انفصال الأبوين غالبا ما يخلف عقدة فى حياة الطفل.. تظل معه إلى أن يكبر فلا وعى ولا ثقافة ولا حتى عمر يستطيع أن يحل هذه العقدة التى تتشابك خيوطها يوما بعد يوم وتصبح هى عقدة العمر التى لا تمحى ولا تغتفر. «لن أسامح» كانت أقل الكلمات قسوة، التى سمعتها من أبناء، تركهم آباءهم نتيجة الخلافات الأسرية القائمة بينهم و التى تؤدى فى النهاية الى الانفصال التام أو الطلاق.. حكمت عليهم الظروف أن يحرموا من الجو الأسرى الملىء بالحنان والدفئ.. عاشوا طفولة ذليلة، تركت آثارا سلبية بداخلهم نتيجة ما رأوه من تصرفات أذت مشاعرهم.. يشعرون دائما أنهم غير مرغوب فيهم سواء من الأم أو حتى الأب.. عالة عليهم، كلاهما يترك المسئولية على الآخر.. وكأنهم كرة يتقاذفونها، دون مراعاة لمشاعرهم.. الخوف والقلق وعدم الثقة والتردد كانت هى سمات شخصياتهم.. ونمت معهم هذه الصفات إلى أن صارت من أهم المشاكل النفسية التى تعرقل حياتهم.. فاعتمادهم التام على أنفسهم ربى بداخلهم نوعا من الأنانية بشكل غير مباشر جعلهم لا يرون إلا أنفسهم، لا يسمعون إلا أنفسهم، لا يهتمون إلا بأنفسهم ولا يتحملون مسئولية أحد غير أنفسهم.. يهربون من أى التزام خوفا من الفشل وتكرار المأساة التى عاشوها من قبل خاصة إذا كانت مرتبطة بتكوين أسرة.. فإن إصرارهم على عدم السماح والغفران ليس جحودا أو عندا، بل لأنهم لم يشعروا بالرحمة فى قلوب آبائهم فى الوقت الذى كانوا يحتاجونها بشدة.. ∎ أمى الحقيقية.. هى جدتى بعد 72 سنة افتكرت إن لها بنت!!.. تلك كانت بداية كلام رنا عادل معى.. الفتاة التى ترى أن جدتها هى كل دنيتها، أعتنت بها وتحملت مسئوليتها بعد أن تخلت عنها والدتها.. فتروى قصتها قائلة: مازال صوت أبى و أمى يرن فى أذنى كلما استلقى على السرير.. فكانت مشاكلهما وخلافاتهما يعرفها كل ساكن فى العمارة.. وأتذكر جيدا أن هذا كان يسبب لى ذعرا كبيرا ويجعلنى أذهب إلى غرفتى مسرعة وأغلق الباب واضعة الوسادة على أذنى كى لا أسمع صوتهما العالى.. وبسبب عندهما الزائد وعدم تنازلهما عن هذه الخلافات فى سبيل الحفاظ على.. كان نتيجته الطلاق.. وبعدها أخذنى والدى للعيش مع جدتى.. بعد أن علمت رفض أمى التام العيش معها!!.. حزنت كثيرا منها، لكن جدتى دائما ما كانت تتحدث عنها بالخير حتى لا تحملنى منها أكثر مما أحمله تجاهها.. وعندما كنت أحدثها فى التليفون لأخبرها باشتياقى لرؤيتها وحنانها وعطفها.. كانت ترد على بفتور وتتحجج بانشغالها بأشياء أخرى، وأكتشفت بعدها أنها تحضر لزواجها الثانى!!.. تشيح رنا بوجهها عنى حتى لا أرى دموعها ثم تكمل بتنهيدة مليئة بكل معانى الحرقة محاولة إخفائها عنى قائلة: حتى اليوم المخصص الذى كنت أنتظره بفارغ الصبر كل أسبوع لأراها فيه «يوم الرؤيا» كانت كثيرا لا تأتى فيه حتى تلاشى هذا اليوم من ذاكرتى وتلاشت هى أيضا معه!!. وظللت مع جدتى فهى بمثابة الأم الحقيقية لى رغم فارق السن بيننا.. يأتى أبى إلينا ثلاثة أيام