«تعرضت صديقتى التى تعمل فى واحدة من كبرى الجمعيات الأهلية، للسرقة المالية والأدبية من قِبل الإدارة المسيطرة على الجمعية منذ أكثر من40 عامًا، أفقدتها القدرة على الإبداع والمنافسة، مثلما حولتها إلى مكتب استثمار أموال! لا تمتلك سوى مهارة التلاعب بالمنح والتمويلات، ورواتب الموظفين، وتستيف الأوراق، وتزوير المستندات بمساعدة فرق من صغار وكبار موظفى الدولة والشخصيات العامة؛ فقتلتْ قدرات الموظفين، وأفسدتْ ضمائرهم.. وبددت روح الرسالة التى اجتهد المؤسسون الأصليون لتحقيقها؛ فتحول تاريخها من القمة إلى القاع»! لليوم الثانى لم أنم بعدما أعلمتنى خبر قيام مديرها بحرمانها من قبض راتبها الشهرى من الجمعية، هى فقط دونا عن جميع زملائها العاملين فى برنامج الإصلاح! وفى الصباح، بادَرتْ بالاتصال بى والاعتذار لإزعاجى، مثلما أخبرتنى أنها تألمت لدرجة تأثر جسدها بالوجع من الإحساس بالظلم! غباء صديقتى أخبرتنى أنها فى نهاية اليوم دخلت للمدير وهى متحكمة فى غضبها، وسألته مباشرة: عرفت أننى الوحيدة التى لا أقبض من خزينة الجمعية، بينما كل زملائى يقبضون راتبين من الجمعية ومن برنامج الإصلاح! كيف ولماذا؟ وفجأة، تقول: تحول وجهه للوجوم والصمت الشديد وكأن صاعقة هبطت على المكان! ولأول مرة أدرك حقيقة حجم الرجل، وتلاحقت صور عديدة له أمامى فى مختلف المواقف التى أكدت لى أن الرجل يستغلنى ويعاملنى كأننى غائبة! سألتُها متهكمة: اليوم فقط أدركتٍ؟ وأجبتُ: بل اليوم فقط أمسكتِ الدليل! عرفتُ أن المواجهة انتهت لصالحه، حينما دخلت إحدى الموظفات مكتبه فى حضور صديقتى، وأخذت تشاركه فى بعض التفاصيل التافهة، ثم طال الحديث بينهما وتجدد واستطال، فظلت هى تتفرج على الاستعراض بين مدير وقور من المفترض أن يشغل رأسه بقضايا تليق بمكانته، لكنه يعطى وقته الثمين ويتجاوب مع موظفة تجيد إعطاء قيمة للتفاصيل الساذجة، ربما لو ترك لها الأمر لقالت له: وسع شوية أقعد جنبك نقمع بامية! ضحكتُ، وقلتُ لها إنها تمثيلية افتعلها المدير مع الزميلة إياها، التى من الواضح إن بينها وبينه لغة موحدة يفهمها كلاهما، حينما يريد الهروب من مواجهة شخص مثلك! وربما ضغط على زر ما لاستدعائها فى تلك المواقف لتقوم بتطفيش الموظف غير المرغوب فيه الذى جاء يزنق حضرته بمطالبه المزعجة! ظلت صديقتى فى موقعها تنتظر نهاية العرض، متيقنة إن الرجل يتهرب من الإجابة، حتى اضطرت الموظفة للعودة لمكتبها، بينما قام هو بسؤالها عن أمر يخص برنامج الإصلاح، باعتباره الموضوع الوحيد المشترك بينهما! كررتُ جملتها الأخيرة، وقلتُ: يااااه، بعد كل هذه السنين، لا يوجد موضوع مشترك بينك وبين مديرك سوى برنامج الإصلاح؟ يحدثك عنه ليشتت انتباهك عن أمر الراتب! وسريعا ما سألتُها عن رد فعلها، فقالت: اتخذتُ القرار بتأجيل مطالبتى باستعادة راتبى حتى انتهاء برنامج الإصلاح! مافيا المدير وأعوانه لا أعرف كيف انفعلتُ عليها هكذا؟ وأنا أرى إصرارها على التغابى، وعدم الخوض للنهاية فى ايجاد حلول المشاكل رغم أنها تبدأ الخطوة الأولى والأصعب؟ فصرختُ فيها قائلة: كيف تفوتين فرصة مواجهة ظلم مديرك، لإجباره على الاعتراف بجريمته ضدك؟ كيف تعطينه الفرصة ليفلت بفعلته؟ وبسخرية وجدتنى أخبرها: ابقى قابلينى لو أخدتِ منه حق ولا باطل بعد هذا اللقاء.. الذى بصم وختم فيه بسذاجتك! وبصوت واضح، ونظرة تحدٍ، قالتْ: قصدك غبائى وليس سذاجتي! قوليها! أحسست إننى ضغطت عليها وأنا أعرف مدى حساسيتها التى تحاول إخفاءها لتحمى نفسها، ثم قلتُ لنفسي: كيف أغضب منها؟ أى شخص في جمعيتها يعرف أن هذا المدير ليس سهلا.. وخاصة فى المسائل المالية التى يختص مزاياها لنفسه والمقربين منه! ولا أنسى حينما جاءتنى يومًا تروى لى ما يتلاسن به الموظفون بعد اكتشافهم أن سفر المدير للخارج منذ سنوات لعلاج ابنه من مرض ما، برفقة زوجته التى تعمل فى الجمعية أيضا، وكل هذه الرحلة الطويلة التى استمرت لحوالى سنة، من سفر وتكلفة علاج، وإقامة، وتكاليف معيشة، مع استمرار صرف راتبه هو والزوجة، وباقى التفاصيل التى لا نعلمها.. كانت على حساب الجمعية! وبمعرفة الموظفين الذين يتلقون الثمن! ورغم ذلك لم يتصرف أحد، بل استقبله الجميع وهنأوه ورحبوا به وأخبروه إن الجمعية مظلمة بدونه! ثم كانوا يخرجون من مكتبه وهم يدعون عليه! هذا المدير الذى سرق صديقتي، وكانت تخبرنى كيف يحرم الصرف على علاج الموظفين الذين لا يستفاد منهم شخصيا، ويصرف فواتير كريمات التجميل ومحلول العدسات الملونة وغيرها للموظفات والموظفين المقربين! سألتها عن رد فعل مجلس الإدارة فى ذلك الوقت، فقالت: رئيس المجلس كان يبلغ أكثر من 90 سنة، ويحمل جميل تعضيد الإدارة لترشحه، فكان يوافق ويوقع على القرارات التى تطلب منه. وقد اعتادت تلك الإدارة تشجيع هذه النماذج على الترشح لرئاسة المجلس، وتشجيع أعضاء الجمعية العمومية -وأغلبهم من الموظفين- على اختيارهم! وهكذا يضمنون توقيع رئيس المجلس على جميع أوراقهم المخالفة حينما يرسلونها مع امرأة أو شابة جميلة يعجب بها رئيس المجلس، وهى تعرف المطلوب منها مع هذا الرجل الذى يحتاج كلمة حلوة ولا مانع من شوية حب وحنان، وهكذا تنجح فى حصولها على توقيعه، وتحصل هى على مكافأتها من الإدارة التى تسعد بحسن اختيارها لرئيس المجلس والموظفة التى أرسلوها! الأفضل منها التقينا وجلبتُ لها كيكة الجبن التى تحبها، لأصالحها، ثم عاد نقاشنا حول منطق الأشرار فى تبرير أفعالهم، وكيف يتمنى من تكتب عنهم الآن إخراسها، ويشعرون أنها هى المجرمة! مثلما دار حول خطورة الطيبة هذا الزمان! فاتسعت عيناها بتعجب، متسائلة: خطورة الطيبة؟ ومن دون تردد أجبتها: يا حبيبتى إنتِ كل مشاكلك مع هؤلاء الناس بسبب تغليب طيبتك على ذكائك وتفكيرك المنطقي! نظرت لى بعينين معاتبتين وكأنها تقول لي: تاني؟ فابتسمتُ وأضفتُ لتعليقي: وبسبب وجودكِ بين مافيا لا يهم أفرادها سوى جمع المال فقط! واستطردتُ: هل تعلمين لماذا يستغلونكِ ويستهينون بكِ؟ ببساطة لأنكِ لم تحققى توقعاتهم فيكِ ولا تخوفاتهم القديمة من ذكائكِ ومهاراتك، وعلاقاتك.. وحينما وجدوكِ صامتة وطيبة وساذجة وترضين بالقليل، بل وتصدقين فى أمور الخدمة والرسالة... ضحكوا عليكِ فى قلوبهم، وربما قالوا: خليها تتسلى! خاصة وأنكِ محترمة.. وليس لكِ فى أى نوع من الابتذالات إياها! وهذه لغة لا يفهمونها! فلماذا يقبلونكِ وأنتِ لستِ مثلهم؟ كانت منزعجة وهى تتساءل: كيف وأخت المدير زميلتى فى المكتب وتعرف عنى كل شىء ودائما ما تمتدح ذكائى وصفاتي؟ وحرفيا تقول لى«إنتِ خسارة، عندك أفكار ومواهب كثيرة.. كيف لا توظفها الجمعية»؟ فأضحك وأجيبها: إسألى أخوكِ»! فابتسمت متسائلة: وزميلتك هذه، أخت المدير.. كيف ولماذا لم تنصح أخاها أن يراعى ضميره فيكِ، ولو خوفا عليه من غضب الله؟ ومن دون تفكير، سريعا ما أجابتني: لا أعرف، وبأصابع كفها رسمتْ بعض الدوائر على زجاج المنضدة التى تجمعنا، وقالتْ ونظراتها لا تواجهني: حينما أثق فى أحد.. يرتاح عقلى من التحليل والتفكير! وببعض الغضب.. وكأنها تحدث نفسها، استطردتْ: ولكنى تغيرتُ بسبب هذه الإدارة التى تكذب لدرجة أن أفرادها يصدقون كذبهم! اختنق صوتها وملامحها تظهر ألما عميقا، وظلتْ تتساءل: كيف سمح له ضميره بسرقتي؟ وقد أخبرته بحجم مصروفاتي! وببعض العصبية وكأنها تغلق الموضوع، أضافت: على أى حال هذا ما حدث.. قررتُ انتظار نهاية برنامج الإصلاح للمطالبة براتبى المنهوب! وأعدك إننى لن أترك حقي! فى المساء، اتصلتْ بى،وقد صرتُ أخشى هذه المكالمات التى لا تقوم بإجرائها إلا لحدوث حادث جلل، ثم دخلتْ فى الموضوع مباشرة وقالتْ: اليوم طلب منى عضو مجلس الادارة المنحاز ضدى مهمة ما، فسألته لماذا أنجزها والمجلس يريد تعيين مدير غيري؟ وبكل ثقة أجابنى،وكان فى حضور الخواجة: نعم، نحن نبحث عن شخص أفضل منكِ! فانفعلتُ متسائلة، استطردتْ: أحسن مني؟ لن تجد، حتى لو جاء «....» وذكرتْ اسم إعلامى معروف، وأضافتْ: سأظلُ أفضل منه لإننى أمارسُ التنمية والإعلام بينما هو يمارس الإعلام فقط! حاولتُ تهدئتها.. وأنا أعرف إنه غير مجدٍ أن أسألها عن سبب استمرارها فى هذا المكان البغيض الذى يحول الذهب إلى تراب، ولأننى فى أعماقى أعلم إنها تخوض الدور الذى كانت تتنبأ به.. دونما تعرف ما هو! وكل ما تعلمه هو أن هناك قوة ما تدفعها للاستمرار بالعمل فى هذه الجمعية، لإن لديها رسالة