أقل من شهر.. جدول امتحانات الشهادة الإعدادية 2024 بمحافظتي القاهرة والجيزة    حملة مقاطعة الأسماك: وصلنا ل25 محافظة.. والتاجر تعود على المكسب الكبير مش عايز ينزل عنه    رئيس برنامج دمج أبناء سيناء يكشف جهود الدولة لتحقيق التنمية المستدامة    الأسهم الأوروبية تنخفض عند الإغلاق مع استيعاب المستثمرين للأرباح الجديدة    حماس تكشف عن عرض قدمته لإسرائيل لوقف إطلاق النار: مجندة أمام 50 أسيرا وأسيرة    علي فرج يواصل رحلة الدفاع عن لقبه ويتأهل لنهائي بطولة الجونة للإسكواش    صدمة قاتلة لبرشلونة بشأن الصفقة الذهبية    موقف ثلاثي بايرن ميونخ من مواجهة ريال مدريد في دوري أبطال أوروبا    الأرصاد: تسجيل مزيد من الانخفاض في درجات الحرارة غدا الجمعة    تامر عاشور وأحمد سعد يجتمعان بحفل غنائي بالإمارات في يونيو المقبل    التغيرات المناخية ودور الذكاء الاصطناعي.. لقاء ثقافي في ملتقى أهل مصر بمطروح    هالة صدقي: «صلاح السعدني أنقى قلب تعاملت معه في الوسط الفني»    تخصيص غرف بالمستشفيات ل«الإجهاد الحراري» في سوهاج تزامنًا مع ارتفاع درجات الحرارة    عضو بالشيوخ: ذكرى تحرير سيناء تمثل ملحمة الفداء والإصرار لاستعادة الأرض    بفستان أبيض في أسود.. منى زكي بإطلالة جذابة في أحدث ظهور لها    بالفيديو.. ما الحكم الشرعي حول الأحلام؟.. خالد الجندي يجيب    لماذا حذرت المديريات التعليمية والمدارس من حيازة المحمول أثناء الامتحانات؟    فيديو.. مسئول بالزراعة: نعمل حاليا على نطاق بحثي لزراعة البن    الجيش الأردني ينفذ 6 إنزالات لمساعدات على شمال غزة    الكرملين حول الإمداد السري للصواريخ الأمريكية لكييف: تأكيد على تورط واشنطن في الصراع    أنطونوف يصف الاتهامات الأمريكية لروسيا حول الأسلحة النووية بالاستفزازية    وزارة التموين تمنح علاوة 300 جنيها لمزارعى البنجر عن شهرى مارس وأبريل    المغرب يستنكر بشدة ويشجب اقتحام متطرفين باحات المسجد الأقصى    الأهلى يخسر أمام بترو الأنجولي فى نصف نهائى الكؤوس الأفريقية لسيدات اليد    عامل يتهم 3 أطفال باستدراج نجله والاعتداء عليه جنسيا في الدقهلية    تشكيل الزمالك المتوقع أمام دريمز الغاني بعد عودة زيزو وفتوح    يمنحهم الطاقة والنشاط.. 3 أبراج تعشق فصل الصيف    في اليوم العالمي للملاريا.. أعراض تؤكد إصابتك بالمرض (تحرك فورًا)    6 نصائح لوقاية طفلك من حمو النيل.. أبرزها ارتداء ملابس قطنية فضفاضة    سبب غياب حارس الزمالك عن موقعة دريمز الغاني بالكونفيدرالية    استجابة لشكاوى المواطنين.. حملة مكبرة لمنع الإشغالات وتحرير5 محاضر و18حالة إزالة بالبساتين    دعاء يوم الجمعة.. ساعة استجابة تنال فيها رضا الله    تشيلي تستضيف الألعاب العالمية الصيفية 2027 السابعة عشر للأولمبياد الخاص بمشاركة 170 دولة من بينهم مصر    بيان مشترك.. أمريكا و17 دولة تدعو حماس للإفراج عن جميع الرهائن مقابل وقف الحرب    دعاء الاستخارة بدون صلاة .. يجوز للمرأة الحائض في هذه الحالات    مدرب صن دوانز: الفشل في دوري الأبطال؟!.. جوارديولا فاز مرة في 12 عاما!    