في الأيام القليلة التي سبقت ثورة الغضب الثانية يوم الجمعة 27 مايو الماضي ، ونظرا لمروري اليومي من ميدان التحرير في طريق ذهابي وعودتي من عملي بشارع قصر العيني كنت أري تجهيزات الشباب لهذه الثورة كانوا يقفون في مجموعات يتناقشون ويتشاورون وكانوا يوزعون أوراقا علي المارة تحمل الطلبات التي سيطالبون بها يوم الثورة والحقيقة وجدت أن معظمها وإن لم يكن كلها مطالب عادلة وأعتقد أنه لن يختلف عليها أحد من الشعب وكان علي رأس هذه المطالب وضع حد أدني وأقصي للأجر، محاكمة مبارك ورجال نظامه. عودة الأمن بشكل مكثف في الشارع المصري، التأكيد علي حقوق المصريين في الخارج في الانتخابات، محاكمة كل الضباط المتورطين في قتل المتظاهرين، تطهير الإعلام، مطالبين بأن يكون إعلاماً ثورياً أي يعبر عن صوت الشعب، وحل المجالس المحلية.. وغيرها من الطلبات التي أراها طلبات عادية وعادلة.. والحقيقة أني لم أجد أبدا أي أثر لأي مطالب أو تحريضات ضد الجيش كما زعم الكثيرون وبعكس ما شاهدت علي مواقع النت عن ناس يحاولون الوقيعة بين الجيش وشباب الثوار ويصورونهم كخونة ومأجورين ومتدربين في الخارج، يعني رجعنا تاني لنغمة كنتاكي وعناصر مندسة وأصابع خارجية وغيرها من كلمات القاموس أيام الثورة الأولي !! ..ووجدت أيضا هجوما شديدا من الإخوان والسلفيين علي الثورة وإعلانهم الرسمي لمقاطعتها علي اعتبار أنها وقيعة بين الجيش والشعب «مش عارفة جابوا الكلام ده منين بالضبط»، هذا بالإضافة إلي لجوئهم «كالعادة» لأسلوب تخوين من سينزل في هذا اليوم واعتباره ملحدا كافرا!! كل هذا كان من خلال تصريحاتهم علي النت والصحف والمجلات والقنوات التليفزيونية ، ولكن الكارثة أن بعض من يسكنون في حلوان أكدوا لي أنه في يوم الخميس ليلة الثورة كانت هناك سيارات يستقلها رجال بذقون وجلاليب بيضاء يجوبون الشوارع وينادون في الميكروفونات بعدم النزول يوم الجمعة للمشاركة في المليونية ولو أن أحداً منهم شارك سيكون كافرا ملحدا.. يعني تاني رجعنا لنفس الأسلوب البذيء الذي اتبعوه أيام الاستفتاء علي الدستور وأوهموا البسطاء أن من سيقول نعم سيدخل الجنة ومن يقول لا مكانه النار وجهنم !! ومن خلال النت أيضا بثوا الرعب في قلوب الناس وأكدوا علي حدوث مخاطرة كبيرة في هذا اليوم لدرجة أنهم أسموها علي مواقعهم «بجمعة الخطر».!! هذا إلي جانب مواقع أخري أهمها موقع الضابط المصري المفصول واللاجئ السياسي في أمريكا الذي بث الرعب بدوره في قلوب الناس بترديده كلاما مؤكدا من وجهة نظره أن هذا اليوم ستحدث فيه حرائق كبري ستشمل منطقة وسط البلد والمتحف المصري.. وأكد أنه ستحدث مجازر للمتظاهرين وأن الميدان سيكون ممتلئا بالبلطجية المأجورين لإيذاء الناس، وأكد أيضا أن بعض القناصة استأجروا شققاً عديدة بالميدان لقنص المتظاهرين وقتلهم.. يعني باختصار صوروا للناس أن موقعة الجمل ستتكرر من جديد في ذلك اليوم !! وكانت نتيجة ذلك كله أن الرعب انتاب بالفعل كل الناس من مختلف الفئات لدرجة أنهم شعروا أن الحرب العالمية الثالثة ستنطلق من مصر في هذا اليوم !! وسمعت عبارات كثيرة يقولونها لبعضهم منها: «أوعي حد ينزل يوم الجمعة.. محدش يسيب بيته.. ربنا يستر ويعدي اليوم ده علي خير.. محدش عارف حيصل إيه». والمدهش أني علمت من صديقات لي أن نادياً شهيراً في مصر الجديدة ألغي كل التمرينات الرياضية الخاصة بأبنائهم في ذلك اليوم نظرا للظروف الصعبة التي ستمر بها البلد مع أن مصر الجديدة بعيدة كل البعد عن التحرير!! يعني كانت الناس مرعوبة لهذه الدرجة الرهيبة وتصورا أن دماء شهداء جدد ستغرق شوارع مصر من جديد !! ووسط هذه الأجواء الصعبة المشحونة ورغم كل هذه التحذيرات وكل هذا الرعب قررت أن أذهب إلي التحرير أنا وأبنائي، خاصة لما تأكدت أنها ثورة سلمية نظيفة وأنها ليست ضد المجلس العكسري علي الإطلاق إنما هي لمجرد تقديم بعض الطلبات التي يرغب الثوار في تنفيذها.. وأيضا قررت المشاركة بصفتي الصحفية.. كمحققة كنت أريد أن أري بعيني الواقع لأنقل