انطلقت شائعات قوية حول قبول محافظ السويس محمد بدوى الخولى، الإنذار الإسرائيلى بضرورة تسليم المدينة للإسرائيليين، وعليه أن يخرج حاملا العلم الأبيض، ومعه كل المدنيين متجهين إلى الاستاد الرياضى، واستمر الاتهام يلاحق الرجل من قبل بعض مروجى الشائعات الذين قد هتف بعضهم «لا للمحافظ وهاتوا حافظ». محمد بدوى الخولى، كان قد عين محافظًا للسويس فى يونيو 1971 واستمر حتى أبريل 1974، وجاء اتهامه بأنه سوف يسلم مدينة السويس، وقت كانت تحاصرها القوات الإسرائيلية فى 24 أكتوبر ولمدة 3 أشهر، وتحاول احتلالها من أجل كسر نصر أكتوبر وحتى تكون السويس رهينة مثل الجولان. وللإنصاف ومن خلال مراجعة كثير من شهادات أبناء السويس، منهم رحمة الله عليه الشيخ على عبدالعزيز، الذراع اليمنى للشيخ حافظ وقد قمت بتسجيل اعترافاته، والاستماع إلى شهادات الأستاذ عبدالفتاح ابن المقاول إبراهيم عبدالعظيم، وسمير محمد على ابن البقال التموينى بشارع شميس فضلا عن شهادة عدد من الكتاب والصحفيين منهم «رياض سيف النصر» الذى كتب أفضل يوميات من دفتر أحوال السويس وعدد من قيادات منظمة سيناء والكاتبة الصحفية «فريدة النقاش»، بالإضافة إلى شهادة المؤرخ العسكرى اللواء جمال حماد. ويضاف إلى ذلك مجموعة الصور والمواقف على أرض الواقع، للرجل الذى آن الأوان لإنصافه ورد الاعتبار الوطنى والإنسانى له. وإليكم الوقائع :- فى التاسعة من صباح 25 أكتوبر اتصل سعد الهاكع، المدير المناوب بشركة السويس لتصنيع البترول، بالمقدم فتحى غنيم رئيس الدفاع المدنى بميدان الأربعين وأخبره أن الدبابات الإسرائيلية وصلت إلى الشركة وأنه مضطر للتسليم ومعه 300 عامل من الشركة ومن هيئة قناة السويس. كان المحافظ ومدير الأمن قد وصلا إلى غرفة الدفاع المدنى، وعندما رد عليهم المقدم فتحى، أخبروه أن قائد القوات الإسرائيلية التى احتلت مقر الشركة، يريد التحدث مع المحافظ أو مدير الأمن وتناول المحافظ السماعة وقال لسعد الهاكع إن المحافظ غير موجود وعندما سألوا عن القائد العسكرى قال إنه غير موجود. أخذ السماعة من سعد الهاكع ضابط إسرائيلى، وسأل أين المحافظ وكان يتحدث العربية بلهجة شامية، فأجابه بدوى الخولى المحافظ غير موجود، فطلب منه إبلاغ المحافظ بأنه مطلوب منه تسليم المدينة خلال نصف ساعة، وأن على المحافظ الحضور مع مدير الأمن والقائد العسكرى للسويس فى سيارة عليها علم أبيض، وبصحبتهم جميع المدنيين فى المدينة إلى الاستاد الرياضى، ويتعهد الإسرائليون بتأمينهم والمحافظة على حياتهم، وإذ لم يتم ذلك خلال نصف ساعة سوف تضرب المدينة بالطيران ويتعرض كل سكانها للإبادة. أبطأ المحافظ فى الإجابة على الضابط الإسرائيلى، فصاح الأخير عبر الهاتف «رد يا زلمه ليش ما بترد يا زلمة ؟» وأوضح الضابط فى نهاية إنذاره «أنه على اطلاع بأحوال المدينة فليس بها مياه ولا كهرباء ولا أحد لديه السيطرة على الجنود بداخلها، والدقيق قد اشتعل فيه النيران ولذا لا مفر من التسليم». فرد المحافظ «المحافظ مش هيسلم البلد وأنا لست مسئولا عن الموضوع وعلى كل حال الصليب الأحمر وصل»، فرد الضابط الإسرائيلي: «ما فى صليب أحمر أنت بتغشنى». وأكمل المحافظ: «وحتى هيئة الأمم وصلت» وأغلق سماعة الهاتف. بعدها اتصل المحافظ بالعميد عادل إسلام القائد العسكرى بالسويس وقال له «الإسرائيليون طلبوا منى التسليم وأنذرونى بضرب السويس إن لم نسلم خلال نصف ساعة» ما رأيك؟ فرد عادل إسلام: «أعطنى فرصة للتفكير». فاتصل المحافظ برائد الشرطة محمد رفعت شتا، قائد الوحدة اللاسلكية باعتبارها حلقة الاتصال الوحيدة بين السويسوالقاهرة وطلب المحافظ إبلاغ الرسالة التالية إلى المسئولين بالقاهرة «اليهود أنذرونى بالتسليم فى ظرف نصف ساعة وإلا سنضرب بالطيران ليس عندى مياه ولا ذخيرة ولا أسيطر على أى قوات ودقيقى يحترق.. أوامركم». بعد مرور 10 دقائق أعاد المحافظ الاتصال بالعميد عادل إسلام وسأله عن رأيه فقال أنا لم أقرر بعد، فرد المحافظ «قرارك استشارى والقرار قرارى». وأجاب عادل إسلام « أنا هاخد رأى الموجودين معى والمستشارين بتوعى». فسأله المحافظ « ومين هم المستشارين بتوعك» فرد عادل إسلام «الحاج حافظ سلامة» وانفعل المحافظ وقال فى غضب «وإيه قيمة رأى الشيخ حافظ فى هذا الموضوع ؟؟ إنت اتجننت يا عادل ؟؟ أنا عاوز أعرف رأيك العسكري؟؟» فرد قائلا «رأيى إللى تشوفه سيادتكم». وأنهى المحافظ الحوار الساخن «عمومًا عندما أتخذ القرار النهائى هقلك واحنا فى انتظار قرار القاهرة». ولم يكد ينتهى المحافظ من محادثته مع القائد العسكرى حتى دق جرس الهاتف ووجد الضابط الإسرائيلى على السماعة للمرة الثانية وكان يستعجل رد المحافظ وأجابه بدوى الخولى « أنتم كنتم هنا بالأمس ويمكن تجربوا الحضور مرة أخرى والمحافظ غير موجود» وأغلق التليفون، وطالب المحافظ قطع الخط التليفونى المباشر بين شركة السويس لتصنيع البترول وغرفة الدفاع المدنى. فى انتظار رد القاهرة وبالفعل، فصل الخط وانقطعت الاتصالات مع الإسرائيليين، وكان الرائد رفعت شتا بمجرد تلقيه رسالة المحافظ، قد أبلغها عبر اللاسلكى إلى العميد محمد النبوى إسماعيل، مدير مكتب ممدوح سالم وزير الداخلية ،وبعد مرور 20 دقيقة ردت القاهرة على رسالة محافظ السويس والتى تم عرضها دون شك على الرئيس السادات. ولأهمية رسالة القاهرة، أبلغها العميد النبوى إسماعيل بنفسه إلى الرائد رفعت شتا، وطلب منه إعادة تلاوتها عليه ليتأكد من أنه استقبلها صحيحة، وكان نص الرد: «لا تسليم بمعرفة المحافظ.. يتم الدفاع عن السويس.. وعلى المحافظ ومدير الأمن الانضمام إلى المقاومة الشعبية». وفى التاسعة والدقيقة 55 أبلغ الرائد شتا نص الرسالة إلى المحافظ الذى رد قائلا «هننضم للمقاومة الشعبية ونموت شهداء». كما رد اللواء محيى خفاجى مدير الأمن « قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا». وطلب المحافظ عادل إسلام وقال له«القاهرة ردت يا عادل لا تسليم»، ولأن أنباء اتصالات الإسرائيليين بالمحافظ وإنذارهم له بالتسليم قد انتشرت بين كثير من المواطنين، وأحدثت بلبلة، طلب المحافظ من المقدم فتحى غنيم أن يجوب بسيارته شوارع المدينة، ويذيع على الناس بمكبر الصوت «أن المحافظ رفض الإنذار الإسرائيلى بتسليم السويس، وأن المدينة ستقاوم وعلى كل فرد أن يتخذ لنفسه ساترًا خشية أن ينفذ الإسرائيليون تهديدهم بضرب المدينة بالطائرات». مخبأ المحافظ بشارع الأربعين وطلب المحافظ من الشيخ حافظ سلامة أن يذيع على المصلين رفض الإنذار الإسرائيلى بتسليم السويس، وأن ينصح الناس بعدم التجمع خوفًا من الغارات الجوية، وانتقل المحافظ من مكتبه إلى محل البقال التموينى بشارع شميس بالأربعين، الذى يملكه الحاج محمد على كما كان له مكان بديل يقيم فيه بمنزل الحاج المقاول إبراهيم عبدالعظيم، ويدير منه المعركة السويس. وطلب المحافظ من مدير التموين علاء الخولى، توفير الخبز والاحتفاظ بمخزون الدقيق، وترشيد الاستخدام بصرف رغيفين فقط لكل مواطن، عدا يومى الثلاثاء والخميس رغيف واحد بحجة الصيانة. وأمر بتوفير مياه الشرب فى خزانات احتياطية، لتوفير المياه للمخابز والمستشفيات، بعد أن وضع الإسرائيليون حاجزًا ترابيًا على ترعة السويس، كما أعلن المحافظ أن منطقة السويس عسكرية وأصدر إنشاء محكمة عسكرية لضبط الخارجين عن القانون، كما كان المحافظ فى متابعة دقيقة مع القاهرة ومع قيادات الجيش الثالث الميدانى. وكانت دائما قراراته جماعية من خلال المشاورة مع قيادات الأمن والمخابرات العسكرية والاتصال اليومى بالجيش الثالث الميدانى. عمل محافظ السويس فى ظروف صعبة وكان مثلا للإيثار والتضحية فى ظروف خطيرة، آن الأون أن يرد الاعتبار لمحافظ السويس اللواء محمد بدوى الخولى، وتكريم اسمه وأسرته، وأبطال المقاومة وأسماء قيادات تلك الفترة.