نصت المواثيق والإعلانات العالمية على مبدأ استقلال القضاء كدعامة أساسية لتحقيق العدالة وحماية حقوق الإنسان وديباجة ميثاق الأممالمتحدة تؤكد تصميم شعوب العالم على بيان الأحوال التى يمكن فى ظلها تحقيق العدالة ومنها «الحق فى نظام قضائى نزيه ومستقل»، وهو ما حرص عليه المشرع الدولى كذلك نعرض لاستقلال القضاء وفقاً للمعايير الدولية وموقع مشروع مجلس النواب منه فى فرعين على النحو التالى: الفرع الأول: مشروع قانون مجلس النواب بالمساس باستقلال القضاء يخالف المعايير الدولية. فقد تضمن النظام الأساسى لمحكمة العدل الدولية نصاً على تكوين هيئة المحكمة من قضاة مستقلين، وكذلك المادة (8) من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان التى تقرر حق كل إنسان فى اللجوء إلى المحاكم الوطنية المختصة لإنصافه الفعلى من أية أعمال تنتهك الحقوق الأساسية التى يمنحها على قدم المساواة مع الآخرين وأن تنظر قضية فى محكمة مستقلة ومحايدة. أما العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية فقد نص فى المادة (14) على مبدأ حيدة واستقلال القضاء، وقد اجتمعت لجنة من الخبراء بإيطاليا عام 1981م لوضع مشروع مبادئ حول استقلال القضاء ما نتج عنه الإعلان العالمى لاستقلال العدالة الصادر عن مؤتمر مونتريال فى كندا عام 1983 ولكن أهم تلك المواثيق والإعلانات «المبادئ الأساسية بشأن استقلال القضاء» الصادرة عن الأممالمتحدة عام 1985 والتى يعتبرها رجال الفقه والفكر الميثاق أو المرجع الدولى بشأن استقلال القضاء حيث نصت فى البند الأول: «تكفل الدولة استقلال السلطة القضائية وينص عليه دستور البلد أو قوانينه ومن واجب جميع المؤسسات الحكومية وغيرها من المؤسسات احترام ومراعاة استقلال السلطة القضائية» ومن ثم أضحى مبدأ استقلال القضاء مبدأ دولياً هاماً يشكل التزاماً دولياً على جميع الدول قاطبة، كما أكدت المؤتمرات الدولية مبدأ ترسيخ استقلال القضاء فى كثير من توصياتها منها مؤتمر العدالة الجنائية فى العالم الغربى الذى عقد فى مدينة سيراكوزا بإيطاليا عام 1985 وقد اعتمده مؤتمر الأممالمتحدة السابع لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المعقود فى ميلانو من 26 أغسطس إلى 6 ديسمبر 1985 كما اعتُمد ونشر بموجب قرارى الجمعية العامة للأمم المتحدة 40/32 المؤرخ فى 29 نوفمبر 1985 و146/40 المؤرخ فى 13 ديسمبر 1985 وجاء فيه أن شعوب العالم تؤكد فى ميثاق الأممالمتحدة، فى جملة أمور، تصميمها على تهيئة ظروف يمكن فى ظلها أن تسود العدالة وعلى تحقيق التعاون الدولى فى ميدان تعزيز وتشجيع احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية دون أى تمييز، وقد افترضت منظمة الأممالمتحدة أنه لا تزال توجد فى حالات كثيرة فجوة بين الرؤية التى تقوم عليها تلك المبادئ وبين الحالة الفعلية، وأنه ينبغى أن يسير تنظيم وإدارة شئون القضاء فى كل بلد على هدى تلك المبادئ، كما ينبغى بذل الجهود لتحويلها كاملة إلى واقع ملموس، وأن القواعد التى تخضع لها ممارسة الوظائف القضائية ينبغى أن تهدف إلى تمكين القضاة من التصرف وفقا لتلك المبادئ. ومن الأمور البديهية أنه من المناسب، بناء على ذلك، أن تكون الأولوية والاعتبار أولاً لدور القضاة فيما يتعلق بنظام القضاء ولأهمية اختيارهم، فإنه ينبغى للحكومات أن تراعى وتحترم، فى إطار تشريعاتها وممارساتها الوطنية، المبادئ الأساسية التالية التى وضعت لمساعدة