دائمًا نجد الحياة تمنحنا السعادة وتفاجئنا بالآلام؛ يأتى هذا المقال مختلفًا عما سبقه فهو يحمل بين طياته حدثًا سعيدًا وآخر حزين.ولتكن البداية بالحدث السعيد وهو احتفائى مع نفسى بذكرى اللقاء الأول. ففى مثل هذه الأيام من العام الماضى تشرفت بزيارة مقر المجلة العريقة الرائدة «صباح الخير» ومعى شقيقتى «صباح» وتم ذلك بعد الاتصال بالصديق الغالى الأستاذ محسن رفعت وتحديد موعد الزيارة والتى تشرفت أكثر فيها بمقابلة الشاب الهمام رئيس التحرير الأستاذ طارق رضوان؛ وقد كان ذلك اللقاء ثريًا ورائعًا خرجت من مكتبه وأنا أحمل تشريفًا وتكليفًا بأن تكون لى صفحة بالمجلة أكتب فيها ما شئت بعيدًا عن السياسة.. طبعًا لا أستطيع وصف ما شعرت به فى تلك اللحظات، فقد توقفت عند تلك النقطة لأخذ خط عودة إلى الماضى إلى كل الجهابذة والأسماء الكبيرة والأقلام المبدعة؛ إلى السيدة روزاليوسف؛ إلى الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس الذى أتحف العالم العربى جميعًا برواياته التى قرأناها وشاهدناها على السينما والتليفزيون بعد أن حول معظمها لأعمال فنية جسدها أروع النجوم، لقد كنت أتخيل وجودهما مع كثيرين غيرهم ممن تحلقت أقلامهم ثم أرواحهم داخل وحول صفحات المجلة التى حافظت على موقع الصدارة بين المجلات..هل سأكون يومًا واحدة منهم؟ لابد أننى فى حلم.. ولكن صوت محسن وهو يحيطنى علمًا ببعض الفنيات أكدت أننى فى علم، وانتهت الزيارة الأولى لصباح الخير لتبدأ رحلتى معها.. وعدت لمقر سكنى بوسط البلد شارع محمد فريد، عدت أنا وصباح سيرًا على الأقدام ومازلنا نتذوق طعم الشاى المظبوط المر الذى ورطتنا فيه صباح عندما سألنا محسن ماذا نشرب؛ فردت صباح «شاى مظبوط» وطبعًا نحن فى السودان عندما نقول شاى مظبوط نعنى أن يحتوى على سكر حتى يصير حلو الطعم ولم نستطع التفوه بكلمة وخجلنا أن نعلق أو نطلب ذيادة سكر وشربناه وعرفنا فيما بعد من محسن ماذا نوصف الشاى أو القهوة «سكر ذيادة» ومع ذلك تجنبت اختيار الشاى فى الزيارة التالية وطلبت عصير ليمون مثلجًا لم أذق له مثيل من الروعة من الرجل الطيب صاحب الابتسامة الودود.. له منى التحية.. وطبعًا تحوطًا قلت له سكر ذيادة لا أدرى إن كانت عبارة فى محلها أم أصابتنى عقدة الشاى المظبوط. المهم عندما وصلت كنت فى قمة السعادة ولم أضيع زمنًا وأمسكت الورق والقلم الذين لا يفارقانى أبدًا وكتبت.. كتبت أول مقال كان صباح الخير بعيون سودانية كان وجه شقيقتى صباح يطل من خلال الصفحة، فقد كانت محور المقال فلها علاقة تربطها بالمجلة وهى أنها تحمل اسمها فقد كانت الوالدة أطال الله عمرها شغوفة بحب القراءة ومتابعة للمجلات ومن ضمنهم كانت صباح الخير. رحيل قيثارة الطرب السوداني فجعنا بخبر رحيل قامة فنية بعد رحلة معاناة مع المرض خرجت روحه الطاهرة على أثرها بمستشفى الزراعيين بالقاهرة هو الفنان عبدالعزيز المبارك، وقد كان خبر رحيله مؤلمًا فقد أسعد الشعب السودانى بأدائه الرائع وفنه المحترم الذى تشبع به منذ نعومة أظافره بمدينة ودمدنى حيث ولد وتربى فى وسط يتنسمون فيه الفن والإبداع، فقضى فترة دراسته فيها وعمل موظفًا بوزارة الثقافة، حتى جاء يومًا عقد العزم فيه على الرحيل للخرطوم بتشجيع من المرحوم احمد المبارك لصقل موهبته بدراسة الموسيقى حيث وجد من الاحتفائية والكرم الفنى بأن قدم له زميليه الذين سبقاه.. ثنائى العاصمة والطيب عبدالله وإبراهيم حسين ثلاث أغنيات دعمت بدايته وذلك إيمانًا بموهبته الفذة. كان الفنان عبدالعزيز المبارك نشطًا مؤمنًا بما يُقدم، فكان خير سفير للأغنية السودانية بالخارج فتغنى بلغات غير عربية منها الإثيوبية؛ فقدم الأغنية الشهيرة «نانو» فى مناسبة سياسية هى المصالحة بين الرئيسين جعفر نميرى ومانقستو، فقوبلت بالحماس وتجاوب معها شعب إثيوبيا، بعدها لاقت الأغنية رواجًا واسعًا وصار يرددها المطربون الشباب فى حفلاتهم لفترة طويلة. لم يكن للفنان عبدالعزيز المبارك حدودا للطموح إذ لم يكتف بما أحرزه من نجاح فى بلده فقط ولا بلغته ولكنه اجتاز نحو العالمية بخطى واثقة وقدم ثلاثة ألبومات باللغة الإنجليزية أنتجتها شركات أوروبية حوت حوالى ستين أغنية كانت نتاج سفريات تجواله لأوروبا والولايات الأمريكية، ولم يكتف أيضًا باحترافيته لفن الغناء فسجل حضوره على المسرح، فوقف على خشبته مشاركًا الفنانة الراحلة فائزة كمال بطولة مسرحية «جواهر» التى كتبها أحمد البدوى المبارك قدمت على مسرح قاعة الصداقة إلا أن فائزة كمال اعتذرت عن مواصلة العروض لارتباطها بالتزامات أخرى لتعقبها الفنانة عزة لبيب. إن سيرة الفنان عبدالعزيز المبارك سيرة تحمل الكثير من الوقفات لا يمكن حصرها أو التطرق لها إلا فى مساحات واسعة سعة تجربته الفنية التى امتدت لثلثى عمره، ولا نملك غير الدعاء له بالمغفرة والرحمة والقبول الحسن.