أطفال.. شباب.. نساء.. شيوخ.. رجال.. سكان القاهرة أو من الريف أم صعايدة.. فى النهاية هم بشر اختلفت هويتهم وأديانهم.. اختلفت أعمارهم اختلفت مناطقهم السكنية ولكنهم جميعا على رصيف واحد لا يتسولون ولا يضايقون المارة ولا هم «بلطجية» وإنما جمعهم المرض.. فهم مرضى المعهد القومى للأورام.. نعم هم مصابون «بالمرض الوحش» كما يقول البعض منهم أو «يكفينا ويكفيكم الشر المرض إلى بيموت» كما يقول البعض الآخر. هم مصابون بالسرطان.. وباختلاف أماكن إصابتهم ونسبة إصابتهم وباختلاف مدى نسبة شفائهم إلا أنهم نموذج للصبر وللأمل وللمعاناة وللحزن فإذا تذكرهم الإعلام المقروء كتبهم على صفحات الجرائد والمجلات ولكن «محلك سر» لا يوجد أمل وإذا تذكرهم الإعلام المرئى استضاف منهم القليل وإن استطاعوا جمع تبرعات فبمجرد انتهاء الحلقة ننشغل وننساهم فهى ليست أزمة شخص أو اثنين فهى أزمة وطن.. فهم فى الآخر يعانون فى صمت، فالمرض كسرهم ولكن لم ييأسوا ولم يلجأوا لكسب الشفقة بمرضهم والمتاجرة به وإن كان منهم من يفعل ذلك فالباقون صامتون وصامدون.. هؤلاء المصابون ينتظرون دورهم فى العلاج على رصيف المعهد وإن كانوا يتلقونه فى الداخل فأهلهم ينتظرونهم على الرصيف.. فرصيف المعهد هو بطل يومهم أو نقطة تجمعهم.. وهى المحطة التى لابد أن يمروا عليها لأخذ فطورهم أو «الشاى» فهو كما يطلق عليه البعض رصيف التغذية وكما يطلق عليه آخرون «لوكاندة الكورنيش» وهو مكان المبيت لمن لم يجدوا غرفا شاغرة فى دور الضيافة وعلى حد قولهم.. ما أوسع الرصيف!! وما بين نصبة الشاى والقهوة والترمس والفول والحمص تتراص الكراسى الملونة البلاستيكية التى تعطيك الشعور بأنك فى مصيف بالإسكندرية أو راس البر وأن الرصيف يستقبل المصيفين.. وعلى هذه الكراسى يجلس المرضى وأهلهم إما منتظرين «توصيلة» أو منتظرين العلاج.. قد يرى البعض أن هذه فوضى وإنما أرى أن هؤلاء «الأرزقية» وإن كانوا بيستنفعوا فهم يقدمون المساعدة الحقيقية للمرضى وخففوا عنهم «قاعدة الأرض» .
السطور القادمة ما هى إلا صورة بانورامية لكل من يجلس على رصيف المعهد.
∎ مرضى.. راضون بقضاء الله
عندما يغلبك اليأس وتقفل جميع الأبواب فى وجهك اذهب إليهم لتتعلم التفاؤل، والصبر، الايمان والأمل.. هذه الصفات والمشاعر الجميلة وجدتها فى عصام حلمى 55 عاما لديه ولدان أحدهما فى الرابعة الابتدائى والثانى عمره 7 سنوات لم يدخل المدرسة بسبب مناعته الضعيفة لأنه مصاب بسرطان الدم.. إذا رأيتهما للوهلة الأولى تشعر بأنهما أصحاء جدا ولا مشاكل لهما بسبب ضحكتهما التى تملأ وجههما.. فالأب يداعب ابنه الصغير ويلعب معه وهما ينتظرا تحضير العلاج الكيماوى للصغير.. فجلسوا على رصيف المعهد يتناولون الفطور