محافظة المنيا التى عهدناها عروس الصعيد صاحبة الموقع الجغرافى المتميز فهى تطل على صفحة عريضة من نهر النيل وتضم أهم المواقع الأثرية الفريدة والكنائس القبطية التى تعد من أهم المقاصد السياحية للتعرف على ملامح الحضارة القبطية.. ولكن يوم 41 من أغسطس بعد فض اعتصامى رابعة العدوية والنهضة تحولت هذه المحافظة الهادئة الى كتلة من نار فحرقت الكنائس وزهقت الأرواح وروع الآمنون ونهبت المحال التجارية.
عبد الرحمن محسن 18 عاما طالب بكلية الإعلام بإحدى الجامعات الخاصة ببنى سويف ولكنه يعيش بالمنيا مسقط رأسه فيروى لحظات رغم قصرها فإنها عدت وكأنها دهر فيقول: اعتزمت والدتى السفر إلى الاسكندرية فجر يوم 41 أغسطس الذى توافق مع يوم فض اعتصامى رابعة العدوية والنهضة ولكن والدتى ولا أحد يعرف بساعة الصفر لفض الاعتصام.. المهم سافرت أمى وجدتى وأختى والسائق الخاص بنا وخرجت من المنيا فجراً وسلكت طريق إسكندرية الصحراوى الغربى، وما أن وصلت الى الكيلو 95 حتى استوقفها رجال كثر يطلقون لحاهم ويحملون السيوف والسلاح الأبيض فى أيديهم وكانوا قد «ثبتوهم» من أجل الحصول على الأموال ولما بدت على أمى وجدتى وأختى علامات الخوف والرعب ولما رأوا أن من بالسيارة هن نساء «مسلمات» قرر هؤلاء الرجال أن يفسحوا لهن المجال لا للذهاب الى الإسكندرية ولكن للعودة إلى المنيا ولما سألته جدتى لماذا تفعلونهكذا فأجابها أحدهم: «عشان إخواتنا اللى فى رابعة».
ويستطرد عبدالرحمن قائلا: «لم أنس يوما وجه أمى وقد ارتسمت على قسماته كل آيات الفزع والهلع، لم يغب عن بالى ولو للحظة دموع جدتى وهى تقول لى: «إحنا كنا هنموت لولا إنى صعبت عليهم عشان كبر سنى».
وسكت عبد الرحمن قليلا: «هذا جزء بسيط مما حدث.. لأن المنيا الحقيقية قد تأثرت كثيرا بعد فض الاعتصامين وعشنا أياما نكاد لانعرف فيها طعم النوم من شدة الخوف والرعب، خاصة بعد أن أعلن الإخوان عن اعتزامهم فصل المنيا عن بقية محافظات مصر وجعلها إمارة خاصة بهم.. ولما سألته الاخوان أم الجماعات الاسلامية ؟! فأجابنى: «الاخوان هم من يعتزمون ذلك لأن المنيا معقل الاخوان أما أسيوط فيسيطر عليها الجماعات الاسلامية أكثر غير أن الجماعات الإسلامية فى المنيا ترفض بشدة أعمال العنف التى يتسبب فيها الإخوان ولا تشاركهم فيها.
ويستطرد قائلا: «شاهدنا أعمال عنف متفرقة فى جميع أنحاء المحافظة فيروى لى أحد أصدقائى القاطن بالقرب من مدرسة الاقباط الاعدادية وهى من أكبر المدارس بالمنيا حيث يلتحق بها ثلث طلاب المنيا.. فيروى أن هذه المدرسة قد شهدت إطلاق نار بصورة عشوائية عليها وعلى البيوت المجاورة لها مما تسبب فى قطع اسلاك الانترنت فى المنطقة وتضرر الناس بشكل كبير.. كذلك تعرضت المدرسة للسرقة بالكامل فكنا نرى رجلاً كبير السن وهو يحمل شاشة كبيرة LCD فضلا عن أجهزة الكمبيوتر التى سرقت من المدرسة.