الصورة كاملة غير مشوهة للناس الذين كانوا قد تشككوا في وطنية الثوار.. وعلي الرغم من مشاركتي وذهابي إلي الميدان عدة مرات أيام الثورة إلا أن شعوري هذه المرة كان مختلفا تماما عن المرات السابقة ، وكان له طعم تاني فقد كنت أشعر بالفخر بمصريتي ووطنيتي لنزولي أنا وأبنائي في مثل هذه الثورة التي من المفترض أن تكون خطرة للغاية وغير مأمونة العواقب كنا نعلم أننا ذاهبون إلي الميدان وقد نعود منه إلي بيوتنا مرة ثانية أو لا نعود!! والغريب أنه في لحظة دخولنا إلي الميدان كان أول هتاف سمعناه بقوة تزلزل المكان هو «الجيش والشعب إيد واحدة» في هذه اللحظة تمنيت لو أن كل مصري كان موجودا ليسمع هذا الهتاف الجميل الذي يؤكد أنها لم تكن أبدا ثورة ضد الجيش !! حقيقة ثانية أحب أن أؤكدها أن الأعداد في الميدان كانت كبيرة جداً.. وأقولها بالثلث رغم أنف الحاقدين والزاعمين أن الأعداد كانت قليلة!!! وعلي الرغم من الزحام الشديد والصعوبة البالغة في التحرك بداخل الميدان إلا أن الناس كانت منظمة جدا ويوسعون لنا الطريق للمرور وينادون علي الذين أمامهم وحولهم وسعوا يا جماعة لإخوانكم علشان يمروا ولم تكن هناك أية تحرشات من أي نوع. حقيقة مؤكدة أن هذه المليونية كانت في منتهي الحضارة والرقي!! وكان الشباب يمرون بأكياس كبيرة لجمع القمامة أولا بأول وكانوا حريصين علي نظافة الميدان وينادون بذلك طوال الوقت !! وعلي الرغم من حرارة الجو المرتفعة جدا هذا اليوم إلا أن ربنا أراد أن يكون مع المشاركين فكانت الشمس غائبة طول اليوم وسط غيوم كثيفة ، ولم تظهر أبدا حتي وقت الغروب مما لطف الجو تماما ولم نشعر بأي حر خاصة لما نزلت قطرات المطر المرطبة تماما للجو !! الكثيرون داخل الميدان كانوا يحملون لوحات تقول : «الدستور أولا» كما طالبوا بتأجيل الانتخابات البرلمانية ، والحقيقة أنا أضم صوتي لهم في ذلك لأنها رغبة كل من حولي من أصدقاء ومعارف ، فمعظم الناس تتمني هذا فعلا ويا ريت لا نربطه بنتيجة الاستفتاء علي تعديل الدستور فلا علاقة بين هذا المطلب والاستفتاء ، خاصة نحن نعلم جميعا أن الإخوان ضغطوا علي البسطاء ضغطاً شديدا سواء بالترهيب بقولهم إن قائلي لا سيدخلون النار أو بتوزيعهم الأرز والسكر في القري والنجوع الفقيرة. والحقيقة التي لا يعلمها الكثيرون أن كثيراً جدا من المسيحيين أعرفهم قالوا نعم وبعض الناس البسطاء حولي ولكنهم أكدوا لي أن سبب «النعم» ليست بسبب جنة ولا نار ، ولكن كان كل أملهم الاستقرار!! وكلهم نادمون عشان قالوا نعم ولم يروا أي استقرار حتي الآن ، فالانفلات الأمني لا يزال قائما وهو ما سيمثل خطورة ثانية علي إجراء انتخابات في ظل ذلك مما سينذر بحدوث مجازر.. أيضا لم يتحسن الاقتصاد خلال الشهرين الماضيين بل تدهور تدهورا شديدا !! يعني باختصار أدرك هؤلاء أن نتيجة نعم تساوت بلا!! كان الميدان يمتلئ بالمسلمين والمسيحيين ومحجبات ومنقبات ، ولكن كان هناك استياء عام من موقف الإخوان من مقاطعة تلك المليونية ! شهادة حق أيضا كانت كل الميكروفونات علي كل المنصات تنادي وتؤكد علي الموجودين بضرورة إخلاء الميدان في نفس اليوم ، وفي وقت مبكر وطالبوا بعدم الاعتصامات.. وأقول لكل من اتهم الثوار بتسببهم في إيقاف عجلة الإنتاج أن يكفوا عن هذا لأنهم يختارون فقط يوم الجمعة للتعبير عن أنفسهم في سلمية تامة ، وهو يوم عطلة رسمية وإذا كنتم أنتم سلبيون وتريدون ضياع حقوقكم وحقوق الشهداء وتريدون البقاء في البيت خليكم براحتكم ولكن علي الأقل دعوا الآخرين يأتون بحقوقهم وحقوقكم أيضا لأنه لا يزال الكثيرون لا يشعرون بأي تغيير ، لأن مبارك فقط سقط ورجاله لكن باقي النظام لا يزال موجودا بقوة ولا يزال يشعل الثورة المضادة لإحباط وفشل ثورة 25 يناير ويجب علي الجميع معرفة ذلك ، ويجب علي الجميع أن يعلم أيضا أنهم بسلبيتهم سيسلمون البلد للإخوان وحدهم ولن يكون لهم أي دور أو مكان وسطهم.. فإذا كنتم تبغون ذلك وترضون به فالزموا حزب «الكنبة» الذي تنتمون إليه وخلي «الكنبة» تنفعكم!!