الدول الأعضاء فى مهمتها المتعلقة بضمان استقلال السلطة القضائية وتعزيزه، وأن تعرض هذه المبادئ على القضاة والمحامين وأعضاء السلطتين التنفيذية والتشريعية والجمهور بوجه عام - وهو ما يشكل ما يسمى بالرأى العام ومن بين هذه المبادئ واغلاها مبدأ استقلال السلطة القضائية ومن بين تلك النصوص ما يلى: ا-تكفل الدولة استقلال السلطة القضائية وينص عليه دستور البلد أو قوانينه. ومن واجب جميع المؤسسات الحكومية وغيرها من المؤسسات احترام ومراعاة استقلال السلطة القضائية... 2-تكون للسلطة القضائية الولاية على جميع المسائل ذات الطابع القضائى كما تنفرد بسلطة البت فيما إذا كانت أية مسألة معروضة عليها للفصل فيها تدخل فى نطاق اختصاصها حسب التعريف الوارد فى القانون. 3-لا يجوز أن تحدث أية تدخلات غير لائقة، أو لا مبرر لها، فى الإجراءات القضائية ولا تخضع الأحكام القضائية التى تصدرها المحاكم لإعادة النظر. ولا يخل هذا المبدأ بإعادة النظر القضائية أو بقيام السلطات المختصة، وفقا للقانون، بتخفيف أو تعديل الأحكام التى تصدرها السلطة القضائية4... 5..... 6.... من واجب كل دولة عضو أن توفر الموارد الكافية لتمكين السلطة القضائية من أداء مهامها بطريقة سليمة». وبناء على هذه المبادئ الدولية يمكن القول إن مشروع القانون الذى أعده مجلس النواب المصرى على صورته الراهنة يمثل مخالفة للمعايير الدولية التى أعلت من شأن استقلال القضاء فى كل دولة وانصرف الخطاب فيها للمجتمع الدولى، وكفلت عدم اعتداء السلطتين التشريعية والتنفيذية عليه، فضلاً عما فى هذا المشروع من امتهان للسلطة القضائية وإمعان فى تحقيرها وتدخل فى شئونها بتغيير آَلية اختيار رؤسائها على خلاف المعيار المنضبط منذ إنشائها المتمثل فى الأقدمية. الفرع الثانى استقلال القضاء فى دساتير العالم. على المستوى الغربى، فإن النص على مبدأ استقلال القضاء قد ورد فى عدد من النظم الأساسية الأخرى، فموجب الاتفاقية الاوروبية لحقوق الانسان لكل فرد لدى الفصل فى حقوقه والتزاماته المدنية حق فى محاكمة عادلة من قبل محكمة مستقلة ومحايدة تقرر حقوق الفرد وواجباته وتفصل فى أية تهمة توجه إليه، كما نص على هذا المبدأ الاتفاقية الدولية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية فى المادة 2/3 . وقد توالت دساتير العالم فى النص على مبدأ استقلال القضاء وشملته بالحماية فنصت المادة 64 من الدستور الفرنسى لسنة 1958 «على أن رئيس الجمهورية يضمن استقلال هيئة القضاء ويعاونه فى ذلك مجلس القضاء الأعلى). ونصت المادة 92 من دستور ألمانيا الاتحادية لسنة 1949 على أن «يعهد بالسلطة القضائية إلى قضاة وتتولاها المحكمة الدستورية الاتحادية، والمحكمة العليا الاتحادية والمحاكم الاتحادية التى ينص عليها هذا الدستور ومحاكم الولايات والمادة 104 من الدستور الإيطالى لسنة 1947 والمادة 76 من الدستور اليابانى لعام 1963 على السلطة القضائية تمارسها المحكمة العليا. والقضاة مستقلون لا سلطان عليهم لغير ضمائرهم وهم لا يلتزمون فى قضائهم إلا أحكام الدستور والقانون وتنص المادة 155 من الدستور الروسى على «إن القضاة والمحلفون الشعبيون مستقلون لاسلطان عليهم لغير القانون,والمادة 78 من الدستور الصينى، والمادة 52 من الدستور البولندى». وعلى المستوى العربى نصت المادة (11) من مشروع ميثاق حقوق الانسان والشعب فى الوطن العربى الصادر 1987 «على أن الناس متساوون أمام القضاء وتكفل