كذلك مدرسة راهبات القديس يوسف وهى مدرسة خاصة إعدادية بنات قد تهدمت بالكامل بعد أن اشتعلت فيها النيران على يد الاخوان.. أيضا يوم فض اعتصامى رابعة العدوية والنهضة، كانت هناك كنيسة أخرى قام أحد قيادات الاخوان بكسر أقفال أبواب الكنيسة وقام هو ومجموعة من الإخوان باقتحامها وسلبها، كذلك مروا فى طريقهم إلى مديرية أمن المنيا وحطموا أسوارها بالكامل.. كذلك حطموا مبنى المعاقين وهو مبنى ضخم جداً لرعاية المعاقين ملحق بكنيسة الجيزويت المتاخمة لمسجد الرحمن معقل الإخوان والجماعات الاسلامية.. أيضا كنيسة الانبا أنطونيوس حاولوا إحراقها ولكن قوات الجيش تصدت لهم.
ويمكننا أن نضيف الى أعمال التخريب التى اقترفوها أيضا حرق سيارات الشرطة بكثافة، وكذلك حرق مبنى الخدمات العامة للقوات المسلحة الذى أصبح «كومة رماد» وقتل ضباط الشرطة بلا رحمة وأنا أذكر أنه كان هناك ضابط يدعى محمد جمال أبوحليقة وكانت خدمته بسيناء ولكن والده سعى حتى نقله الى المنيا محل نشأته ولكن بعد خطاب عزل مرسى أصيب هذا الضابط بطلق نارى فى الصدر وتوفى فى الحال.
وأذكر جيداً أنه بعد خطاب عزل الرئيس مرسى كنا نسير فى الشارع ورأينا مجموعة من شباب الاخوان وهم يكسرون المدخل الزجاجى للبنك الاهلى والنوافذ الزجاجية الخارجية للبنك والذى يبلغ عددها (67 لوحاً زجاجياً) ولأن أحد أقربائى كان يعمل هناك فقد عرفت منه أن هذا البنك قد خضع لعدة إصلاحات وتطويرات قبل تكسيره بلغت ما يقرب من 6 ملايين جنيه.. وقد نتج عن هذا الهجوم على البنك وفاة ضابط شرطة من شباب المنيا.. كذلك كانت محلات المسيحيين مستباحة وتتعرض كل يوم إما للسرقة أما للحرق وأذكر أننا رأينا بعد احداث الفض محلاً اسمه «أهالى» وصاحبه مسيحى وقد هجم عليه الإخوان وأخذوا البضاعة ووضعوها أمام المحل واشعلوا فيها النيران امام صاحب المحل الذى لم يستطع أن يفعل معهم أى شىء لأنهم كانوا مسلحين.. كذلك محل «مشمش» للبويات والدهانات وصاحبه يدعى ميشيل فقد هجم الإخوان على المحل لحرقه ولكن الرجال والشباب الذين كانوا يجلسون على القهوة منعوا الإخوان من الاقتراب من المحل وقالوا لهم: «إذا ارادتوا حرق المحل فاحرقونا معه» فانصرف الإخوان. هذا قطعا غير الهجوم على متحف ملوى وسرقة ما تيسر لهم من الآثار فإذا كانت الحكومة قد نجحت فى استرجاع 59 قطعة أثرية إذن فإن القطع المسروقة عددها أكثر بكثير!!
وأريد أن أقول إن الإخوان يقومون أحيانا بأعمال تخريبية للانتقام من أشخاص بأعينهم، فمثلا كان هناك ضابط يدعى عمرو حسن يقطن بالشقة المتاخمة لشقة أبناء القيادى الإخوانى سعد الكتاتنى، وكانت هناك عداوة بين الضابط وأبناء الكتاتنى لأنه كان يلاحقهم ولا يسكت على انتهاكاتهم فقرر الاخوان أن ينتقموا من هذا الضابط بإشعال النيران فى منزله ولكنهم أحرقوا شقة أخرى عن طريق الخطأ وصاحبها عربى.
