في تاريخ مصر السياسي والاجتماعي والاقتصادي الكثير من الطرائف والأعاجيب والغرائب التي تدخل في باب «صدق أو لا تصدق» وتستحق دخول موسوعة «جنيس» للأرقام القياسية! هل تصدق أن مصر شهدت عام 1925 حادثة ليس لها نظير علي الاطلاق عندما صدر قرار حل مجلس النواب ولم يكن قد مضي علي وجوده سوي تسع ساعات بالتمام والكمال، فقد بدأ جلسة انعقاده في الساعة الحادية عشرة وصدر مرسوم الحل في الساعة الثامنة مساء نفس اليوم الموافق الاثنين 23 مارس 1925 وكان بالفعل أقصر المجالس النيابية عمراً في تاريخ مصر! كانت الانتخابات العامة التي أجريت قبل الحل بنحو 11 يوما في 12 مارس قد أسفرت عن حصول الوفد علي 116 مقعدا ونالت باقي الأحزاب ومعها المستقلون 87 مقعدا، وهو ما أزعج وضايق الحكومة وصدر تصريح لعبدالعزيز باشا فهمي وزير الحقانية يوم 17 مارس قال فيه: ما أثار الدهشة والريبة عندما أكد أن للملك - فؤاد الأول - حق حل مجلس النواب الجديد وأضاف: «في هذا الدستور حق مقرر لجلالة الملك وهو حل المجلس في كل وقت متي أراد ومتي رأي في ذلك مصلحة للبلاد». التفاصيل الكاملة لكل ما جري يرويها المؤرخ الكبير «عبدالرحمن الرافعي» في كتابه المهم «في أعقاب الثورة المصرية - ثورة 1919» بالجزء الأول، حيث كتب يقول: «افتتح البرلمان بمجلسيه في هيئة مؤتمر صبيحة يوم الاثنين 23 مارس سنة 1925 برئاسة «محمد توفيق نسيم باشا» رئيس مجلس الشيوخ، وحضر الملك حفل الافتتاح وتلا «زيور باشا» - رئيس الوزراء - خطاب العرس ثم انفض المؤتمر». واجتمع مجلس النواب في نحو الساعة الحادية عشرة قبل الظهر وبدأ في انتخاب رئيس، وجري الانتخاب بطريقة التصويت السري طبقاً للقاعدة المتبعة، فظهر من نتيجة الانتخاب أن أغلبية النواب من الوفديين، إذ كان التنافس علي الرئاسة بين سعد «زغلول» و«عبدالخالق» ثروت، فنال سعد 123 صوتا ونال ثروت 85 صوتا فقط، فظهرت بذلك النتيجة أغلبية وفدية خلافا لما زعمته الحكومة في بلاغها يوم 13 مارس، وظهر أن الوزارة لا تحوز ثقة المجلس الجديد، فكانت هذه النتيجة صدمة شديدة للوزارة، وتأجل اجتماع المجلس إلي الساعة الخامسة من مساء ذلك اليوم لمتابعة أعماله وأولها انتخاب وكيلي المجلس والسكرتيرين والمراقبين «أعضاء المجلس». ويضيف الرافعي: ولو اتبعت أحكام الدستور وكان الغرض من حل مجلس النواب الأول هو الرجوع إلي الأمة لكان واجباً علي الوزارة أن تستقيل، وقد أعدت استقالتها فعلا عقب انتخاب «سعد» لرئاسة المجلس، ولكن الأمر كان مبيناً علي أن تكون الاستقالة صورية وأن تكون اتهاما للاغلبية وألا يقبل الملك هذه الاستقالة. فرفع «زيور» باشا كتاب الاستقالة إلي الملك ومما جاء فيه قوله: «بمجرد انعقاد المجلس وقبل بحث برنامج الوزارة الذي تضمنه خطاب العرس ظهرت في المجلس روح عدائية علي الاصرار علي تلك السياسة التي كانت سببا لتلك النكبات التي لم تنته البلاد من معالجتها وقد بدت تلك الروح جلية في أن المجلس اختار لرياسته زعيم تلك السياسة والمسئول الأول عنها». لم يقبل الملك استقالة الوزارة وجدد ثقته فيها، فرفع زيور باشا إلي الملك كتابا آخر عرض فيه حل هذا المجلس فأصدر الملك علي الفور مرسوما بحله. استأنف المجلس اجتماعه في الساعة الخامسة من مساء هذا اليوم ورأس الجلسة «سعد باشا» وأخذ الأعضاء في انتخاب الوكيلين فأسفرت النتيجة عن انتخاب «علي الشمس» باشا والأستاذ «ويصا واصف» للوكالة، وتلا ذلك انتخاب السكرتيرين وهم الدكتور «أحمد ماهر» والأستاذ «علي حسين ومحمد عبداللطيف سعودي وراغب فودة» ثم أخذ الأعضاء في انتخاب المراقبين. وفي أثناء وضع أوراق الانتخاب في الصندوق استأذن «سعد» في الانصراف بعد أن وضع ورقته، فرأس الجلسة الأستاذ «علي الشمس» أحد الوكيلين وفيما كانت الأوراق تفرز دخل «زيور باشا» ومعه الوزراء وخاطب الأعضاء قائلا «أتشرف بأخبار المجلس أن الوزارة رفعت استقالتها إلي جلالة الملك فأبي قبولها فأشرت علي جلالته بحل المجلس فأصدر المرسوم الآتي نصه وتلاه وهو يقضي بحل المجلس وإجراء انتخابات جديدة في 23 مايو 1925 وأن مجلس النواب الجديد سيجتمع أول يونيو». كانت سابقة نادرة ومدهشة وعجيبة طوي النسيان تفاصيلها.