنه كتب مقالا مهما في مجلة التحرير «أول أكتوبر 1952» عنوانه «كيف دبرنا هذا الانقلاب؟! الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس كان من الذين يطلقون عليها الحركة. أما اللواء محمد نجيب - أول رئيس - للجمهورية فكان يفضل إطلاق لقب النهضة! لكن المفاجأة أن صاحب وصف 23 يوليو 1952 بالثورة هو عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين الذي كان وقت قيامها يزور إيطاليا فأملي علي سكرتيره مقالا نشره في أهرام 2 أغسطس 1952 جاء فيه: «بارك الله للجيش فيما فعل، وبارك الله للجيش فيما يفعل، وبارك لمصر في الجيش، ووقي مصر كيد الكائدين ومكر الماكرين وخيانة الخائنين». ثم عاد بعد ثلاثة أيام ليكتب في صحيفة البلاغ «بوضوح دون لف أو دوران: «بين الهدوء الذي يملأه الوقار والجلال وبين العنف الحازم النقي الذي يحطم الظلم ويرسل ملكاً إلي منفاه دون أن يسفك قطرة من دم». ويقول أيضا: كثير من الصحف الباريسية مثلا لا تستطيع أن تخفي إشفاقها من الثورة المصرية لا لأنها تخاف علي الفرنسيين ومصالحهم في مصر فهي مطمئنة علي هؤلاء الفرنسيين، ولكن لأنها تخشي أن تكون الثورة المصرية مثلا لثورات أخري تحدث في بلاد أخري غير مصر. وفي نهاية مقاله يقول د. طه حسين: إني لأرجو أن تكون هذه الثورة المباركة التي ردت إلي مصر كرامتها وشرفها في وقار وأناة، ونالت بذلك إعجاب العالم الخارجي، فقد ردت إلي المصريين ثقتهم بوطنهم وحسن رأيهم في أمتهم، وردت إليهم شيئا من التفاؤل الذي يجلو أمام أعينهم منظر وطنهم جميلاً نقياً كريما يستحق أن يحبه أبناؤه ويكرموه ليحبه غير أبنائه ويكبره. وفي مجلة التحرير «أول ديسمبر 1952» وتحت عنوان «روح الثورة» أكد د. طه حسين أن كلمة الثورة أدق معني وأصدق دلالة وأجود تصويراً للحياة التي نحياها منذ شهور. ولم يكتف د. طه حسين بذلك بل طالب هذه الثورة بأن تقوم وتقرر الإقدام الجريء السريع علي طائفة من الأعمال الإصلاحية الخطيرة التي تهيئ للشعب في كل يوم صدمة نفسية ليعلموا أن حياتهم قد تغيرت حقاً. د. طه حسين وهو صاحب الشعار الشهير قبل الثورة «التعليم، يجب أن يكون كالماء والهواء» يطالب الثورة بقوله: وما أعرف شيئا يجب علي الثورة أن تأخذه بالحزم والعزم والقوة والجد كشئون التعليم فكل إصلاح اجتماعي أو سياسي في شعب جاهل لا قيمة له ولا بقاء. ويعلن اللواء محمد نجيب 10 ديسمبر 1952 سقوط دستور سنة 1923. ويعترف نجيب في مذكراته قائلا: إن قرار إسقاط الدستور سبقه تمهيد من الصحف وكبار القانونيين الذين طالبوا من خلال مقالاتهم بذلك، وكانت حجتهم أن الدستور قد سقط فعلا بعد الثورة، وأن ما تبقي منه بعض نصوص لم تعد تتماشي مع أهداف هذه الثورة، وعلي ذلك طالب البعض بوجوب إصدار دستور جديد يحل محل الدستور المنهار وطالب البعض الآخر بتعديل الدستور علي الأقل، وجاء سليمان حافظ وزير الداخلية بعد ذلك ليقنعنا عملياً بضرورة إلغاء دستور 1923. لم يكن قد مضي سوي ثلاثة أيام علي إعلان سقوط دستور سنة 1923 حتي كتب الدكتور طه حسين مقالا في غاية الأهمية في صحيفة الأهرام يوم 13 ديسمبر 1952 تحت عنوان «ثم ماذا». وبينما انطلقت عشرات المقالات والآراء مؤيدة لسقوط الدستور ومعربة عن فرحها وسعادتها بهذا القرار الثوري، فوجئ القراء وربما ثوار يوليو أيضا بأن د. طه حسين يعترف قائلا: لم يسئني سقوط الدستور ولم يسرني فقد الدستور. وراح د. طه حسين يشرح مبررات ذلك كله حين قال عن هذا الدستور كان وهماً يقسم الوزراء يمين الإخلاص له، ثم لا يكادون يفرغون من قسمهم حتي يسخروا منه ويعبثوا به ويفعلوا بنصوصه وروحه الأفاعيل. ويصف د. طه حسين دستور 1923 بقوله: كان كلاما مكتوباً تسجل فيه علي