لا كلام الآن إلا عن «الدستور» حتى الذين لا يعرفون الألف من كوز الدرة فى عالم السياسة والعلوم السياسية أصبحوا يزوقون كلامهم بكلمة الدستور! فى الرياضة والفن والأدب والصحافة سوف تجد كلمة «الدستور» محشورة حشراً بدون داع لكنها لزوم الفشخرة الثقافية وادعاء المعرفة الشاملة الكاملة!! اختفت من حياتنا مصطلحات كنا نرددها «عمال على بطال» بمناسبة وبدون مناسبة نفهمها أو نجهلها لكننا نلوكها مثل «اللبانة» من عينة «المنظومة» و«الآلية» و«الحراك» و«الشفافية» إلخ. سعد زغلول وفى كل الكلام الدائر الآن عن موضوع «الدستور» سواء بالهجوم على دستور 1971 والتنديد به أو الترحم على دستور 1923 الذى كان منحة من الملك فؤاد أو مشروع دستور 1954 الذى أجهضه الجناح الديكتاتورى من ثورة يوليو وقتها. نعم وسط موالد الكلام الدائر الآن نسينا -ربما عن سهو ولا أقول عن جهل - أن نتذكر أو نشير إلى دستور سنة 1930 والمعروف باسم دستور صدقى باشا «رئيس وزراء مصر وقتها». نعم كان هذا دستورا سيئ السمعة على المستويين السياسى والشعبى وفى كل الكتابات السياسية التاريخية ومذكرات المشاهير من رجال السياسة المصرية لن تجد كلاماً طيباً عن هذا الدستور المشبوه والذى وصفه المؤرخ الكبير «عبدالرحمن الرافعى» بأنه دستور يضيق من سلطة الأمة وسن قانون انتخاب جديداً يجعل الانتخاب على درجتين يحصر حق الانتخاب فى أضيق الحدود. ويضيف الرافعى قائلا: كان إلغاء دستور 1923 اعتداء منكراً على حقوق الشعب واستخفافا به لأن هذا الدستور هو حق أساسى كسبته الأمة بعد جهاد طويل مرير ومن أحكامة الجوهرية أنه لا يجوز تعديله إلا بقرار من مجلسى الشيوخ والنواب بالأغلبية المطلقة لأعضائه جميعاً ثم بتصديق الملك على هذا القرار ثم يصدر المجلسان بالاتفاق مع الملك قرار ما بشأن المسائل التى هى محل للتعديل، ولا تصح المناقشة فى ذلك فى كل من المجلسين إلا إذا حضر ثلثا أعضائه، ويشترط لصحة القرارات أن تصدر بأغلبية ثلثى الآراء. جما عبد الناصر (المادة 157 من الدستور) فإذا كانت الحكومة لا تملك تعديل أى مادة فى الدستور إلا بهذه الأوضاع والقيود فلا تملك من باب أولى إلغاءه ووضع دستور آخر بدلا منه. وفى ملاحظة بالغة الأهمية والدلالة يوضح المؤرخ الكبير الأستاذ الدكتور يونان لبيب رزق فى موسوعته المهمة «تاريخ الوزارات المصرية» ويقول: بالرغم من أن وزارات عديدة قد عمدت إلى تعطيل دستور 1923 فإن وزارة واحدة هى التى لجأت إلى استبداله بدستور جديد هى وزارة «صدقى باشا» ويبرر الرجل صدقى باشا إلغاءه لدستور 1923 بأنه كان «منقطع الصلة بالماضى». إلا أن الحقيقة التى تؤكدها دراسة الدستوريين دراسة مقارنة هى أن الهدف من وراء وضع الدستور الجديد كان تدعيم سلطة القصر على الحياة السياسية فى مصر تماماً باختصار فإنه كما كانت الوزارة الصدقية وزارة ملكية فإن الدستور الذى وضعته هذه الوزارة كان بدوره دستوراً ملكياً