ويشربون الشاى والضحكة تملأهم والبشاشة على وجههم وكان الأب ابنه غير مصاب بمرض لعين وعندما اقتربت منه وتحدثت معه قال: أنا إيمانى بالله أقوى من أى شىء وعلى يقين بأن ما يأتى من عند الله دائما هو الخير طالما من عند الله.. وبما أن المرض من عنده فهو أيضا خير حتى وإن كان مرضا لعينا مثل السرطان.. ثم صمت ليحكى لى قصته قائلا: كنت أسكن بالمقطم وقمت ببيع المنزل حتى أستطيع أن أصرف على علاج أبنى فهو يعانى من هذا المرض منذ سنتين وكان فى بادئ الأمربيتعالج فى مستشفى أحمد ماهر وكنت يوميا أقوم بصرف 250 جنيه لذلك قمت ببيع الشقة وسكنت فى دار السلام إيجار مؤقت.. وبدأ ابنى يتعالج فى معهد الأورام والمعهد يقوم بصرف العلاج الكيماوى له مجانا وهناك بعض الأدوية أقوم بشرائها من الخارج وعلى الرغم من أننى أسكن بالقاهرة إلا أننى أحضر أنا وابنى من الساعة 8 صباحا حتى الثالثة عصرا ولأن المعهد لا يتحمل استقبال هذه الأعداد المهولة فكنا نجلس على بلاط المعهد حتى رفضوا جلوسنا بهذا الشكل فذهبنا للجلوس على أرض الرصيف المجاور للمعهد وكان أمن المعهد وضباط المرور يمنعوننا من الجلوس حتى أصبحت لنا استراحة على الرصيف المقابل للمعهد لخدمة مرضى المعهد فهنا نقضى يومنا بطوله فنفطر ونتغدى على نفس الرصيف منتظرين دورنا فى العلاج الكيماوى.. الأمر تطور فابنى الآن يحتاج إلى زرع نخاع وهذه العملية تكلفتها طائلة وابنى ليس فى المدرسة حتى يتحملها التأمين وعندما ذهبت إلى التأمين حتى أقوم بعملها على نفقة الدولة أدخلونى دوامة الأوراق طالبين ورقة تثبت بعدم وجود ابنى فى أى مدرسة وأن ليس له تأمين..» والنبى ينفع أروح أخبط على المدارس أقولهم عايز ورقة أن فتحى مش فى المدرسة» عشان أنقذ ابنى من المرض اللعين ده؟!
∎ إلا مهانة ابنى
وأثناء تصويرى وحديثى مع المرضى أشار لى شخص بالمجىء يظهر عليه القوة فهو كما يقولون «طول بعرض» يرتدى جلباباً شتوياً وعمة فاعتقدت أنه المعلم المسئول عن هذا الرصيف وسيمنعنى من التصوير وبمجرد ذهابى إليه جلب لى كرسى حتى أجلس أمامه وطلب لى شاى ليسرد لى قصة ابنه المريض فهو عاصم صبحى عبدالوهاب 34 سنة لديه 3 أولاد وبنت وعبدالله ابنه البكرى 61 سنة ثانوى أزهرى يعانى من سرطان فى العظام.. هذا الرجل قوى البنيان يسرد لى قصة ابنه وصوته فى منتهى الضعف وقلة الحيلة قائلا: أنتظر ابنى على هذا الرصيف أثناء تلقيه العلاج الكيماوى فنحن من المنصورة ونجلس الآن فى إحدى دور الضيافة.. أنا أحكى إليك حتى اشتكى من أحد العاملين فى دور الضيافة على سوء معاملته لابنى فنحن أثناء مبيتنا جاء أحد العمال وضرب ابنى الشيخ عبدالله فى رجله التى تؤلمه.. أنا متألم وحزين على مهانة ابنى.. أنا أموت وهو لا يهان.