فى الأسبوع ليشترى لنا كل ما نريد بعد أن رفضت زوجته أن أكون معهم فى البيت.. ومن سنة علمت من جدتى أن والدتى تريد رؤيتى.. وحاولت الاتصال بى كثيرا كى تعتذر لى عما بدر منها طوال السنوات الماضية، لدرجة إنها أتت لى فى البيت.. لكنى لن أسامحها بالمرة، لأنها أهملتنى وباعتنى فى أشد المواقف التى احتجت لها فيها.. فأمى الحقيقية هى جدتى. ∎ أبى دمر حياتى.. سامح محمد الشاب ذو الثلاثين عاما كانت قصته مختلفة نوعا ما.. حيث يرى أن والديه هما سبب تدمير حياته فيقول: عشت طفولة مشتته لم يكن بها أى نوع من أنواع الاستقرار.. من بيت عمى لبيت خالتى لبيت جدتى ثم فى النهاية إلى بيتى، بعد أن تهدأ الخلافات بين والدى.. وذلك يرجع لانفصالهما أكثر من مرة حتى اتفقا فى النهاية على الطلاق.. وتركنى أنا وأمى دون أن يؤمن لنا حياتنا تأمينا ماديا، وذهب!!.. ومن بعدها بدأت نظرات العطف والشفقة تنهال على أنا وأمى من أقرب الناس وكان هذا يؤلمنى كثيرا.. فهذا كان شعورا سيئا بالنسبة لى كطفل وقتها.. ومن بعدها قررت ألا أحتاج إلى أحد وأعتمد على نفسى وهذا ما كانت دائما تربينى عليه والدتى، التى ضحت كثيرا من أجلى.. حيث نزلت للعمل بعد انفصالها عن أبى حتى لا تحرمنى من شىء وتستطيع الإنفاق على بعد أن تخلى عنا تماما.. وكنت أراه يوما واحدا فى الأسبوع.. وكان بالنسبة لى يوما مثل باقى أيام الأسبوع لا يضيف لى شيئا.. كان يحاول دائما أن يكسب ودى فى كل لقاء.. لكنه فى أحد اللقاءات بدر منه موقف غريب وكنا وقتها فى النادى، وجاء الجرسون ليأخذ الطلبات وعندما قال لوالدى ماشاء الله ابن حضرتك زى العسل يافندم صدمنى برده عليه قائلا: ده مش ابنى، ده ابن أخويا''!!.. و بعدها نظر لى مبتسما وظل يلعب معى ويحكى لى قصصا وكأنه يريد أن يطمئن نفسه أن ما حدث مع الجرسون قد محى من ذاكرتى ولم يؤثر فى علاقتى به.. وهذا ما كان يريد أن يثبته لنفسه، لكن الحقيقة كانت غير ذلك.. فقد جرحنى كثيرا.. ووقتها عدت لأمى وارتميت فى حضنها وظللت أبكى حتى غالبنى النوم.. وفى كل مرة كنت أرفض مقابلته كانت أمى دائما تضغط على وتطلب منى أن أسأل عليه.. وكانت دائما تتحدث عنه بطريقة جيدة أمامى حتى أسامحه على ما فعله معى.. إلى أن جاء الذنب الكبير الذى لن أغفره له أبدا.. فقد طلبت منه «بما أنه من المفترض والدى» أن يأتى معى كى أتقدم لخطبة الفتاة التى أحبها قلبى واختارها عقلى، كى أكمل معها باقى حياتى.. فاجأنى برده قائلا: أنا آسف، أنا لا أثق فيك ولا فى إمكانياتك، كى أضع يدى فى أيدى أشخاص غريبة، من الممكن أن تورطنى معهم !!.. وهذه لم تكن المرة الأولي التى أحتاجه فيها فى مثل هذه المواقف.. فقد وصلت لمرحلة من الخوف من الإقدام على هذه الخطوة، خوفا من أن تعاد هذه الكرة مع أبنائى ويعانون مما عانيت منه طوال حياتى.. هذا هو أبى!! فكيف لى أن أسامح رجلا مثل هذا؟!.. فقد دمر حياتى بمعنى الكلمة. ∎ أبى باعنى فتاة مليئة بالحيوية والرشاقة.. الابتسامة