مصادرة 569 كيلو لحوم ودواجن وأسماك مدخنة مجهولة المصدر بالغربية    إصابة سيدة وأبنائها في حادث انقلاب سيارة ملاكي بالدقهلية    جامعة حلوان توقع مذكرتي تفاهم مع جامعة الجلفة الجزائرية    رد فعل غير متوقع من منة تيسير إذا تبدل ابنها مع أسرة آخرى.. فيديو    تحرير 498 مخالفة مرورية لردع قائدي السيارات والمركبات بالغربية    طريقة عمل مافن الشوكولاتة بمكونات بسيطة.. «حلوى سريعة لأطفالك»    ضبط عامل بتهمة إطلاق أعيرة نارية لترويع المواطنين في الخصوص    محافظ كفر الشيخ يتابع أعمال تطوير منظومة الإنارة العامة في الرياض وبلطيم    مشايخ سيناء في عيد تحريرها: نقف خلف القيادة السياسية لحفظ أمن مصر    أمين الفتوى لزوجة: اطلقى لو زوجك لم يبطل مخدرات    الرئيس السيسي: نرفض تهجير الفلسطينيين حفاظا على القضية وحماية لأمن مصر    مستقبل وطن: تحرير سيناء يوم مشهود في تاريخ الوطنية المصرية    أبطال سيناء.. «صابحة الرفاعي» فدائية خدعت إسرائيل بقطعة قماش على صدر ابنها    محافظ قنا: 88 مليون جنيه لتمويل المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر خلال العام الحالي    فن التهنئة: استقبال شم النسيم 2024 بعبارات تمزج بين الفرح والتواصل    هيئة الرعاية بالأقصر تعلن رفع درجة الاستعداد تزامنا مع خطة تأمين ذكرى تحرير سيناء    معلق بالسقف.. دفن جثة عامل عثر عليه مشنوقا داخل شقته بأوسيم    حدث ليلا.. تزايد احتجاجات الجامعات الأمريكية دعما لفلسطين    الفندق عاوز يقولكم حاجة.. أبرز لقطات الحلقة الثانية من مسلسل البيت بيتي الجزء الثاني    الاحتفال بأعياد تحرير سيناء.. نهضة في قطاع التعليم بجنوب سيناء    أحمد موسى: مطار العريش أصبح قبلة للعالم وجاهز لاستقبال جميع الوفود    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طه حسين والكتَّاب الواقعيون صفحة مجهولة من معاركه النقدية
نشر في الشروق الجديد يوم 22 - 10 - 2010

كل عام، وفى أكتوبر على وجه الخصوص، تتجدد ذكرى رحيل عميد الادب العربى بغير منازع وبالتالى يتجدد الجدل حوله وحول دوره وتتجدد مدائح المحبة وعرائض الاتهام المكررة والتى تقدر بالصيغ ذاتها والمضامين والافكار والحجج التى لا تصلح لتكون حججا بل هى محاولات للى أعناق الحقائق واستنطاق الاحداث بغير ما توحى أو تشى، وعلى رأس هذه الاتهامات اتهامه بالتعامل أو العمالة للصهيونية، وهذا لأنه رأس تحرير مجلة «الكاتب المصرى» التى صدرت عام 1945 بتمويل من عائلة هرارى اليهودية ويكتفى الاتهام لنسف أى كاتب أو مثقف أو مبدع من خارطة الثقافة لو تبنت التهمة، هذه التهمة التى ليس لها دليل سوى أن تمويل المجلة يهودى باعتبار أن اليهودى لابد أن يكون صهيونيا وهذا مخالف للحقيقة فاليهود شىء والصهيونية شىء آخر تماما وهذه حقيقة ناصعة تعد من البديهات ولا تحتاج منا إلى شرح وتأويل وتفسير، ولكن الغرض مرضى وأصحاب الغرض دوما يبحثون عن ادوار ليملأوا بها فراغات يشعرون بها أما الاتهام الآخر فيشغله بتجديد دعاوى تقول إن طه حسين كان يريد هدم