طلب منى طلباً غريباً بأنه سيأخذ رقم هاتفى وسيتصل الساعة السابعة بى فإذا لم يعتذر له العامل على ما فعله بابنه انشرى الموضوع باسم دار الضيافة وباسم العامل أما إذا اعتذر فلا داعى لذكر الأسماء أو الموقف.. وفى الحقيقة لم أصدق نفسى عندما اتصل بى بالفعل فى السابعة ليطلب منى عدم النشر لأنه لم يرد إيذاء أحد.. كل علامات التعجب والدهشة أصابتنى الهذا الحد مازال هناك بشر لهم ضمير.. فهو فى عز مرض ابنه وألمه وإصابته بمرض لعين طاحن للجسد يعمل ما عليه حتى يأخذ ما له.. أردت ذكر هذه اللافتة الإنسانية وبدون تعليق.. حكى لى أثناء جلوسى معه أنه على علم أن عقاقير الألم التى يأخذها ابنه فى عيادة الألم ستؤثر حتما على جدار معدته فقال: أنا راسب ثانوية عامة ولكن أحاول أن أثقف نفسى فأشاهد البرامج الوثائقية وأقرأ فى التاريخ والطب، وعندما سألته عن عمله قال: أعمل مساعد سواق معدات فى هيئة صرف ميت غمر بعقد مؤقت وأتقاضى 412 جنيها؟ فتعجبت وسألته كيف تقوم بالصرف على أربعة أبناء فى الأزهر وعلى بيت.. فرد بحكمة وكيف أصرف على مرض ابنى؟ ثم أكمل.. من باب الله فلا تتعجبى فرزقنى الله بمرض ابنى ولكننى أعمل بعد عملى فى الهيئة فى أى شىء وقال «أنا راجل بشيل على كتفى» بدلا من مد اليد واللجوء إلى الأهل للمساعدات فأنا أخى دكتور ولم أمد يدى له أو لأى أحد فى العائلة طالما فى الصحة أعمل فى أى شىء «أشيل أقفاص على كتفى» أو أقوم بهد شىء إذا أراد أحد أن يهد أنا مبلط أعمل فى أى مهنة حتى أستطيع أن أصرف على بيتى وعلاج ابنى.. فسألته وأنا بداخلى أبكى: ولماذا لا تخرج أبناءك من الدراسة.. فأجابنى بلهفة: لا يا أستاذة الواحد «ملوش غير علامه» وأنا «مش عايزهم يشوفوا اللى أنا بشوفه».
∎ لا أملك ثمن العملية
المشكلة فى أن الجميع يأتى إلىَّ بدون عناء منى وجميعهم يريدون الحديث معى وكأنى نقطة النور التى وجدوها مضيئة فى طريقهم المظلم أو بالبلدى كأننى «القشة» التى ستنقذهم من الغرق فى المرض.. فهم يتوسمون الخير فى إما بمساعدتهم المالية أو جمع تبرعات أو بحل مشاكلهم كأن أحضر لهم علاجا على نفقة الدولة وهذا ما تحدثت عنه أم ياسر معى قائلة: ابنى يعانى من سرطان فى الدم وصل إلى النخاع والحل فى زرع نخاع له والعملية تتكلف 150 ألف جنيه ولأن له تأمين مدرسى فقال لنا التأمين بأنهم سيقومون بدفع 75 ألف جنيه ونحن نتحمل مثلهما.. ولكن من أين؟ فأنا لا املك أراضى وأطيانا ولا أملك سوى الجلباب والشال اللذين أرتديهما ونحن من الفيوم نأتى إلى هنا كل سبت وأربعاء ونسكن فى دور الضيافة وحتى أقوم بجمع مال للسفر للفيوم مرتين فى الأسبوع أقوم بالعمل فى الأسواق اليومية فبعد الانتهاء من جرعة الكيماوى التى يأخذها ياسر أذهب به لينام فى دار الضيافة وأتجه إلى سوق الأحد فجرا حتى أعمل هناك وأجمع أى مبلغ حتى أسافر الفيوم وهكذا يوم الأربعاء أذهب فجرا سوق الخميس حتى أعمل وأجمع المال بدون أن أسأل أحدا ولكن 75 ألف جنيه مبلغ كبير علىَّ وليس لدىَّ زوج فهو متوفى ولا أملك أى شىء سوى دعائى إلى الله ووقوف الإعلام بجانبى ليقوم بتوصيل صوتى إلى أى مسئول أو برنامج ليقوموا بمعالجة ابنى.. وصلوا صوتى للمذيعة ريهام السعيد أنا خلصت كارت شحن بعشرين جنيه ومعرفتش أوصلها.
