روح الثورة تلك الروح التى قد تتقمصنا.. تدخل فينا تغير ما بداخلنا وتعجنا من جديد أو ربما هى تظهر أحسن ما فينا تجعل أرواحنا هائمة تسعى للشفافية والمصالحة والتعاون والحب وعبور الأزمات بصدر رحب ونفس هادئة مطمئنة.. أنا من الجيل الذى لم يحضر نكسة 67 لم يعايش حروب الاستنزاف ولم يعرف معنى أن يحمل الجندى روحه على يده .. يخرج وهو لا يعرف هل سيعود مرة أخرى أم لا.. يقف على الحدود لحماية أمن الوطن. لم أعايش انتصارات أكتوبر .. لم أشعر بروح النصر لم أعرف أيضا روح القومية العربية ولا الوحدة ولا حالة المشروع القومى الذى يوحد الدولة.
كلها كانت مشاعر يفتقدها جيلنا الذى نشأ فلم ير سوى حاكم واحد وروح واحدة ملؤها الإحباط واليأس وغلاء المعيشة والبطالة والفقر.. حتى يوم 25 يناير ذلك اليوم العظيم والذى بعده تغيرت رؤيتنا لأشياء كثيرة وعرفنا معنى كلمة (الروح) روح الحب روح الوطنية روح التحدى التى تدب فى المصريين كيف ينبثق الأمل من الغيوم السوداء وكيف تصر الأقدام على العبور بالرغم من أى صعوبات؟!
كيف يظل الإنسان يثور ويغير حتى يحصل على ما يريده؟!
حقيقة إنها روح موسمية.. لا تدوم طويلا فربما روح المصريين خفيفة.. لا تستقر على حال واحد.. المصرى غير متقلب المزاج فهو لا يملك رفاهية الاختيار.
ومزاجه دائما عكر نادرا ما يصفو، لكنه دون أدنى شك شخصية تستحق الدراسة تستحق الوقوف أمامها مليا والتأمل فى مكنوناتها فهو يعيش بأقل القليل وقلبه لا يكفر بنعمة الله.
ولكن ربما الضغوط التى يتعرض لها هى ما قد يغير هذه الروح الموسمية، ولكنها فى النهاية على اى حال تظهر نستطيع أن نلمسها وأن نشعر بقدسيتها وهى هائمة بيننا.. قد تستمر أسابيع وأياما أو حتى ساعات، ولكنها موجودة أن بحثت عليها ستجدها فى أروع صورها.
سأحكى عن الروح بعد 25 يناير وهى الفترة التى عايشتها وأترك لغيرى أن يتحدث بما عايشه فى فترات انتصارات ونكسات.
حكت لى أمى كثيرا عن روح 67 وكيف كانت تتغلب الأسر على نقص السلع التموينية الأساسية وكيف كانوا يتحملون هذا الضيق لأنهم كانوا مؤمنين بهدف أسمى.
حكت لى عن جارتها التى كانت تدعوها لتناول الغذاء عندها عندما تطهو الأرز لأنها تعرف أن والدتى تحبه والأرز كان فى فترات شحيحا غير موجود فى الأسواق، هو وكثير من السلع التموينية.
حكايات كثيرة عن الأسر المصرية وسبل التكيف لعبور الأزمات دهاء ربات البيوت فى تدبير المصروف حتى يكفى لآخر الشهر، ويبدو أن هذا هو قدر المصريين فلا فائض للرفاهية كله يصرف على البيت والأولاد.
كيف كانت تدرك ربة البيت البسيطة أن البلد فى أزمة وأن الأموال تستخدم فى أشياء أخرى كتسليح الجنود على سبيل المثال.. فيتكاتف الجميع بصبر وحكمة للعبور.
ومن حكايات من حولى اقتنعت تماما أن الجيش المصرى لم يعبر وحده فى 73 بل كل الشعب كان مشاركاً، الكل كان يشعر بالوطن.. لم يهرب إلا القليل، مصر كلها عبرت الأزمة دعت وصلت وتحملت حالة الحرب والتى ليست بالهينة ولكن المصرى أشد من أى أزمة يعرف كيف يكون محاربا من داخل بيته.
أنا من الجيل الذى صورت له السينما المصرية أن الشعب كان منكسرا بعد الهزيمة وأن النكسة أفقدت المصريين روحهم.. ولكن فى أول حواراتى مع الأديب الكبير جمال الغيطانى قال لى إن هذا الكلام ليس صحيحا، فالمصريون كانوا فى أشد فترات تماسكهم وروحهم كانت عالية وتجاوزوا الأزمة بدون انكسار.
وأعتقد أنها نفس الحالة التى مررنا بها قبل 25 يناير وفى العام الذى تولى فيه مرسى الحكم فالذى ينظر خارج المشهد قد يهيأ له أن الشعب المصرى استسلم وأنه سيرضى بالقليل وأن روحه قد كسرت ولكنه فاجأ العالم للمرة الثانية خلال أقل من ثلاث سنوات.