الثقافة العربية ولأنه متزوج من مسيحية فرنسية، فهو لديه نزوع قوى نحو ذلك ويكفى قراءة كتابى «طه حسين.. الجريمة والادانة» لجابر رزق و«طه حسين حياته وفكره فى ميزان الإسلام» أما تهمة الصهيونية فقد تجددت بمقال كتبته د. عواطف عبدالرحمن فى جريدة الحياة ولا يوجد دليل مقنع بهذه التهمة، ومن المعروف أن المجلة على مدى اعدادها كرست لثقافة وابداع طليعيين ودشنت كتابا اصبحوا كبارا فيما بعد مثل لويس عوض، وسيد قطب ومحمد سعيد العريان وسهير القلماوى وعبدالقادر القط وغيرهم. هذا بالإضافة لكتاب كانوا راسخين مثل سلامة موسى ومحمود عزمى وحسن محمود ومحمد محمد الجواهرى ومحمد عبدالله عنان واستكتبت المجلة كتابا غربيين يكتبون مباشرة للمجلة مثل جان بول سارتر واندريه جيد وهذا فضلا عن المطبوعات التى كنت تصدر عن المؤسسة وأحدثت طفرة ثقافية وأدبية وفكرية مبهرة فى ذلك الوقت ولا توجد أدنى شبهة فى المادة المتشددة فى اعداد المجلة ومطبوعاتها تعنى بهذه التهمة الشائعة.
وعلى الجانب الآخر هناك منذ أن رحل طه حسين والكتابات فرطت ومدحت كثيرة أيضا بداية بكتاب «مع طه حسين» لسامى الكبالى الذى صدر فى نوفمبر 1973 اى بعد رحيله بأيام حيث رحل فى 26 أكتوبر 1973 وفى العام الثانى وفى ذكراه الأولى أكتوبر 1974 صدر كتاب «ذكرى طه حسين» لتلميذته النجيبة د. سهير القلماوى مرورا بسامح كريم ومصطفى عبدالغنى حتى كتاب «طه حسين والصهيونية» للكاتب الصحفى حلمى النمنم وهو مذكرة دفاع حارة من عاشق ومحب ومؤمن بأفكار طه حسين ودوره وإنجازه المهيب.
وطالما أن هذه القضايا قتلت بحثا، ولن توضع فيها نقطة النهاية هكذا هى المشاريع والقامات الضخمة تظل مثيرة للجدل والخلاف وهذا ما حدث مع محمد على رائد النهضة الحديثة ومع أحمد عرابى قائد أول ثورة تقف امام الطغاة ومع الشيخ محمد عبده ومع الزعيم جمال عبدالناصر ومع عباس محمود العقاد وسلامة موسى والقائمة تطول وتطول.
لذلك سأنأى عن هذه المناطق الشائكة ليس لأنها شائكة، بل لأنها تحتاج إلى قراءة تستغرق صفحات طوال وأنا لست مع نبرة العداء الايديولوجية التى ابداها العقائديون وايضا لست مع الذين رفعوا طه حسين إلى درجة النبوة ونزهوه عن أى خطأ أو نوازع إنسانية من الممكن أن تدفع به نحو الضعف الذى يوقعه فى مزالق شتى مثل الصمت عن قضايا سياسية حادة أو مثل معركته مع زكى مبارك والاطاحة به من الجامعة رغم كفاءة الاخير واحتياجه الشديد وهذا لمجرد اختلافات حادة بينهما واستخدم طه حسين سلطته وفصله من الجامعة أو بالأحرى لم يجدد له عمله وهناك مثل هذه الأمور الكثير، انتماؤه للاحرار الدستوريين ثم انقلابه عليهم وانضمامه للوفد وانقلابه عليه ثم استوزاره فى آخر حكومة للوفد عام 1951 كل هذه مواقع لابد أن تدفع الرجل إلى مواقف شتى وربما مختلفة وربما متناقضة، موقفه من قضية الشرق والغرب كانت تتشكل دوما بطرق ملتبسة حتى برزت فى اعلى صورها فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر» هذه قضايا عولجت كثيرا وما زالت تحتاج إلى قرارات أعمق وبموضوعية وبدرجة عقلانية اكثر بعيدا عن أى تشنج.