أما الآن فالوضع فى المنيا أكثر هدوءا.. كل شوارع المنيا الرئيسية مغلقة: شارع الكورنيش وشارع المحطة وكل الأقسام والبنادر يحميها الجيش حتى مبنى مديرية أمن المنيا يعتليه قناصة الداخلية لرصد أى تحركات مشبوهة.. الحياة تتوقف قبل الساعة التاسعة حتى الأفراح تقام فى الثالثة ظهراً حتى السادسة مساء.. فبعد التاسعة مساء حيث بدء أول ساعات الحظر لا نستطيع ان نجد اى «بنى آدم» فى الشارع حيث من المحظور التجمعات أو توزيع المنشورات.. الأهالى أصبحت تقاطع محلات الإخوان مثل محلات القدس للملابس التى ترجع ملكيتها الى أسامة الكفراوى أحد قيادات الاخوان والملاحق أمنيا.. كذلك تم القبض على الدكتور مصطفى عيسى محافظ المنيا السابق وكان من قيادات الاخوان ولكن السؤال هنا يطرح نفسه: «كيف لطبيب نساء وتوليد.. وأنا شخصيا أمى ولدتنى عنده- أن يكون محافظا لمحافظة بحجم المنيا! وأم لكونه يحمل لقب إخوانى كانت أهم مؤهلاته لتولى هذا المنصب».
∎ 4 ساعات
«احنا شوفنا أيام سودا» هكذا قالت نهى وحيد (21 عاما) تسكن بأحد الشوارع الرئيسية فى المنيا.. كل يوم كان يمر علينا كان يجب أن نذوق 3 أو 4 ساعات من الخوف والفزع فى ظل ترويج شائعات بأنه يتم «التعليم» على منازل ومحلات الاقباط لحرقها أو قيام الإخوان بوضع أنابيب البوتاجاز أسفل المنازل لاشعال النيران فيها دفاعا عن أنفسهم فضلا عن حرق الكنائس ومدارس الراهبات.. وأنا أذكر أن أخى عندما ذهب الى الكنيسة المجاورة لمنزلنا وهى كنيسة الامير تواضروس فقال إنه وفقا لرواية شهود العيان فإن الكنيسة ظلت تحترق لساعات طويلة الى أن انطفأت دون تدخل الحماية المدنية.. فتآكل كل شىء ووقع السقف العلوى وآثار الخراب فى كل مكان.. وتكمل: نعم أصبحنا متعايشين مع ضرب النار ولكن مازال الخوف يملأ قلوبنا لدرجة أن أبى اشترى جراكن البنزين ووضعها فى «بير السلم» ليستخدمها إذا لزم الأمر فى الدفاع عنا وعنمنزلنا..
∎فى حماية المسلمين
كريستين يوثام (22 عاما) متزوجة تعمل مساعد مخرج بإحدى القنوات التليفزيونية على الإنترنت تروى أيام الرعب والخوف التى عاشتها والدتها فى المنيا فتقول كريستين: «أنا فى الاساس من قرية بنى مزار بالمنيا عشت طفولتى ومراهقتى بالمنيا، ولكن أنا الآن أعيش ببنى سويف مع زوجى فى منطقة «ببا» ورغم أن هذه المنطقة لم تتأثر كثيراً بأعمال العنف التى شهدتها مصر كلها بعد فض اعتصام ميدانى رابعة العدوية والنهضة بل أذكر أنه تم منذ عدة أيام اقتحام مكتب مديرة مدرسة فاطمة الزهراء ببا وسرقوا كل محتوياته والأموال التى كانت موجودة بالخزينة.. أما عن المنيا، فتروى كريستين قائلة: «لأننى أعيش فى محافظة بنى سويف أى بعيداً عن قرية بنى مزار بالمنيا التى نشأت فيها فكنت كل يوم فى ظل هذه الأحداث الأليمة اتصل بوالدتى للاطمئنان عليها وكانت كل يوم تصف لى خوفها ورعبها مما يحدث كل يوم فى المنيا. فروت لى والدتى