الدولة استقلال القضاء وحياده...». وتوصيات المؤتمر الأول للجمعية الدولية لقانون العقوبات -الشعبة المصرية- الذى عقد فى القاهرة فى مارس 1987. المبحث العاشر استقلال السلطة القضائية أصبح جزءا من الضمير العالمى والوجدان الإنسانى عصيا على التعديل أبيا على التبديل. إن الأسس الجوهرية لاستقلال السلطة القضائية تعنى التزام المشرع العادى بصياغة مبدأ استقلال السلطة القضائية فى نصوص تحميها من الاعتداء والإنكار، وينبغى أن يعى مجلس النواب المصرى أن مبدأ استقلال السلطة القضائية لم تكن فكرة وليدة اليوم، أو تقررت فى عمر وجيز، بل جاء هذا المبدأ نتاجاً لتجارب واقعية عاشتها الشعوب وتبلورت عبر التاريخ ، ثم توصل - من بعدها - الفكر القانونى إلى أنه لا يمكن حماية حقوق المواطنين وحرياتهم إلا من خلال قضاء مستقل فى مواجهة السلطتين التشريعية والتنفيذية، إن أهم غاية لاستقلال السلطة القضائية حمايتها من الاعتداء الذى قد يقع من قبل السلطة التشريعية أو التنفيذية، فلا يجوز لمجلس النواب أن يأتى اليوم ليقرر اهداره بين عشية وضحاها. إن مبدأ استقلال السلطة القضائية من المبادئ المسلم بها فى دساتير العالم، فالقضاء المستقل هو الذى يكفل حق التقاضى وهو الضمان الأساسى لدولة القانون وسيادته، ومؤدى ذلك ولازمه أن طريقة اختيار شيوخه لا يجب أن تكون بيد السلطة التنفيذية فلا سلطان عليهم فى أدائهم لمهمتهم المقدسة وليس لأحد ولو كان مجلس النواب ذاته أن يملى عليهم طريقة لاختيار رؤسائهم غير تلك التى اعتادوا عليها حقباً من الزمن وصارت فى ضمير النظام القضائى كله واضحت من الضمير العام للأمة عصية على التعديل، وأبية على التبديل، وبهذه المثابة يكون مشروع القانون المذكور إذ أخل بقاعدة الاقدمية قد نزع استقلال السلطة القضائية وانتقص من مداه ونطاقه، ويمثل عدواناً على السلطة القضائية وخرقاً دستورياً وجُرماُ جنائياً قوامه التدخل فى شئون العدالة، فضلاً عما فيه من جحود بروح ونص الدستور التى جاءت لتقرر وتعزز مبدأ استقلال القضاء. وقد أجمع رجال الفقه والفكر الدستورى الذين تناولوا تأصيل مبدأ استقلال السلطة القضائية على حظر السلطة التشريعية التدخل فى العمل القضائى أو المساهمة فيه بأى شكل أو إصدار تشريعات من شأنها النيل من هذا الاستقلال أو الانتقاص منه و لا تملك السلطة التشريعية سوى العمل التشريعى الذى يضمن ضمانة استقلال القضاء، لأن وظيفة السلطة التشريعية فى سن القوانين تقيد فى ظل مداها ونطاقه. الدستورى وهى بمقتضى ذلك تعبر عن إرادة الأمة، ولذلك فإن عليها واجبات يجب أن تتقيد بها، فلا تصدر من النصوص إلا ما هو متصف بالعمومية والتجريد وهذه الصفة فى القاعدة القانونية لا تشترط فقط فى صياغتها بل أيضاً فى أهدافها وغاياتها ومراميها، فلا يكون انتقامياً أو إقصائياً بل وفق النصوص الدستورية المنشئة والمنظمة لأعمالها وعلى قمتها استقلال القضاء وليس الانتقاص منه بتبعيته للسلطتين التشريعية والتنفيذية الأولى تقنن للثانية إهداره والعدوان عليه. وليس من الجائز أن تقوم السلطة التشريعية الممثلة نيابة عن الشعب أن تتجاهل شئون العدالة التى عبر عنها شيوخها بالرفض، حتى ولو أسماه الدستور رأياً، فذلك لا يبيح لها الاستبداد وجحود حقوق القضاة، لعظم شأن ولاية القضاءكضمانة فى حماية حقوق المواطين وحرياتهم ما ينعكس على استقرار البلاد. المبحث الحادى عشر خاتمة لصالح الوطن إن الإنسان أيام... إذا مرت الأيام انقضى