أما ما أريد أن أطرقه هنا هو معركة طه حسين مع الكتاب الواقعيين الشباب الذين بدأت اقدامهم تدب بقوة على أرض الحياة الثقافية والابداعية وذلك بعد قيام ثورة 23 يوليو عام 1952 واستطيع أن ارجح أن دور طه حسين الاعظم كان قد اكتمل بعد استفزازه واطلاقه شعار «التعليم كالماء والهواء» وبعد تركه للوزارة لا أظن أن طه حسين أنجز ادوارا أوا فكارا تقارن بما تخبره قبل ذلك لأنه كان قد أصبح سلطة دولة بالإضافة إلى سلطته الثقافية وهذه دوما موقعة يخرج منها المثقف خاسرا، فعندما يرتدى ثياب السلطة وينعم بها ويستمتع بأجهزتها يتحول إلى صفات تنأى به عن دوره السابق كمثقف وكناقد ومفكر وكاتب كبير ومهما حاول استعادة هذا الدور نجده ينأى عنه بدرجات تطول أو تقتصر وهذا ما حدث للدكتور طه!! وهو صاغ فى معركته مع الكتاب والشاعر والصحفى الشاب آنذاك عبدالرحمن الشرقاوى على صفحات المجلة المستقلة الغد فى اغسطس، سبتمبر 1953 وجاءت هذه الرسالة عقب تعذر لقاء الشرقاوى بطة حسين الذى سافر إلى أوروبا وكان هناك حوار دائر بينهما حول الادب الأمريكى، يتهم فيه طه حسين الكتاب الجدد بكراهيتهم لهذا الادب، وهنا يقف الشرقاوى موقفا مزدوجا بالاحترام من ناحية والغضب من ناحية أخرى ويبدأ رسالته ب (أرجو ألا تجد فى هذا الحديث ما يغضبك.. ولى رجاء: لئن اغضبك بعض هذا الحديث فلتذكر لنا انا والذين تسميهم الادباء الشبان فلتذكر لنا على الاقل اننا قدرناك دائما فأوفينا واننا لم نقسط فى موازيننا أحدا حتى نقسط طه حسين.
ويتضح من الاستهلال ان الشرقاوى وصحبه كان يقدر طه حسين عاليا ويقبله ويسثنيه وحده عن باقى الاساتذة ولذا كانت هذه الرسالة التى هى رسالة عتاب وتبكيت اكثر منها رسالة احتجاج وهجوم بعدما تعذرت سبل الحوار، وبعدما اعتصم طه حسين بقلعته الحصينة أو قلاعه المتعددة اولها السفر خارج البلاد.
ثانيا: ردوده الحادة والتى تتسم بقدر كبير من تسخيف الخصم وتجهيله ووصمه بعدم الحكمة وقلة المعرفة ولذلك نجد الشرقاوى يحاول أو يغمز ويلمز فيقول «اجل ياسيدى بقيت انت تخرج من كل معركة متوجا بالغار لتدخل معركة اخرى» ثم يقول ملوحا بالنعيم والتعالى الذى يعيش فيه العميد.
ثم يوجه له نداء بالعودة والنزول الى الناس ومناقشتهم عندما يكتب انك تستطيع ان تعود إلى مصر ففى مصر ينتظرك الكثير! فى مصر ينتظرك الملايين وينتظرك تاريخك نفسه وفى مصر ينتظرك المستقبل وينتظرك قومك فما اعتبك عن قومك يا طه؟! وبالطبع الشرقاوى لاينتظر اجابة ولكنه يجيب بتهكم «لقد ذهبت الى مؤتمر السلام المسيحى فهل تشغلك عن ذلك هذا؟ وتقريبا يريد الشرقاوى أن يقول له «انك تخليت عن دورك فعد» هل هذا ماكان يمثله العميد فعلا فى تلك المرحلة؟ مرحلة ما بعد الاستوزار وآن للفارس ان يستريح.
