فى 1 أكتوبر الجارى قُتل شخصان وأصيب 200 عندما فتحت قوات الأمن العراقية النار على نحو 3 آلاف متظاهر احتشدوا فى ساحة التحرير لمنعهم من الوصول إلى المنطقة الخضراء ببغداد «مَقَر الحكومة» والسفارات الأجنبية. وسريعًا تطورت الأحداث للأسوأ؛ حيث فرضت السُّلطات العراقية حظر التجوال فى مدن الناصرية والعمارة والحلة بجنوب البلاد، عقب اشتباك المحتجين مع قوات الأمن، وفى بعض الأنحاء أحرقوا مبانى حكومية وحزبية. وتبادل المتظاهرون إطلاق النار بين المحتجين وقوات الأمن فى الناصرية، قبل أن يتم نشر قوات مكافحة الإرهاب بعدما فقدت الشرطة السيطرة على الوضع، التى بدورها استخدمت الذخيرة الحية والغاز المسيل للدموع؛ لمنع محتجين من اقتحام مطار بغداد، كما قررت السُّلطات العراقية إعادة إغلاق المنطقة الخضراء وسط بغداد، التى تضم مَقار حكومية والسفارة الأمريكية، بعدما أُعيد فتحها فى يونيو الماضى، فيما تتواصل المظاهرات بمحيطها أملًا فى اقتحامها للوصول إلى نقطة انطلاق التظاهرات «ساحة التحرير» لرمزيتها السياسية، ويفصلها عن المنطقة الخضراء جسر الجمهورية، إلّا أن قوات الأمن فرضت طوقًا مشددًا عليه. وفى الأثناء دعا رجُل الدين الشيعى مقتدى الصدر مناصريه، إلى «إضراب عام» لمساندة المتظاهرين، واتهمت الحكومة العراقية «معتدين» و«مندسين» بالتسبب «عمدًا فى سقوط ضحايا بين المتظاهرين». وسبق أن شهدت المنطقة الخضراء فى عام 2016م اقتحامًا من قِبَل أتباع «الصدر» بعد دعوته إلى انتفاضة شعبية لمواجهة الفساد الحكومى. فى المقابل، أصدر رئيس الوزراء العراقى عادل عبدالمهدى، بيانًا يَعد فيه بوظائف للخريجين، ووجّه وزارة النفط وهيئات حكومية أخرى للبدء فى تطبيق حصة تشغيل 50 % من العمالة من المحليين فى عقودها مع الشركات الأجنبية. وعانَى العراق الغنى بالنفط على مدى عقود فى عهد صدام حسين وبسبب العقوبات التى فرضتها الأممالمتحدة، والغزو الذى قادته الولاياتالمتحدة عام 2003م والحرب الأهلية التى أعقبته والمعارك ضد «داعش» التى أعلنت بغداد النصر فيها فى عام 2017م، والفساد منتشر فى البلاد والخدمات الأساسية، مثل الكهرباء والماء، ضعيفة.. وألقى بيان الحكومة باللوم فى العنف على «مجموعة من مثيرى الشغب»، وقال إن قوات الأمن تحرص «على أمن وسلامة المتظاهرين»، فيما ذَكَر مرصد نتبلوكس لمراقبة الإنترنت أن الإنترنت انقطع عن معظم أنحاء العراق، وضِمن ذلك العاصمة بغداد، وأن معدل الاتصال انخفض إلى ما دون 70 %، وذلك بعد أن بدت مواقع التواصل الاجتماعى «فيس بوك وتويتر وإنستجرام» وتطبيق التراسل «واتساب» معطَّلة فى أنحاء العراق باستثناء إقليم كردستان شبه المستقل، الذى يمتلك بنية تحتية منفصلة فيما يتعلق بالإنترنت. ويقول المتظاهرون إنهم خرجوا للاحتجاج على أداء حكومة عبدالمهدى التى فشلت فى تنفيذ برنامجها الحكومى خلال عام من عمرها؛ حيث «لم تنجز أى شىء مهم فى الملفات الكبيرة، كتوفير فرص العمل وتحسين الخدمات»، كما فشلت فى تكليف وزير للتربية خلال عام كامل، إضافة إلى تدهور قطاع الصحة وضعف أداء الأجهزة الأمنية. وقد شهد العراق احتجاجات مشابهة العام الماضى كانت أشد عنفًا وأوقعت أعدادًا كبيرة من الضحايا، وعلى مدار العام احتدم