بعض الإنسان، وإذ صبر شيوخ القضاة بصوت العقل على مشروع قانون يهدر استقلالهم دون أن يعبأ مجلس النواب بخطورة هذا المشروع الجائر، فإن سجل التاريخ لن يستطع معهم صبراً وإن مجلس النواب وهو على قمة مسئولية التشريع فى مصر لا يجب أن يرهق القضاة من أمرهم عسراً، بعد أن حط باستقلال القضاء شىء نكر، وأضحى فى ميزان الحق يقيناً خُسراً، وكان يجب أن يثاب القضاة بمزيد من الضمانات على قدسية عملهم فعلاً حسناً، فهم أمل مصر لبلوغ أمرها رشداً، وقد اعترض شيوخ القضاء دون أن يعير مجلس النواب لاعتراضه اهتماماً أو استجابة أو تقدم لهم أسفاً، ما يستدعى استنهاض عدل القضاة على عجل إزاء تعطيل حقهم الدستورى فى الاستقلال، وهم يمنحون الحماية القضائية العاجلة لمن لاذ فى محرابهم طالباً العدل والإنصاف لمن أحسن عملا، وسيكون عاقبة أمر مجلس النواب حُسراً، ومشروع القانون بإهدار استقلال القضاء هو كالنار فى الهشيم يتعين إخماده، من بينهم سداً، مما يتوجب على مجلس النواب أن يستجيب لاستقلال القضاة سمعاً وعضدا، ولهم فى السابقين المعتدين على استقلال القضاء من ضرب لهم عبرة ومثلا. وثمة قاعدة أصولية باتت مسلمة فى مجال الفقه الإسلامى- وهو أحد روافد استقاء مبادئ الشريعة الإسلامية المنبثقة من الكتاب الكريم والسنة النبوية الشريفة - ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع وفقا للمادة الثانية من الدستور المعدل - تتمثل فى أن «الضرر يزال» لأن الضرر هنا النيل من استقلال القضاء وهو ظلم وعدوان والواجب عدم إيقاعه، لذا يجب إزالة الضرر الفاحش دفعا له، وثمة قاعدة أصولية أخرى ترد على مجلس النواب الذين يزعمون بهتاناً بأنهم بمشروعهم الغادر يحقق استقلال القضاء وهى قاعدة «لا عبرة للتوهم» وبهذه المثابة الشرعية - بعد مثابة المشروعية - أصبحت نصوص مشروع القانون بالنيل من استقلال القضاء، لا تسمن ولا تغنى من جوع، وتبدو كأنها إعجاز نخل خاوية، فهل ترى لها من باقية؟ إن استقلال القضاء وإفراز العدالة دوماً صنوان لا يفترقان، ولا يجب أن تدخل نصوص مشروع هذا القانون بأهوائه فرص النفاذ إليه، ومن ثم وجب على صوت العقل فى مجلس النواب ألا يقيد مبدأ استقلال القضاء من مداه اعتسافاً، بل يكون ملبياً لتقريره رضاءً وله أن يطبق نص طريقة اختيار رئيس المحكمة الدستورية على سائررؤساء الجهات والهيئات القضائية إن أراد لتحقيق المساواة للأقران وأصحاب المراكز القانونية المتماثلة، أفمن أسس مشروع قانون يحفظ استقلال القضاء على بنيان عتيد من الدستور والقانون خير أم من أسس مشروع قانون يهدر هذا الاستقلال على عدوان يبيد على الدستور والقانون، ما يستنهض علم وفكر قضاة القانون العام العاصم من القواصم ليزنه فى ميزان المشروعية الذى لا يحيد أو يميد. وإعلاء لاستقلال القضاء كمبدأ دستورى عالمى يتعين على مجلس النواب إفناء ذاتية مشروع قانونهم بالعدوان على هذا المبدأ واقتلاعه من منابته، واجتثاثه من قواعده، لأنه اهدر حقاً للقضاة لا يتعلق به التزام، بعد أن هدموا الدستور، وجردوه من كل أثر بعدوانهم على قواعده، وهى التى تسمو على جميع القواعد القانونية، ومجمل القول إن مشروع رؤساء الجهات والهيئات القضائية يحيى ذكرى مذبحة القضاة فى الستينيات. وهو مشروع أقل ما يوصف به أنه لا استواء له، فليس له من عمد يرفعه، ولا من كيان يقيمه، ولا نص دستور يعينه، ولم يخلق مثله فى البلاد، وينهدم من أساسه ليفقد شرعية وجوده دستورياً. •