ربما، لكن الأمور لم تستقر، ولم يتوقف الحوار العنيف بينه وبين الجيل الجديد، الجيل الذى راح يحمل لواء الواقعية، الشباب الذين ظهرت إبداعاتهم وأفكارهم وأشكال تذوقهم بطرق عديدة، محمود العالم وعبدالعظيم أنيس ومحمد مندور وعلى الراعى فى النقد، وصلاح عبدالصبور ونجيب سرور وعبدالرحمن الشرقاوى فى الشعر والرواية، ومحمد صدقى ويوسف إدريس ومحمود السعدنى ومصطفى محمود وصلاح حافظ ومحمد أحمد فى القصة القصيرة، وزكريا الحجاوى وأحمد رشدى صالح وشوقى عبدالحكيم وفاروق خورشيد فى الأدب الشعبى.. وغيرهم كثيرون، جيش من الشباب بدأ يتنفس تحت سقف العهد الجديد، وانفتح لهم المجال، وانفتحت أبواب للنشر فى جرائد مثل المساء، ومجلات مثل الرسالة الجديدة والتحرير، بالإضافة إلى مطبوعات مستقلة ودور نشر خاصة، أزعم أن طه حسين وصحبه (العقاد والحكيم وآخرين) لم يستطيعوا استيعاب هذا الجيش الجرار، فراح العقاد يسمهم ويحرض عليهم عندما قال على عبدالعظيم أنيس ومحمود أمين العالم: (إننى لا أحاور همابل أقبض عليهما)، وكتب الحكيم سلسلة مقالات يهاجم فيها الواقعية، ثم ضمها فى كتاب فيما بعد أمحاه (أدب الحياة).. وانفرد طه حسين بردود حادة، وربما مهينة، ولكنها تنطوى على وجهة نظر تخصه وتخص جيله، إن الأذواق تختلف حقا، وهذه هى طبيعة التطور، وطبيعة الأشياء، وفى تلك الفترة حدثت المعركة الفيصل بينه وبين أنيس والعالم، عندما كتب سلسلة مقالات، ذات عناوين واضحة وجامحة مثل: (من «أجل ثقافة مصرية»، وفى الأدب الواقعى، و«من أجل أدب واقعى» كتب الدكتور طه حسين مقالا فى جريدة «الجمهورية» بتاريخ 5/21/1954، تحت عنوان «صورة الأدب ومادته»، ليس ردا مباشرا على ما كتبه أنيس والعالم، بل هو عرض لوجهة النظر الأخرى، ففيه يقدم الدكتور طه حسين النظرة النقدية السائدة، والتى تقوم على أساس أن «اللغة هى صورة الأدب، وأن المعانى هى مادته»..
وأضاف الدكتور عنصرا ثالثا فى الدراسة وهو ما سماه «عنصر الجمال».. وبالإضافة لمقال طه حسين، كتب العقاد فى أخبار اليوم، فانبرى أنيس والعالم بالرد عليهما فى جريدة «المصرى».. بثلاث مقالات: (الأدب بين الصياغة والمضمون، و(عبقرية العقاد)، و(حصار المعركة).. والأمر أيضال لا يختلف عما أثاره الشرقاوى، فهما يكنان تقديرا للأستاذ، ورغم الاختلاف، ورغم حدة الخطاب، ولكنهما يخاطبانه بصفة العميد.. يبدأ المقال ب(قضية أثارها عميد الأدب، ما كان لنا أن نحجم عن تحديد موقفنا، وهى قضية حمل أعباءها عميد الأدب وحواريوه من أدبائنا القدامى طوال ربع قرن من تاريخنا القومى الحديث، والقضية هى طبيعة العلاقة بين صورة الأدب ومادته أو بين صياغته ومضمونه، ونحب أن نقرر أولا أن ما تهتم به حركتنا النقدية من تغليب للجانب الاجتماعى، إنما يرجع إلى ما أشاعه هؤلاء الأدباء القدامى من فهم قاصر لهذه العلاقة