أن الاخوان داوموا على اقتحام أغلبية الكنائس الموجودة فى المنيا ويسلبونها وقبل أن ينصرفوا يضرمون النيران فيها وكان من أهم الكنائس التى أحرقت كانت كنيسة «مارمينا» التى تكبدت خسائر فادحة.. أما كنيسة العذراء المتاخمة لمنزلنا فى المنيا فحاول الإخوان مرارا وتكرارا مهاجمتها لسرقتها وحرقها ولكن بفضل شباب المنطقة من المسلمين لم يتمكنوا لأنهم كانوا يقفون أمام الكنيسة كدروع بشرية ويمنعونهم حتى من الاقتراب منها فينصرف الاخوان ويهددون شباب المنطقة قائلين: «لن نترك الكنيسة هانحرقها يعنى هانحرقها» ويأتون فى يوم آخر ولكن محاولتهم تبوء بالفشل.. هذا بالنسبة للكنائس أما المحلات التى يملكها الاقباط فكانت ولاتزال نقطة استهداف للإخوان المسلحين فكانوا ينزلون على الأخضر واليابس حتى أن صديق العائلة الدكتور رأفت فايز وهو طبيب لديه معمل للتحاليل والاشعة قد تعرض هذا المعملللسرقة والنهب حيث استطاع الإخوان أن يسرقوا محتويات المعمل إضافة الى الخزينة التى كانت تحتوى على مبلغ يقدر بحوالى 100 ألف جنيه. فعائلتى تعيش أياماً من الخوف والرعب لدرجة أن والدتى أصبحت تقوم كل يوم فى الصباح برش المياه فى البلكونة خوفاً من أن تقع زجاجات المولوتوف وتحرق الستائر والسجاجيد وأخى أيضا أصبح يصنع المولوتوف تحسبا لأى هجوم على المنزل أو على الكنيسة.
وأود أن أقول أن الاخوان وضعوا علامة «رابعة» وهى الإشارة بأصابع اليد الأربعة وعلامة الصليب على بيوت كبار أو أغنياء الاقباط فى القرية وهى إشارة تحلل للإخوان اقتحام هذه البيوت واستباحة دمائهم لأنهم مسيحيون ولكن الحقيقة نحن نعيش فى حماية المسلمين، حيث قال أحد كهول المنطقة للإخوان: إذا اقترب أى شخص منكم إلى بيت أى مسيحى إحنا اللى هانقف له. والى غير ذلك من العلامات أعتزم الاخوان كتابة «سيسى خائن وسيسى قاتل على جدران المنازل والكنائس وكان كلما دهن أهالى المنطقة الجدران لاستعادتها الى ما كانت عليه كلما كتب الاخوان «مبروك الدهان» تواضرس جبان».
∎مأتم كبير
أما حمادة حسن (20عاما) طالب بإحدى الجامعات الخاصة ببنى سويف فرفض أن يتكلم ولكنه قال كلمة واحدة فقط «حسبى الله ونعم الوكيل.. يكفى أن عائلتنا الكبيرة تعيش فى مأتم كبير بعد أن فقدت ابن عمى الذى كان يعمل معاون مباحث فى قسم شرطة بنى سويف قد قتل على يد الإخوان بطلق نارى فى الصدر يوم فض الاعتصامين، وهو شاب كان وحيد والديه وأمه تموت كل يوم حزنا على فراقه.. أيضا ابن عمى الآخر هو الآن بين الحياة والموت يرقد بالعناية المركزة بعد أن هجم الإخوان على قسم شرطة بالفيوم الذى يعمل به وألحقوا به إصابات بالغة، حيث يعانى من ذبح فى الرقبة وقطع غائر فى البطن ووجهه «متشلفط ب ''75'' غرزة فضلا عن 200غرزة أخرى فى سائر أنحاء جسمه... وينهى حديثه قائلا: «احنا صعايدة وأموت وأعرف مين بالضبط اللى عمل فى ولاد عمى كده وأنا «افرتكه بسنانى».