الغضب الشعبى بسبب تدهور الأحوال المعيشية وقِلة فرص العمل ونقص إمدادات الكهرباء والمياه النظيفة.. ويُلقى العراقيون باللوم على الساسة والمسئولين فى الفساد المستشرى الذى يحول دون تعافى البلاد من سنوات من الصراع الطائفى والحرب المدمرة على تنظيم «داعش». ولم يظهر للتظاهرات العراقية قائد حتى الآن بسبب تعدد أسباب الغضب الشعبى ووجود ملايين العراقيين مهجرين من بيوتهم ومناطقهم ولا يستطيعون العودة حتى الآن، وهو ما ويزيد تعقيد الموقف وتزيد من احتمالات سقوط مزيد من الضحايا وعدم إمكانية التنبؤ بانتهائها قريبًا. والسؤال: لكن، ما الجديد فى الاحتجاجات الحالية؟ الجديد هو تحرُّك المتظاهرين الرافضين لتغلغل إيران أكثر فى الشأن الداخلى العراقى، فشرارة الدعوات أطلقها ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعى لرفض إقالة القادة الميدانيين الذين حاربوا تنظيم «داعش»، ومن بينهم رئيس جهاز مكافحة الإرهاب عبدالوهاب الساعدى، إذ اعتبر الناشطون قرار إقالة الساعدى بأمر من رئيس الحكومة يأتى فى إطار تنفيذ أجندات خارجية، ترمى إلى القضاء على هيبة المؤسسة العسكرية المتمثلة بالجيش العراقى، وتعمل على أن يكون للحشد الشعبى (الموالى لإيران) قوة أكبر من قوة الجيش الوطنى. وكان رئيس الوزراء العراقى أمهل وحدات الحشد الشعبى حتى 31 يوليو الماضى كى تندمج فى الجيش الرسمى وقوات الأمن أو تسلم أسلحتها إلى الدولة، وهو ما لم يحدث حتى الآن!. وبعد زيارته إلى العاصمة الإيرانيةطهران فى أواخر يوليو، غيَّر عبدالمهدى لهجته، وقال إنَّ وحدات الحشد الشعبى لن تُدمَج فى الجيش العراقى والشرطة المحلية العراقية، بل ستعمل قوةً منفصلة تحت سيطرة الحكومة». وليس سرًّا أن وحدات الحشد الشعبى تشارك فى العديد من المشروعات التجارية فى جميع أنحاء العراق، وعليه من الطبيعى أن يستغرق إنهاء أنشطتها الاقتصادية واسعة النطاق بعض الوقت؛ حيث تشارك فى سوق الخردة المعدنية فى العراق، فضلًا عن أنَّ العَبَّارة التى غرقت فى مدينة الموصل خلال مارس الماضى كانت تابعةً لشركةٍ مرتبطة بإحدى فصائل وحدات الحشد الشعبى. على الضفة الأخرى للنهر تسعى دولة الاحتلال الإسرائيلى لسحق الحشد الشعبى - الموالى لإيران- وفى يوليو الماضى وقع انفجاران فى قاعدتينٍ عسكريتين تابعتين لوحدات الحشد الشعبى فى محافظتى ديالى وصلاح الدين العراقيتين؛ حيث كشفت تقارير صحفية أن إسرائيل شنت غاراتٍ جوية على القاعدتين العسكريتين. فيما نفت وحدات الحشد الشعبى وقوع غاراتٍ جوية، وأكَّدت أنَّ سبب الانفجارين هو مشكلاتٌ تقنية تتعلق بتخزين الأسلحة. وأنكرت الولاياتالمتحدة تورطها فيما حدث آنذاك. وخلال الأسبوع الماضى اتهم رئيس الوزراء العراقى إسرائيل باستهداف مواقع الحشد الشعبى العراقى، مؤكدًا أن الكثير من المؤشرات تدل على أنه «لا أحد يريد حربًا فى المنطقة باستثناء إسرائيل». واتهم الولاياتالمتحدة بتقديم دعم جوّى لها. ورُغم أن حزب الله تقليديًّا هو أكثر القوى الموالية لإسرائيل تورطًا فى النزاع مع إسرائيل، ويُعتبر من أخطر أعدائها؛ فإن الهجمات الإسرائيلية الأخيرة كانت أكثر كثافة على الحشد الشعبى على عدوها التقليدى، ما يشير إلى أن إسرائيل ترى فى الحشد خطرًا