هناك بوصلة داخل عقل الفرد والجماعة، إبرة هذه البوصلة تشير طوال الوقت إلي الشمال تماما كما البوصلة العادية، وهذا الشمال هو في الوقت نفسه أعالي الأشياء، إنه الهدف السامي البعيد، إنه قمة الأرض. البوصلة داخل عقول البشر إذن تشير إلي هدف محدد بعيد ربما لا يبدو واضحا للآخرين وخاصة في حالة التطرف الديني أو السياسي. هذه الحالة إذا أردنا تعريفا لها مستخرجا من قاموس السياسة، نقول إن فلانا أو الجماعة الفلانية لها أجندة خفية. أي أن البوصلة الهادية بداخلها تشير إلي هدف مستتر لا تعرفه أنت وهي في كل الأحوال لن تصارحك به في الوقت الذي ستعمل فيه بدأب علي تحقيقه. إنها البوصلة المعكوسة أو العكسية، فربما تعلن جماعة ما أن وظيفتها وهدفها هو المقاومة، مقاومة الاحتلال إلي الأبد، غير أنها واقعيا وطبقا لكل معطياتها السياسية ونشاطها الواقعي الفعلي، تعمل علي إدامة حالة الاحتلال إلي الأبد، وربما يكون السبب الواضح لذلك هو أن الاحتلال بكل فظاعته يكفل لها مناخا وحشيا يشيع الإحساس بالتعاسة واليأس والضياع، وهي جميعا العناصر التي تشكل البيئة الحاضنة لوجودها، إنها هي بذاتها نفس البيئة التي أوصلت زعماءها إلي ما هم عليه من رفعة اجتماعية وسياسية، هكذا نصل إلي حقيقة من الصعب علي ذوي النفوس الطبيعية تصديقها وهي أن ما يعلنه المتطرف ويطلبه علنا ليس هو بالتحديد ما يسعي لتحقيقه. وهو أيضا ما يكشف بوضوح أن البوصلة بداخله تعمل بشكل عكسي، عندما يحدثك عن حقوق الإنسان وكفاحه من أجلها فهو في واقع الأمر يعمل علي حرمان كل الناس من حقوقهم. عندما يحدثك عن حق الناس في حياة كريمة، فتأكد أنه سيعمل بهمة علي تسويد عيشتهم. إنها درجة عليا من العدمية والسادية قادرتين علي جذب إبرة البوصلة إلي الجنوب، إلي أسفل سافلين. نحن هنا بإزاء مثال واضح علي حكاية البوصلتين المتعاكستين، واحدة منهما تزعم تفعيل الديمقراطية، بينما إبرة البوصلة الحقيقية عندهم من خلال أفعالهم الملموسة تشير إلي هدف باطني أكثر فاعلية وهو القضاء علي الديمقراطية وبالتالي القضاء علي الدولة كتشكيل من المؤسسات الفاعلة من أجل الحفاظ علي الوطن والمواطن. المزيد من وضع العصي في الدواليب وهو ما برعت فيه الجماعة السلفية ، ليس له إلا نتيجة واحدة وهو انهيار الدولة وتفكيكها وعودتها إلي حال القبيلة، وهي الحال التي تكفل لهذه الجماعة حالة من الازدهار والقوة الطلبانية، وهذا هو بالضبط ما تشير إليه البوصلة داخل هذه الجماعة. غير أن ما يحلمون به ويعملون من أجله وهو العودة إلي القبيلة بات مستحيلا، لأنها كمؤسسة بشرية لم تعد تلبي احتياجات الناس في هذا العصر، وتحول القبيلة إلي الدولة هو التطور الطبيعي لها، وهو التطور الذي يرفضونه ويعاكسونه. إن محاصرة مؤسسات الدولة والعمل علي تقهقرها إلي الوراء إلي أن يصطدم ظهرها بالحائط، لن يكون له سوي نتيجة واحدة هو لجوء الدولة دفاعا عن نفسها إلي العنف حتي لو تجاوز العنف الشرعي التقليدي للدولة. وهنا أيضا يتحقق هدف أصيل للجماعة السلفية وهو الحق في الصياح: انظروا ماذا يفعلون بنا.. أين هي الديمقراطية؟ هل جريمتنا أننا أردنا الحفاظ علي الديمقراطية؟ الهدف من الديمقراطية كطريقة في الحكم والحياة، هو القدرة علي علي صنع بيئة سياسية ومجتمعية مستقرة تتيح للفرد والجماعة العمل والانتاج والتنمية والاستمتاع بالحياة وهي الحياة الشيء الوحيد الذي يمتلكه الناس علي هذه الأرض.