وتمر السنون علي رحيل أستاذنا إحسان عبدالقدوس.. وتبقي ذكري جميلة في وجداننا.. ربما دهشنا عندما علمنا أنه قد مر علي رحيله عشرون عاما.. كم من الأحداث مرت بنا خلالها علي المستوي العام والعالمي والخاص.. أحيانا ينهمك الفرد في أموره الخاصة وعمله فلا يشعر بمرور الزمن إلا عندما يري فجأة طفلا لم يره منذ سنين أصبح شابا.. أو يقابل وجها لم يلتق به من زمن. أو تأتي ذكري عزيز علينا رحل. - الصورة الأولي من الذاكرة في بناء قديم، وفي ممر طويل يصل الحجرات القليلة ببعضها كانت مكاتب المحررين لمجلتي روزاليوسف وصباح الخير، وكان خلف مكتب لويس جريس باب جانبي لحجرة إحسان عبدالقدوس مغلق دائما فكان الباب الرئيسي لحجرته يفتح علي حجرة صغيرة بها مكتب سكرتيرته نرمين والصحفية الكبيرة مديحة. كان لويس يشرف علي تدريبنا الصحفي، نحن الصحفيين والصحفيات الجدد في مجلة صباح الخير، الذين كانوا يدرسون في قسم الصحافة بكلية آداب القاهرة. كنت عندما أقف أمام مكتبه أتلقي الملاحظات أنظر أحيانا إلي الباب المغلق.. خلفه أتخيل إحسان. إنه دائما كان يكتب في مكتبه، فلم أره إلا بعد عدة أشهر من ذهابي إلي البناء القديم. كنت أقف مع زميلات أمام مكتب لويس عندما مر إحسان في الممر الطويل وتوقف ينظر إلينا.. خفت.. هل أحدثنا ضجة أقلقته فجاء يؤنبنا؟!.. لكنه سأل لويس بصوت هادئ.. هل نحن بنات الصحافة الجدد؟!.. قدمنا لويس له. فقال كلمات مشجعة لنا.. بقيت لحظة سارحة، كانت أول مرة أري إحسان الكاتب الذي كنت أقرأ رواياته في مجلة روزاليوسف خلسة! فقد كان أبي يخفي عني المجلة عندما تظهر رواية لإحسان! ومع ذلك كنت أتحايل علي أخذها وقراءتها.. تذكرت تلك اللحظة ضحكات أبي عندما أخبرته أنني أتدرب في دار روزاليوسف! وتمر الأيام علي تدريبي العملي للصحافة ودراستها، وأحبها فأعمل بها بالقطعة في الإجازة الصيفية.. وكانت ضمن الجهات التي عملت بها جريدة المساء التي كان رئيس تحريرها خالد محيي الدين.. كنت أكتب تحقيقات صحفية عن آمال الناس البسطاء وآلامهم في باب يوميات الشعب.. كنت ضمن كتيبة من الشبان والشابات نعمل في هذا الباب ليعرف المسئولون ماذا يريد الشعب.. كنا في الأعوام الستة الأولي من الثورة.. وفي عام 1958 عندما أكملت دراستي النظرية في قسم صحافة وتخرجت اخترت العمل في المجلة لأنها تناسب أحلامي الأدبية والاجتماعية عن الجرائد اليومية.. ووجدت نفسي يوما تتحرك مشاعري وأكتب قصة قصيرة، وضعتها بتردد أمام لويس جريس فقرأها وسلمها لرئيس التحرير لصباح الخير أحمد بهاء الدين، ورسمها الفنان حسن فؤاد ووجدتها منشورة في المجلة.. كدت أطير من الفرحة. وفي غمرة فرحتي بخطواتي الأولي في طريق فن بحثت عنه بجدية كتب أحد كتاب الجريدة المسائية التي عملت بها فترة هجوما شديدا علي في عاموده اليومي.. لأنه عرفني صحفية أكتب التحقيقات من أفواه الناس ولا يمكن أن تكون أنا التي كتبت القصة بهذا الأسلوب الأدبي والمشاعر الأنثوية!! لابد أنه إحسان عبدالقدوس هو الذي كتبها ولأني فتاة غريرة فقد وافقته علي أن يستخدم اسمي الناشئ لدواعي الإثارة الصحفية!.. وبعد أن استهزأ بي الكاتب أشفق علي لأني سأسير في طريق الضلال!! ذهبت إلي البناء القديم غاضبة.. باكية وطلبت من نرمين سكرتيرة إحسان أن أقابله للضرورة وناولتها الجريدة، دخلت بها إلي مكتبه ثم ناداها لأقابله. بهدوء كان يقرأ ما كتبه الكاتب.. ثم نظر إلي وابتسم.. تعجبت من هدوئه وطلبت منه أن يرد علي الكاتب.. زادت ابتسامته وسألني.. هل هو الذي كتب القصة أم.. أنت.. قلت.. أنا.. قال استمري في كتابة القصص فهذا هو الرد علي مثل هذه الافتراءات بالعمل وليس بالكلام. وبدأت أكتب في باب الحكاية في صباح الخير عن مشاكل الفتاة وآمالها، بجانب الموضوعات الصحفية التي كنت أشترك فيها.. وفي عام 1959 اختارني إحسان لأعمل في مكتبه، أساعد نرمين التي اشتكت من تضاعف العمل عليها، وعلمت أنها هي التي اختارتني لأزيح عنها مسائل المطبعة