بين صورة الأدب ومادته، وإلى ما يتميز به أدبهم من جمود وانفصال عن حركة الحياة، وإلى ما رسبوه فى وجداننا القومى من قواعد نقدية فجة لا تقضى بالإبداع الفنى إلا إلى أزقة مقفلة)، ويستطرد التعقيب أو الرد، ويقدم ما يشبه المانيفستو النقدى للحركة الأدبية الناهضة والفنية، وجاءت فى المقال مفاهيم تكاد تكون جديدة على الحركة الأدبية المصرية، ومما لم تتطرق إليه الأقلام، فاستشاط غضب العميد، فكتب ساخرا مقالا تحت عنوان: (يونانى فلا يقرأ).. وذلك فى جريدة الجمهورية بتاريخ 5/3/1954، وأراد فيه طه حسين تسخيف ما كتبه أنيس والعالم، وهذا الأمر جعل الناقدان الشابان بالرد عليه مرة أخرى بمقال بعنوان «حصاد المعركة»، وتدخلت فى المعركة أطراف أخرى، حتى بعد أن صدرت مقالات الناقدين الشابين فى كتاب عنوانه: «فى الثقافة المصرية» عن منشورات دار الفكر الجديد ببيروت، وكتب له مقدمة المفكر اللبنانى حسين مروة، وكان الكتاب بمثابة مانيفستو الحركة الجديدة، وظل هكذا حتى رحيل الناقدين، ورغم صدور الكتاب إلا أن طه حسين كتب مقالا فى مجلة «الرسالة الجديدة» تحت عنوان (واقعيون) ليسخر فيه مجددا من الحركة الواقعية، وكان المقال فى أبريل 1956، واستهله ب: (ولكنهم يفهمون مذهبهم على نحو مريح لا يكلفهم جهدا ولا عناء، وإنما يغريهم بالنقل والتسجيل وهم واعون وكان طه حسين يكتب فى تلك الفترة عن أعمال يوسف السباعى وثروت أباظة وغيرهم ممن يرى فيهم ذوقه، فكتب عن أعمال خمسة ليوسف السباعى وهى: (إنى راحلة، وطريق العودة، ورد قلبى، وليل له آخر، وأقوى من الزمن، ولا داعى لنقتبس عبارات المديح والتقريظ التى تطرز هذه المقالات الخمس، ويكفى أن يكتب عن «طريق العودة» التى نبذها جميع النقاد آنذاك فيقول: (قصة رائعة بأوسع معانى هذه الكلمة وأدقها، ويكتب عن «ليل له آخر»، يظهر أن يوسف السباعى قد أزمع أن يكون المؤرخ الحقيقى لعهد الثورة، كما يصنع كبار القاصين الغربيين بالنسبة إلى الأحداث الكبرى التى تحدث فى أوطانهم منذ ابتكر والتر سكوت أو كاد يبتكر هذا النوع من القصص التاريخى، أى أن طه حسين قد انحاز إلى كتابة أدبية تعبر عن ذوق قديم، وربما استهلاكى، لا ينتج سوى التسلية والاقناع الأجوف ولذا جاء مقاله «واقعيون»، الذى رد عليه فى الشهر التالى مباشرة الدكتور محمد مندور وبمقال عنوانه: «نحن واقعيون».. يدافع فيه عن اتجاه الواقعية قائلا: «إن الدعوة إلى الأدب الواقعى دعوة خيرة مخلصة، وهى أوجب ما تكون فى مرحلة حياتنا الحاضرة التى أخذنا نراجع فيها القيم وتكشف عن النقائص ومواضع الضعف، ونعمل جاهدين على أن نخفف من آلام الحياة لجمهرة هذا الشعب الصابر المضنى، واستمر السجال فكتب كما أسلفنا توفيق الحكيم، ونزل يوسف السباعى بهراوة ضخمة تمزق ظهور كل النقاد والجدد، وبالتالى كتب على الراعى فى مجلة الإذاعة.