متزايدًا على المستوى البعيد يجب تقليم أظافره قبل أن تنمو. وفى هذا الصدد يشير المستشرق الإسرائيلى يارون فريدمان- فى مقال بصحيفة يديعوت أحرنوت- إلى أنَ «التصور الإسرائيلى للميليشيات المسلحة فى العراق يعتبرها تهديدًا أمنيًا حقيقيًا، وبالتالى فإنَّ لدينا مصلحة للمسّ بها واستهدافها، فالحديث هنا عن «67 ميليشيا مسلحة تُمثل الشيعة العراقيين، وتحظى بدعم سنوى حكومى يصل 60 مليون دولار سنويًا، وتتعاون مع المحور الإقليمى الذى تقوده إيران فى المنطقة، وتبذل جهودًا لنقل الأسلحة والوسائل القتالية عبر حدودها مع إيرانلسورياولبنانوالعراق». والحقيقة أن إسرائيل تخشى محاولات إيران لإقامة طريقين للبحر المتوسط، إذ يتمتع العراق بموقع جغرافى مهم تاريخيًا بالنسبة لإيران، وحرصت الإمبراطوريات الفارسية التى حكمت البلاد على احتلال العراق. فالعراق يمتلك موقعًا استراتيجيّا يرتبط بتركيا والجزيرة العربية وبلاد الشام من ورائها البحر المتوسط.. وبكلمة أخرى «من العراق بداية تدشين الإمبراطورية، ومن العراق تكون نهايتها» وتاريخيًا أشهر هزائم الفُرس كانت فى العراق مثلما فعل الإسكندر الأكبر ومن بعده العرب المسلمون. وهيمن الفُرس على العراق لمئات السنين قبل الإسلام، وتحاول إيران الآن بالطائفية أن تنجح فيما فشلت فيه الإمبراطورية، ومن ثم فإن الحشد الشعبى وسيلة لتحقيق ما فشلت فيه الإمبراطورية على مدار قرون، فالحشد لا يسعى لفرض الهيمنة الإيرانية فحسب وإنما تأمين خطوط المواصلات للأجزاء الخاضعة للنفوذ الإيرانى فى العالم العربى، أى (سورياولبنان)، فالحشد أقرب لجيش يحمى شبكة مواصلات الإمبراطورية الفارسية الجديدة. وإيران تسعى خلال السنوات المقبلة لإقامة مسارَين لنقل هذه الأسلحة: برى وبحرى، يصلان بين إيرانولبنان، من أجل تسهيل نقل الوسائل القتالية، وتسريع سيطرتها العملياتية على سورياولبنان، وإقامة جبهة معادية جديدة ضد إسرائيل. وتراقب دولة الاحتلال التحركات الإيرانية الجارية لافتتاح ميناء بحرى جديد على شاطئ اللاذقية شمال سوريا.. وعلى قدم وساق تجرى الجهود الميدانية لإقامة خط سكة حديد من إيران إلى سوريا، مرورًا بالعراق، وعليه يمكن القول إن الاستهدافات الجوية لإسرائيل ضد الحشد هدفها إحباط الجهود الإيرانية لإبعاد مستودعات صواريخها المتطورة عن مرمى الطيران الإسرائيلى. بقى أن نقول إن الحشد الشعبى هو أقوى سلاح «إيرانى»؛ نظرًا لأن آفاق نموه أكبر بكثير من باقى الأتباع فى المنطقة، فالرئيس السورى بشار الأسد يعانى نظامه من الاقتصاد الهش، وهو لم يغامر بالدخول فى معركة مع إسرائيل- حاليًا على أقل تقدير- أمّا حزب الله اللبنانى فرُغم أنه يمتلك قوة عسكرية لا يستهان بها؛ فإن قدرته التجنيدية مقيمة بمحدودية عدد الطائفة الشيعية فى لبنان (تمثل ثلت السكان البالغ 4.5 مليون نسمة) نصفهم ذكور، منهم من يعمل أو على المعاش، أو أطفال، أو يجند فى الجيش اللبنانى، أى يظل العدد المتاح للتجنيد قليلًا للغاية، ناهيك عن الأزمات الاقتصادية التى تعصف بلبنان ككل، والحوثيون رُغم أنهم الذراع الإيرانية الأكثر تحصنًا، فإن اليمن تظل واحدة من أفقر دول العالم.. ومن ثم تظهر قوة الحشد الشعبى فى مواجهة بقية أذرع إيران فى المنطقة.