والمراجعة ومقابلة الأجانب؛ لأني كانت لدي خبرة سابقة مع أحمد بهاءالدين والذي كان قد ترك مجلة صباح الخير ذلك الزمن. - الحب كان يجمعنا والأمان لبعضنا في فترة الثلاث سنوات التي عملت فيها سكرتيرة فنية لإحسان كنت مسئولة عن كتاباته في المطبعة وقراءة البروفات، وتلخيص الموضوعات التي تهمه في الجرائد العربية والأجنبية، وقد أضافوا مكتبا صغيرا لي في الحجرة الصغيرة مع نرمين ومديحة.. وقد كانت فترة مهمة في حياتي العملية.. فقد تعلمت من إحسان عبدالقدوس الكثير. فن الكتابة الصحفية والأدبية، وفي حياتي الاجتماعية توطدت صلتي بسكرتيرته نرمين ومازالت الصداقة القديمة تجمعنا لنتذكر تلك الأيام الرائعة بالحب والمرح والجدية.. كان البعض يختلف مع فكرة لإحسان أو موقف سياسي.. لكن مهما كانت خلافاتنا مع إحسان، فالحب كان يجمعنا والأمان لبعضنا.. وكنا نذهب إليه في بيته. كلنا العاملون في مجلتي روزاليوسف وصباح الخير في نهاية كل عام لنتمني له الأمنيات للعام الجديد ولعيد ميلاده. لابد أن نذهب إليه أولا، ثم يذهب كل منا إلي مكان سهرته، أو يبقي في بيت إحسان إذا لم يجد مكانا للسهر. وكانت زوجته الجميلة تستقبلنا بترحاب وتعاتب من لا يذهب في تلك الليلة. عندما صدر قرار تأميم الصحف، كان إحسان مسافرا في الخارج، وعلمنا بموعد عودته كان ذلك في صباح يوم في أول الستينيات، التقينا في البناء الجديد لدار روزاليوسف وبالسيارات القليلة التي كان يمتلكها الزملاء ذهبنا إلي المطار لاستقباله حتي يجدنا بجانبه بالحب الذي نكنه لبعضنا.. فوجئ بوجودنا، وفهم أننا نستقبله لنواسيه في فقد ملكيته للدار الصحفية التي تعب في إنشائها.. اجتمع بنا في المطار وضحك منا وقال يومها إنه ليس حزينا، وذكرنا أنه قد كتب من قبل عن فكرة اشتراك العاملين من الصحفيين والعمال في أسهم الدار الصحفية التي يعملون بها.. أي أن تكون ملكنا كلنا وليست ملكه وحده.. وبالرغم من أنه لم يعد مالكا.. إلا أنه كان مازال رئيسا للدار.. وكان حريصا علي ازدهار المجلتين روزاليوسف وصباح الخير فمصلحتهما فوق أي خلاف.. أو غضب! -الصورة الأخيرة.. إحسان في أحضاننا لقد عشنا مع إحسان عبدالقدوس عصرا ذهبيا للصحافة والآمال الكبيرة، وعندما نقل للعمل بعيدا عنا وانشغلنا بمشاكلنا العملية والشخصية، تباعدنا ماديا بالمكان لكن ظللنا معه معنويا بالعاطفة وظلت زيارته في بيته آخر يوم من العام عادة محببة لنا.. وعندما تعافي من مرض في بداية عام 1990 أقمنا احتفالا له في دار روزاليوسف التي أصبحت يطلق عليها مؤسسة.. وكان استقبالنا له بالأحضان، وكان عبدالعزيز خميس رئيس تحرير روزاليوسف والمؤسسة وقتها.. وقد سألنا بإعجاب لا يخلو من الدهشة.. هل كل هذا الحب تكنونه له؟! وتمر السنون علي رحيل أستاذنا إحسان عبدالقدوس.. سنون حملت أحداثا كثيرة واختراعات لم نحلم بها. موجات كثيرة في بحر حياتنا ترفعنا إلي قمة الأمل، وتنخفض بنا إلي قاع اليأس.. ثم تعود لترتفع بنا.. وهكذا نتذوق الحياة وطعمها بهذه الموجات العاتية.. نسبح في بحر الحب الرائق.. وتلطمنا أحيانا موجات الكراهية، نستمتع بالشعور الأول، ونقاوم الشعور الثاني، وكلا الشعورين يدفعاننا إلي الإبداع.. أما اللامبالاة فلابد أن نشطبها تماما من قاموس عملنا وحياتنا. وهكذا تعلمنا من معلمينا الكبار ومنهم إحسان عبدالقدوس.. في زمن كان الصغار يستمعون إلي آراء وتعاليم الكبار!.. سنون مرت. تبدلت قيم وبالتالي تبدلت سلوكيات.. وقالوا لي.. أفيقي يا حالمة.. هل مازلت تكتبين عن الحب في عصر الماديات والإليكترونات؟!.. هل مازلت تكتبين بالقلم في عصر الكمبيوتر؟!.. ومازلت تقرأين كتابا في عهد الإنترنت؟! قلت إننا أحوج إلي الحب الآن حتي لا يصبح الإنسان مثل هذه الآلات حتي يشعر بنبضات قلبه إنها قابلة للفرح واللقاء. حتي لا تصبح نبضات قلبه مثل دقات الآلات وخضوع عقله للأزرار.. لا أدري لماذا تملكني شعور غريب أن إحسان عبدالقدوس كان يمكن أن يقول مثل هذا الكلام.. الآن.