وكتب أحمد رشدى صالح فى مجلة التحرير، واستمر وطيس المعركة حاميا لم تهدأ نيرانه، وفى تلك الفترة صدر كتاب عن «دار الفكر» يجمع عددا من القصص القصيرة، وكتب مقدمته طه حسين، وكتب دراسة نقدية عنه محمود أمين العالم، وضم أسماء شابة آنذاك مثل عبدالرحمن الشرقاوى ويوسف السباعى ومحمود السعدنى ومصطفى محمود، والذى لم تعجبه الطريقة التى عوملت بها القصص من قبل طه والعالم، فكتب مصطفى محمود فى صباح الخير (26 يناير 1956) مقالا تحت عنوان (مذبحة القلعة وأين يقف حق الناشر؟) شن فيه هجوما على طه حسين والعالم والناشر أيضا، كتب واصفا ما حدث للكتاب المشاركين فى الكتاب, وعقب أحمد بهاء الدين بمقال ينتصر فيه لمصطفى محمود فى العدد التالى وعقب الناشر لطف الله سليمان ومبرءا نفسه من أن يكون خدع مصطفى محمود وشركاءه فى الكتاب. وآخر فصل فى معركة الواقعية عندما كتب طه حسين مقدمة للمجموعة القصصية الثانية «جمهورية فرحات» ليوسف إدريس، والتى صدرت فى يناير 1956، وكان يوسف إدريس آنذاك قد خرج توا من السجن فى صفقة سياسية مع الدولة، لكى تستعين بهم فى مهمة عاجلة بالخرطوم، ويبدو أنهم احتضنوه بقوة فكلفوا طه حسين يكتب مقدمة له.. ،وكتب طه حسين المقدمة، وبذلك يكون قد أرضى السلطة، ولكنه أرضى ضميره أيضا فكتب ما لا يروق لإدريس ناصحا له: «أن يرفق باللغة الفصحى العربية ويبسط سلطانها شيئا ما على أشخاصه حين يقص كما يبسط سلطانها على نفسه..».
وصمت إدريس ولكنه عندما ضم مجموعتين «أرخص ليالى» و«جمهورية فرحات» فى كتاب واحد، أبقى مقدمة طه حسين، ولكنه جعلها مؤخرة فى نهاية الكتاب وقال فى مقدمته: «آثرت أن أضم لتلك المجموعة المقدمة المهمة التى تفضل أستاذنا الدكتور طه حسين وطلب منه عقب صدور أرخص ليالى أن يكتبها لجمهورية فرحات، إنها (بركة) من طه حسين مهما اختلفنا فى الرأى حولها لا أظننى أن أعيد طباعة المجموعة دون أن أشرفها بطبعها مع المقدمة، وهكذا يريد يوسف إدريس بهذه الجمل القصيرة أن يؤكد على ثلاثة أشياء، الأول أن طه حسين هو الذى طلب منه أن يكتب المقدمة، ثانيا، فإدريس يعلن اختلافه مع طه حسين حول ما جاء بالمقدمة، ثالثا فهو يصف المقدمة بأنها «بركة».. وهذا ساخرا، فضلا عن الإطاحة بالمقدمة من أول الكتاب إلى آخره، ولكن طه حسين لم يترك وجدان يوسف إدريس الذى يكن له كل التقدير والاحترام مع الاختلاف، فكتب مقالا عام 1988، أى بعد رحيل العميد بخمسة عشر عاما تحت عنوان: «أحفادك يا طه».. واصفا الحركة الدائبة والمبشرة فى معرض الكتاب، فيكتب: «يا أستاذنا طه حسين الذى قلت فى أعوام عجاف، أخشى أن تكون القاهرة قد فقدت دورها كعاصمة للثقافة، ألا تحس فى مرقدك العظيم الغريب بدبيب الآلاف والآلاف من القراء والمتعلمين» وهنا لا ينهى إدريس خلافات بابل هو يرممها، ويعيد لها بريقها، واحترامها.. وما حدث ويحدث دوما بين الأجيال من شد وجذب وخلافات تصل إلى حد تكسير العظام، ما هو إلا اختلاف أجيال وأذواق ومراحل، وهذا يحدث بين النفوس والقامات الحقيقية، بعيدا عن السفاسف التى لا يرجى منها سوى التحطيم والتعتيم، والاستقواء بالسلطة الحكومية على السلطة الثقافية، فعندما ينسى المسئول أنه ناقد، فله أن يفعل ما يريد، يمنع ويمنح ويقصى ويجذب براحته، وعليه أن يفرض ما يريد ومن يريد، ولكن لا يصح إلا الصحيح. رحم الله طه حسين الذى ما زال يثير الجدل، ويفجر طاقات فكرية فى علم المجهول.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.