أنفاسها تتلاحق، صدرها يعلو وينخفض، وقطرات العرق تتساقط من جبينها، تلهث من كثرة التعب، إنها بالتأكيد قطعت أميالا لم تعد تشعر بقدميها.. ولكن مؤكد أنها ستصل سيتحقق الحلم، ستستريح، ستلقى رأسها على صدره وسيضمها بقوة ستغمض جفنيها اللذين أعياهما السهر، لن تفكر فى شىء يجعلها حزينة مرة أخرى. واصلت الجرى.. منهكة.. متعبة.. ولكنها غير مهزومة. إن حلمها الوحيد هو أن تستيقظ صباحا وتجده بجانبها، تكون أول من يستنشق أنفاسه منتهى الأمان بالنسبة لها. واصلت الجرى.. لا تعرف كم مر من الوقت عليها وهى تجرى ولكنها لم تصل.. الطريق طويل.. صعب.. ولكن سعادتها تستحق العناء.. فواصلت الجرى. ... الساعات تمر.. والإيمان يهزمه الشك.. والظلمة تبدد النور وأسدلت جفنيها تعبا فسقطت عيناها على قدميها.. فاكتشفت أنهما مكبلتان وهى لاتزال فى مكانها.. فخارت قواها وسقطت. لم يكن عشقها له بقرار، لأول مرة تؤمن بالحب لأول مرة تتيمن به، فلم تكن تعرف أنها تعشقه إلى هذا الحد، كانت ظروفه صعبة تحكم على حبهما بأنه حب بلا أمل، ولكنهما تحديا الظروف تحدت هى بالأفعال وتحدى هو بالكلام ووعدها بأنه لها وأنه سيبقى معها حتى آخر لحظة، لن يتركها لن يتخلى عنها وفعلت هى ما يمليه عليها قلبها فكانت له مخلصة محبة حنونة عاشقة مجنونة. كانت تراودها الكوابيس بأنه سيختفى وهى فى مفترق الطريق فتستيقظ مذعورة والخوف ينشر غمامة على قلبها ودمعة حائرة لا تريد السقوط على الوسادة، وما إن تتذكر وعده حتى يملأ السكون قلبها تتصل به فيطمئنها أنه لها ولن يتركها لن يجدد مخاوفها، لن يتركها كما تركها السابقون فتنهار أمام حنانه تجلس تحت قدميه من قمة العشق لم تكن تخجل منه، إنه أول رجل تطيل النظر فى عينيه تمنت أشياء صغيرة تشاركه إياها، كانت الدنيا بالنسبة لها. كان بداخلها شىء من الامتنان له فبوجوده عرفت أنها على قيد الحياة، فقد انتشلها من أشد اللحظات ألما، كل منهما كان يكمل الآخر. كانت تتذكر أول لقاء لهما، كيف تأنقت واصطحبها بسيارته جلسا يتحدث كل منهما عن نفسه عن احتياجه للآخر وصرح كل منهما بحبه للآخر دون خوف دون انعدام للثقة وقبل أن تنزل من سيارته وهى تودعه أمسكت بيديه فشعرت برجفتها، نظرت لعينيه لتجد ما لم تره فى عيون رجل من قبل، كان بها كلام كثير لو قاله لتخطت ساعات العشق حدود الزمان، كان الخجل يكسو ملامحه هو الرجل العاقل الناضج، كان كالطفل بين يديها خجولا مرتبكا وتمنت أن يختفى كل البشر لترتمى فى حضنه ويضمها بذراعيه لا تريد أن تغادر، تتمنى أن تقضى ما تبقى من عمرها بين يديه. كانت حياتها حزينة، لا شىء فيها ذو معنى كانت أيام وشهور نهار وليل حتى ظهر فى حياتها، لم تقترب منه فى البداية فلم تعتد على الاقتراب ولم تعتد على الكلام، كان حديثها مع الجميع حذرا، طبيعة زادت منها تجاربها السيئة فكان هو من يسأل عليها ويقترب منها.. ورويدا رويدا وجدت نفسها معه بكل ما تملك وأصبحت أسعد لحظات