السلطان القائم مهما يكن - طائفة من حقوق الشعب وكان تسجيل هذه الحقوق فناً من فنون العزاء للذين يصيبهم الظلم أو يلم بهم الضيم، كانوا يقولون لأنفسهم إنهم ظلموا مع أن الدستور ينصفهم وأنهم الضيم والخسف مع أن الدستور يكفل لهم العزة والكرامة والإباء، وكانت الظروف تتيح لهم أحيانا أن يخاصموا السلطان الذي ظلمهم أو سامهم الضيم وأن يظفروا بالنصفة «الإنصاف» وكانوا علي كل حال يجدون شيئا من القوة علي احتمال ما يصب عليهم من المكروه يقولون لأنفسهم إن الذين صبوا عليهم ما يكرهون قد خالفوا أمر الدستور. أمن أجل هذا لم يسرني سقوط الدستور وكنت أؤثر أن يظل هذا الوهم قائما حتي يوضع دستور جديد لا يلغيه إلا ليقوم مقامه. ولكن الدستور علي كل حال لم يذهب إلي غير رجعة، وإنما ذهب ليوضع مكانه دستور جديد، فالحياة التي نحياها الآن دون دستور موقوتة لا أدري أتقصر أم تطول ولكنها موقوتة آخر الأمر، لأن قائد الجيش قد أعلن ذلك وهو صادق فيما يعلن ولأنه قد عاهد الله والشعب علي أن يحتفظ للمصريين بحقوقهم كاملة لا يحيد في إجرائها عن العدل، ولا ينتقص منها قليلاً ولا كثيراً حتي يتم وضع الدستور الجديد وتنفيذه. وينتقل د. طه حسين إلي جوهر القضية عندما يقول: والناس يختلفون في هذا الدستور الجديد كيف يوضع ومن الذي يضعه ولأي نظام من أنظمة الحكم يراد وضعه، وما أعرف وقتا يجب فيه علي المثقفين أن يعلنوا آراءهم في هذا الأمر كهذا الوقت الذي ابتدأ منذ أعلن قائد الجيش سقوط الدستور فهو الوقت الذي يجب أن يبصر فيه الشعب بحقوقه. وأن يشار فيه علي السلطان القائم بما يحسن أن يأتي وبما يحس أن يدع! وكان الدستور الذي ألغي قد صدر علي نحو لم يرض عنه المصريون، أعدته لجنة من فقهاء الساسة وساسة الفقهاء علي كره من الشعب الذي لم يكن يحب أن يتنزل عليه الدستور من عل، وإنما كان يريد أن يصدر الدستور عنه هو فيستمد من شعوره وحسه، ومن قلبه وعقله، ومن آماله وآلامه وحاجاته. وكان سعد زغلول رحمه الله يسمي اللجنة التي ملأت السلطان القائم وأعدت له الدستور لجنة الأشقياء. ولكن الدستور لم يكن يصدر وينفذ لأول مرة حتي رضي عنه الناس، وآمنوا به، وضحوا بالأنفس والأموال والجهود في سبيل صيانته، وأعلنوا أنه دستور الشعب ثم لم تمض أعوام حتي وقف إلي أجل، ثم ألغي ووضع مكانه دستور آخر يقصد د. طه حسين دستور سنة 1930 الذي أعده إسماعيل صدقي باشا. وقيل إن الدستور منحة من الملك، وأن من ملك «المنح» يملك «المنع» كما يملك التغيير والتبديل، ثم قويت هذه النظرية في نفوس جماعات من الساسة حتي أباحوا لأنفسهم بعد عودة الدستور القديم أن يهدروا روحه ونصه في غير موقف، وأن يعينوا علي إهدار روحه ونصه، كلما اشتاقو إلي الحكم أو حرصوا علي البقاء في مناصب الحكم، حتي لم يبق شك آخر الأمر في أن الدستور قد صار هزءاً ولعباً لم يكن لهذا كله مصدر إلا أن الدستور القديم لم يصدر عن الشعب وإنما صدر عن السلطان. ويمضي د. طه حسين ويحدد ملامح مهمة وضرورية يضعها للسادة الذين سيتولون وضع الدستور الجديد فيقول: أول ما يجب حين نفكر في وضع دستور جديد هو أن نرد الحق الأكبر إلي أهله، والحق الأكبر هو الدستور وصاحب هذا الحق هو الشعب، فالدستور لا يوضع للملك، ولا يوضع للحكومة ولا يوضع لهيئة من الهيئات بل الدستور لا يوضع الجيل من الأجيال، وإنما وضع للشعب كله الذي يتجدد وتتعاقب أجياله علي مر الزمن، وهذا الشعب هو صاحب الحق الأول في أن يختار لنفسه نظام الحكم وفي أن يضع لنفسه أصول النظام الذي يختاره، ومن حق أجياله المتعاقبة أن تغير هذا النظام بين حين وحين، لتلائم بينه وبين حاجاتها وأطوارها التي تتعاقب عليها. ولكلام العميد طه حسين لاحسام حسن بقية.