لا تفارق وجهها.. إقبالها على الحياة يشعرك بلذتها ومتعتها.. ولكن كل ما تفعله يعكس ما بداخلها من حزن وألم.. هذه هى بسمة حسن الفتاة ذات ال92 عاما تروى قصتها والدموع تتساقط من عينيها كقطرات المطر قائلة: «الغريب أحن على من أبى» طوال حياتى و أنا فى خلافات والدتى منذ صغرى.. وظللت فترة من عمرى عايشة مع جدتى، إلى أن تزوجت أمى وأخذتنى كى أعيش معها فى بيت زوجها حيث يعاملنى بطريقة حسنة وكأننى ابنته.. ورغم كل هذا لم يهدأ أبى عن مضايقتى.. فدائما يلاحقنى بطريقة غير مباشرة عن طريق أقاربى ليخبروننى أننى مقصرة فى حقه.. حتى اعترفت بذلك وعندما كنت أزوره فى منزل زوجته كان يعاملنى بطريقة سيئة جدا حتى لا يثير غيرتها.. وهذا ما عرفته بعد أن بلغت سن الرشد.. لكنى دائما كنت أقول لنفسى أن لا أحد يمكنه أن يبعدنى عن والدى.. ولكنى كنت مخطئة فى ذلك.. «فحتى الأب ممكن أن يبيع ابنته»!! وهذا ما حدث معى.. ففى إحدى زياراتى له فوجئت بزوجته تفتح لى باب المنزل لتخبرنى أنه ليس بالداخل، رغم تأكدى من وجوده.. وبالفعل تم طردى بطريقة غير مباشرة دون أن يأخذ أى موقف يرد كرامتى!!.. وفى يوم خطوبتى قمت بعزومته، ولكنى فوجئت أنه حضر بملابس سيئة وظل طوال الحفلة ممتعضا لا يتحدث مع أحد، حتى انتقده كل الحاضرين وعلى رأسهم خطيبى.. ووضعنى فى موقف محرج أمام الجميع.. وبعدها اتصلت به تليفونيا، كى أعاتبه على ما فعله.. وبمجرد أن سمع صوتى أغلق التليفون فى وجهى على الفور.. وهذه من أكثر الأشياء التى آلمتنى.. فقد سامحته كثيرا و لكن بعد هذه المرة لن أسامحه أبدا. ∎ حياة العواجيز.. جعلونى عجوزة جاءت إلى الدنيا لتصطدم بالواقع الأليم والمستقبل المجهول الذى ينتظرها.. جاءت لتجد والديها على وشك الانفصال.. حاولت أن تكون هى حلقة الوصل بينهما التى ترجعهما عن قرارهما.. ولكن وجودها فى حياتهما كان «زى عدمه».. وانفصلت الأم عن الأب وأخذت ابنتها وسافرت.. وتزوج الأب وأنجب ثلاثة أبناء، بينما تزوجت الأم هى الأخرى وأنجبت طفلين.. وذهبت الطفلة للعيش مع أجدادها.. هذه هى «هالة سمير» المراهقة ذات السبعة عشر عاما تروى قصتها قائلة: جئت إلى الدنيا ولم أر أبى بالمرة، ولا حتى أعرف شكله.. وعندما كنت أسأل عنه كانت أمى تخبرنى دائما، بأنه منشغل فى حياته الأخرى ولا يريد أن يرانا.. وبعدها تزوجت أمى أيضا.. ووجدت نفسى أعيش بمفردى مع أجدادى وتأتى أمى من حين لآخر كى ترانى. ثم تضيف قائلة: حياتى كحياة العواجيز، لدرجة أننى أصبحت أرى نفسى سيدة مسنة.. حتى عندما أتحدث مع أصدقائى دائما ما يقولون لى «إنتى أفكارك وآرائك قديمة جدا!!».. وهذا يعتبر نتاجا طبيعيا لطفلة مثلى تربت على أفكار العواجيز!!.. وعندما أحب أبى أن يكفر عن سيئاته قبل أن يقابل وجه كريم.. طلب أن يرانى، ولكن بعد أن تمكن منه المرض.. ولكنى رفضت رؤيته لأننى حزينة بسبب إهماله لى طوال هذه السنوات.. وبالفعل توفى وأنا غاضبة منه ولن أسامحه بالمرة.∎