تقضيها هى اللحظات التى تجلس فيها معه. كان يحدثها عن الحب.. الاحتياج.. ويستنكر الخيانة قال لها مرة وهما معا: إنى أرى الخيانة كرجل يطعن الآخر من الخلف لا يتمكن المطعون من ردها ربما لو جاءت من الأمام لأعطت فرصة للآخر للدفاع عن نفسه. قال لها: لو أحببت أحدا غيرى سأعرف أنك لم تكونى حبيبتى. كانت تصدقه.. حتى تبدل كل شىء فى لحظة كانت فى غفلة واستيقظ هو قبلها بكثير، بدأ يفقد اهتمامه بها لا يتصل سوى فى مواعيد محددة وكأنها روتين يريد أن يتخلص منه ثم بدأ يمل منها إذا طالبت بحقوقها حتى أبسط الحقوق كانت طوقا على رقبته. أراد أن يتخلص منها، أن يطردها من حياته.. بعد أن وضعته فوق رأسها فلم يعد يراها.. ضعفت وتهاونت فى حقوقها فاعتاد على صمتها ثم كانت الطامة طعنها من الخلف دون أن تراه، جدد آلامها وفعل بها ما فعله غيره. ائتمنته على عقدتها فزادها تعقيدا.. وحانت لحظة الفراق التى لم تتخيلها طيلة عام ونصف تنصل من كل وعوده قال لها: اعتبرينى كنت أحمق وصحوت.. ظروفنا صعبة ولن نستطيع أن نكمل. فقالت له: أليست هى نفس الظروف التى وعدتنى بحلها وتخطيها؟ فقال لها: كنت أحمق . ولكنك لم تحاول.. لم نجرب سويا كى نعرف لم يتغير شىء من الظروف ما تغير هو وعدك. فقال لها: فكرت. فقالت: كيف تفكر بعد عام ونصف لقد كنا سويا لماذا لم تفكر من البداية.. ألم أكن أستحق ليلة من التفكير.. لقد ترجيتك كثيرا أن نفكر سويا كنت ترجئ القرار كنت تخدعنى لأبقى معك حتى تجد البديل. فلم يرد. ناقشته فكان حائط صد، هو الذى كان يجلس بين يديها بالساعات والذى أفنت شهورا طويلة فى عشقه لا يريد أن يجلس معها دقائق لتعرف ماذا حدث.. أنكر خيانته.. لكنها كانت واضحة فى أنفاسه فى نظرات عينيه، فى نبرات صوته حاولت جاهدة أن تنظر إليه ربما تجد علامة حزن أخطأت طريقها ولكنه لم يكن حزينا لقد هانت عليه.. كان يريد أن ينتهى الموقف مجرد موقف، قرر أن يواجهه مع إلحاحها لكن الحزن لم يمس قلبه أنكر وعوده وأخرجها من حياته تركها بمفردها فى مفترق الطريق. أخفضت عينيها عن عينيه لا تريد أن تراهما.. كرهتهما. تبا للحب.. تبا للزواج.. ليس هذا ما بحثت عنه فى تلك اللحظة كانت تبحث عن الإنسان، كانت تبحث عن صدقة.. عن القيم التى تعلمتها منه.. عن إيمانه بها.. عن طيبة قلبه.. عن حفظه للوعد.. عن رجولته.. أين الرجل الذى أحبته؟ أين الرجل الذى كان يكره الخيانة؟ أين الرجل الصادق؟.. أين الرجل الذى قال لها سأوفى بكل عهودى ووعودى؟ أين هذا الإنسان؟ بحثت عن الإنسان فلم تجده كان غائبا وكان الجالس أمامها شخص آخر لا تعرفه، أدركت وقتها بأنها كانت تعيش فى أكذوبة.. لم يكن ما بينهما شيئا لم يكن حبا.. لم يكن علاقة إنسانية. كان سرابا ووهما.. مجرد رجل يبحث عن الاهتمام من عاشقة مجنونة تزيده تكبرا. أخرجت صورته من حقيبتها ومزقتها وألقتها أمامه.. جمع قطع الصورة من على المنضدة خوفا من أن يراها أحد.. خاف على كرامته.. فكان لا شىء.