أى أن الروح كانت كامنة لم تمت.. فموت الروح يعنى الضياع، لكن غضبها أو كمونها لا يعنى بالضرورة موتها، بل تكون الروح فى حاله تحفز تتأهب للانقضاض والتحليق عاليا فليس مكانها القضبان.
وإذا رجعنا لروح 25 يناير وثورة 30 يونيو سنجد أن هذه الروح تجلت فى فترات كثيرة أهمها (اللجان الشعبية) ذلك العمل الشبابى الجميل الذى جمع شباب كل منطقة ليتكاتفوا منعا لدخول البلطجية أحياءهم السكنية ولتعم روح جميلة بين الأهالى يقدمون لهم الشاى والعشاء ويتسامرون ليلا.. حقيقة كنت أنام وقتها وأنا هادئة فأنا أسكن مع أمى بمفردنا، ولكننى كنت أنام ويحرصنا شباب ورجال المنطقة كلها.
حتى وأنا ذاهبة لعملى فى الصباح كنت أراهم يسألوننى عن الداعى لخروجى ويوصفون لى أهم المخارج والمداخل للمنطقة والتى أستطيع أن أخرج منها آمنة.
ميدان التحرير نفسه كان روحا لمصر.. كان مكتظا بالملايين، لكنك تدخل فيه وتخرج وأنت فى حمى ملايين العيون لا سرقة لا تحرش لا سفالات.
حتى مقاومة القنابل المسيلة للدموع والدعوات على مواقع التواصل الاجتماعى كلها كانت روحاً للعمل والنظام والخوف على المستقبل.
حماية المتحف المصرى وكيف صنع الشباب بأجسادهم دروعا واقية لحماية تاريخ مصر.
الروح الجميلة التى أعقبت ثورة 25 يناير عندما خرج الأولاد والبنات ينظفون الشوارع يرسمون الجراڤيتى على الجدران يجمعون بعض العملات النقدية البسيطة لاستكمال عملية النظافة يرسون الإعلام على السيارات يحملون لافتات لقيم المصرى الجديد الذى لن يكسر إشارة مرور لن يدفع رشوة.. يقعون فى غرام بعضهم البعض حتى إن كثيرا منهم قد تزوجوا بعد أن جمعتهم روح الميدان.
لم يدم الحال طويلا فبعد أشهر بسيطة اختفت الروح الجميلة للمصريين والتى أظهرتها محنة ال 18 يوماً لثورة 25 يناير وعادت روح الفهلوة من جديد فتحول جمع النقود من السيارات ورسم الإعلام عليها إلا إتاوات فيجمع الشباب العملات من السيارات بالقوة وتحت إلحاح حتى إننى كنت أرسم علما على السيارة للهروب من ملاحقتهم لى فى الإشارات.
القمامة انتشرت فى الشوارع والهمجية فى التصرفات والرشاوى لم تنته.
التحرشات زادت والسرقات فى كل مكان وأعمال بلطجة.
(توارت الروح) لتعود من جديد يوم 30 يونيو الكل خرج من أجل مطلب واحد الجميع يد واحدة لا فرق بين مسلم ومسيحى وغنى أو فقير وسكان مصر الجديدة والزمالك وسكان المناطق الشعبية، الميادين ممتلئة ودوائر للسيدات والفتيات لحمايتهن من التحرش.
وتحقق النصر وأطل الإرهاب برأسه اللعين ليتكاتف المصريون من جديد لمحاربة الإرهاب يتحملون سويا عدم أمان الطرق والمواصلات كل يذهب لعمله ولا يعرف هل سيصل أم لا؟ لكنهم لا يستسلمون يخرجون للبحث عن قوت يومهم.. الكنائس تحرق والمسيحيون أنفسهم لا يشغلهم غير الوطن وكل يوم نستيقظ على وجود قنبلة فى محطة مترو أو منطقة سكنية أو قسم شرطة والجميع مستمر يحارب بصمود وإصراره على المضى قدما فى محاربة الإرهاب أصوات طلقات الرصاص فى كثير من الشوارع والكل مصر على موقفه.
روح مصر تجلت فى حملات «امنع معونة أمريكية» وهى الحملة التى تطالب بعدم مد أيدينا من جديد لمعونة أمريكا حتى لا يتدخل أحد فى شئوننا، وهذه هى الروح العنترية للثورة الروح الأبية التى ترفض الإذلال، استنادا إلى أن من لا يملك قوته لا يملك حريته.
مقاطعة تركيا سياحيا واقتصاديا ودراميا فكثيرا غيروا وجهتهم السياحية هذا العام بعد موقف تركيا مع مصر وقاطعوا رحلات تركيا والدراما التركية والمنتجات التركية دون تردد وبكامل قناعتهم.
وعلى الرغم من استمرار الأزمات الخانقة التى تودى بصبر المصريين كانقطاع الكهرباء والزحام وارتفاع أسعار الخضر والفواكه ووهم الحد الأدنى للمرتبات الذين يلوحون به لنا إلا أن المصريين حتى هذه اللحظة لا يزالون متمسكين بروح 30 يونيو صابرين مؤمنين بأن الغد حتما سيأتى أفضل.