أو على حد تعبير صحيفة الأحرار الدستوريين السياسة التى شاركت فى الهجوم على الدستور الجديد فأسمته دستور الحكومة بينما أسمت دستور 1923 دستور الأمة!! وكان حزب الوفد ورئيسه مصطفى النحاس باشا على رأس الذين احتجوا وأدانوا إلغاء دستور 1923 وأيضا مقاطعة الانتخابات!! السادات ومن اللافت للنظر القول بأن الوفد قبل ذلك بسنوات كان قد هاجم لجنة الثلاثين التى أعدت دستور سنة 23 ووصفها بأنها لجنة «الأشقياء». وفى تفسير ذلك يشرح الكاتب الصحفى الكبير «محمد زكى عبدالقادر» فى كتابه المهم والبديع «محنة الدستور» فيقول: ولما صدر الدستور انتقده الكثير فى مواضع متعددة ولكن هذه الانتقادات لم تتجاوز النشر فى الصحف أو الخطابة فى المجتمعات، وفهم أن الوفد سيشترك فى الانتخابات وكان هذا الموقف من جانبه سبباً فى حملة من الأحرار الدستوريين عليه إذ قالوا كيف يستنكر الوفد التصريح والدستور ثم يشترك فى تنفيذهما؟ وقد رد سعد زغلول على ذلك بقوله المشهور: إن الاستنكار شىء والتنفيذ شىء آخر. ؟؟ ورغم كل ما يقال من عيوب وسيئات سواء فى دستور 23 أو دستور 30 فقد كان بكل من الدستورين مادة خطيرة ومهمة لم يتضمنها أى دستور سواء مؤقتاً أو دائماً منذ قيام ثورة 23 يوليو وحتى الآن. فى دستور 23 كانت المادة «161» تقول بالنص والحرف الواحد ما يلى: مخصصات جلالة الملك الحالى هى 000,150 جنيه مصرى «مائة وخمسون ألفا» ومخصصات البيت المالك هى 512,111 جنيه مصرى. وتبقى كما هى لمدة حكمه وتجوز زيادة هذه المخصصات بقرار من البرلمان واحتفظ دستور 30 بنفس منطوق هذه المادة بمفرداتها المالية ولكن تحت المادة رقم مائة وخمسين من الدستور. مبارك شىء لا يصدقه عقل!! ففى الحكم الملكى الرجعى كانت الدساتير فيه تنص على مرتب أو مخصصات الملك وأيضا البيت المالك أما فى كل دساتير الحكم الجمهورى ودساتيره المؤقتة ودستوره الدائم فلا كلام مطلقا البتة حول هذه الأمور!! ولا أعرف -بصدق وبجد- ما هى الظروف والملابسات التى دعت أساتذة وفقهاء القانون الدستورى الذين شاركوا فى إعداد ووضع دساتير مصر المؤقتة ودستورها الدائم إلى تجاهل هذه المادة الخاصة بمخصصات الحاكم أوالرئيس فى الدستور؟! هل تلافوا وضعها والنص عليها حرجاً من رؤساء ما بعد 23 يوليو1952 - محمد نجيب وجمال عبد الناصر وأنور السادات وحسنى مبارك- مع كامل الاحترام والتقدير للمنصب الرئاسى!! لقد تغيرت الدنيا ولم تتغير بعض العقول وربما أغلبها فى مختلف مناحى ومجالات الحياة. إن مشكلة مصر الحقيقية ليست فى دساتيرها الرجعية أو الثورية الملكية أو الجمهورية التى حددت مدة الرئاسة بدورة أو دورتين أو جعلتها مدداً مفتوحة إلى آخر العمر وبلا حدود أو قيود! مشكلة مصر ببساطة فى تزرية القوانين أمس واليوم وأخشى أن أقول غداً أيضاً. اللهم احمنا من ترزية القوانين أما عيوب الدساتير فالشعب وثورته كفيلان بإصلاح هذه العيوب ووضع دستور جديد!!