∎ الأب والابنة مرضى
تركت أم ياسر والمرارة تزيد بداخلى أود الرحيل والاكتفاء بهذا القدر من المرضى ولكن هناك شيئا يبقينى حتى أستمع لهم.. فقد لا أملك مساعدتهم ماديا ولكن علنى عند سماعهم يرتاحون نفسيا لوجود من يسمع لهم.. وظللت معهم من الظهر حتى المغرب وأنا أقوم بوظيفة «منصته» فجاءنى عم فتحى السيد إبراهيم من بنى سويف 67 سنة لا يعلم سبب مجيئ وماذا أفعل وإنما هو صاحب نصبة شاى أعتقد أننى أساعد المرضى ماديا فجاءنى مسرعا ليرفع عن كم الجلباب الأيسر حتى أشاهد يده التى بها إعاقة وبحاجة إلى شرائح ومسامير وعمليه تكلفتها 13 ألف جنيه وقال لى بابتسامته المصرية التى بها أصله الطيب العريق: «مش لازم تساعدينى لو مش هتقدرى» لكن ساعدى ابنتى هيام فهى مريضة و«فيها يا ما» وعمرها 25 عاما ولديها طفلتان فسألتها عن مرضها فإذا بها تشتكى لى برقة ولين قائلة: الحمد لله أنا مريضه كبد وبتعالج فى المعهد القومى لأمراض الكبد المجاور للمعهد القومى للأورام ومع ذلك أصبت بتلوث فى الدم فقاموا بنقلى إلى معهد الأورام لآخذ العلاج اللازم هناك حتى يمنعوا إصابتى من سرطان الدم.. صمتت وهى تنظر لابنتيها وصمدت وأكملت وهى تحبس دموعها بقوة: أنا أقوم ببيع العصائر والشيبسى وأبى يساعدنى بنصبة شاى فهو أفضل له من تسوله بالمرض الذى فى يديه وأيضا يساعدنى لأننى أصل إلى مرحلة أقوم فيها بالتقيؤ دم والتبول بالدم وأحيانا أفقد وعيى فيقف والدى بجوارى لمساندتى بدلا من الغريب ومنها أنا وأبى «نسترزق» ونقوم بجمع البسيط حتى وإن لم يكن لعلاجى فحتى أستطيع علاج ابنتى وإعطائها حقن الروماتيزم.
∎ صاحب النصبة مريض!!
أما حمادة فهو من سوهاج شاب فى العشرينات من عمره يعانى من سرطان فى الكبد منذ سنة.. وكان يعانى من طول الانتظار أمام المعهد والجلوس على أرض الرصيف.. ويقول حمادة: لأننى كنت أعانى فى اليوم الذى آخذ فى العلاج من الجوع والعطش فكرت أن أخدم باقى المرضى ومن معهم من ذويهم وعلى الرغم أننى أسكن فى دار ضيافة إلا أن اليوم الذى أتلقى العلاج فيه أكون أمام المعهد من السادسة صباحا حتى العصر وأنا على هذا الحال منذ سنة فعندما كشفت فى سوهاج واكتشفوا إصابتى بالسرطان قاموا بتحويلى لأخذ العلاج اللازم إلى المعهد لأنه يملك الأدوية اللازمة لعلاجى وهى غير موجودة فى أى مكان آخر لا أستطيع معرفه حالتى فأحيانا يقول لى بعض الدكارتة أننى سأخضع لعملية جراحية لاستئصال فص من الكبد ودكاترة آخرين ينفوا عمل العملية الجراحية.. وهأنا صابر «ورزقى على الله».. أتعامل يوميا طوال فترة وجودى مع مرضى المعهد حتى أصبح لى أصدقاء يتلقون العلاج بالمعهد ويستريحوا عندى وفى يوم من الأيام جاء أحد المرضى عمره 15 عاما يطلب نقل دم وتقدم زميلى صاحب «نصبة شاى وقهوة» بالتبرع فى المعهد فالعاملون على رصيف المعهد أصبحوا جزءا لا يتجزأ من المعهد فعندنا تصب الحكاوى والشكاوى.. وعندنا يأخذ المريض راحته وواجبه وعندنا مرضى كحالاتى «بيجروا على أكل عيشهم» وعلى رصيفنا المرضى وأهلهم الذين لم يجدوا مأوى فى دور الضيافة يفرشون البطاطين ويبيتون على رصيف المعهد.
∎ ابنتى مناعتها صفر
أما سحر إبراهيم فتعانى ابنتها دنيا سيد خليفة 10 سنوات من سرطان فى الدم فهم من سكان السويس ولديها 3 أولاد فقالت: لضعف مناعة ابنتى والأنيميا التى تعانى منها بسبب السرطان قاموا بحجزها لمدة شهرين فى المستشفى لتتلقى العلاج وبعد ذلك قالوا: لا توجد أماكن ولابد من خروجها والجلوس فى دار ضيافة بفيصل وأنا أحضر يوميا لتأخذ ابنتى العلاج ولكن هى لا صحة لها والذهاب والعودة يؤلمها أكثر فكل ما أطلبه أن يستضيف المعهد ابنتى مرة أخرى مثلما كان حتى نوفر ثمن المواصلات فأثناء وجودنا فى القاهرة نقوم بالمبيت أمام المعهد على الكورنيش فى عز البرد ولو أنا أستحمل فابنتى مناعتها صفر «نيمونى على الرصيف ونيموا ابنتى فى المعهد» هذا هو رجائى.