رسميًا.. اليوم إجازة رأس السنة الهجرية 2025 للموظفين بالحكومة والقطاع الخاص    سعر سبيكة الذهب اليوم الخميس 26-6-2025 بعد الارتفاع الجديد (جميع الأوزان)    موعد صرف معاشات يوليو 2025 بعد قرار السيسي بتطبيق الزيادة الجديدة    البيت الأبيض: لا مؤشرات على نقل إيران لليورانيوم المخصب قبل الضربات الأمريكية    عشائر غزة تؤمن مساعدات وصلت لبرنامج الأغذية العالمي خشية نهبها    غارات إسرائيلية تستهدف خيام النازحين في قطاع غزة    كارني: كندا لا تخطط للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي    تأهل فريق مونتيري المكسيكي إلى دور ال 16 في كأس العالم للأندية    «ميسي المنصورة» موهبة كروية فريدة تنضم لناشئي فريق المقاولون للعرب    تفاصيل عروض ناديي الزمالك وبيراميدز على انتقال بعض اللاعبين خلال الميركاتو الصيفي    طقس اليوم: شديد الحرارة رطب نهارا معتدل ليلا.. والعظمى بالقاهرة 35    قبل امتحان الفيزياء والتاريخ للثانوية.. تحذير مهم من وزارة التعليم للطلاب    نتيجة الشهادة الإعدادية في محافظة البحر الأحمر.. علي وشك الاعتماد    نموذج حل امتحان الفيزياء للثانوية العامة 2024 و 2023 (أسئلة وإجابة).. امتحانات الصف الثالث الثانوي السابقة pdf    تامر حسين يكشف عن تحضيرات اغنية «ابتدينا» مع عمرو دياب: «وش الخير»    تهنئة العام الهجري الجديد 1447 مكتوبة للأصدقاء والأحباب (صور وأدعية)    القانون يحدد شروط لإصدار الفتوى.. تعرف عليها    21 طالبًا مصريًا في برنامج التدريب الصيفي بجامعة لويفيل الأمريكية    رسالة وداع مؤثرة من حمزة المثلوثي لجماهير الزمالك.. أنتم الروح    "وشلون أحبك".. على معلول يتغزل بزوجته بصورة جديدة    راغب علامة يكسر الرقم القياسي في "منصة النهضة" ب150 ألف متفرج بمهرجان "موازين"    محافظ المنيا يشهد احتفال الأوقاف بالعام الهجري الجديد - صور    بينهم إصابات خطيرة.. 3 شهداء و7 مصابين برصاص الاحتلال في الضفة الغربية    5 أيام حمائم.. كيف انتهت حرب إيران وإسرائيل ب"شكرًا لحسن تعاونكم معنا"؟    مصرع 2 وإصابة 6 في انقلاب سيارة ملاكي بصحراوي البحيرة    مها الصغير تتهم أحمد السقا بضربها داخل كمبوند    إصابة 10 أشخاص في حادث على طريق 36 الحربي بالإسماعيلية    وفد برلماني من لجنة الإدارة المحلية يتفقد شركة الإسكندرية لتوزيع الكهرباء    محمد رمضان: "رفضت عرض في الدراما من أسبوع ب 200 مليون جنيه"    تشريع جديد يُنصف العامل.. كيف يؤمن القانون الجديد حقوق العمال؟    «نقل الكهرباء» توقع عقدًا جديدًا لإنشاء خط هوائي مزدوج الدائرة    مؤتمر إنزاجي: سنحاول استغلال الفرص أمام باتشوكا.. وهذا موقف ميتروفيتش    إليسا تهنئ نادر عبدالله بعد تكريمه من «ساسيم»: «مبروك من نص قلبي»    التشكيل الرسمي لقمة الإنتر ضد ريفر بليت فى كأس العالم للأندية    بمناسبة العام الهجري الجديد.. دروس وعبر من الهجرة النبوية    تمريض حاضر وطبيب غائب.. رئيس الوحدة المحلية لنجع حمادي يفاجئ وحدة الحلفاية الصحية بزيارة ليلية (صور)    قافلة طبية لعلاج المواطنين بقرية السمطا في قنا.. وندوات إرشاية لتحذير المواطنين من خطر الإدمان    مينا مسعود يزور مستشفى 57357 لدعم الأطفال مرضى السرطان (صور)    إدارة الغذاء والدواء الأمريكية تُلزم بإضافة تحذير عن خطر نادر للقلب بسبب لقاحات كورونا    صحة مطروح تنظم احتفالية كبرى بمناسبة اليوم العالمي للتبرع بالدم    الزمالك يستقر على قائمته الأولى قبل إرسالها لاتحاد الكرة    وزير الرياضة يهنئ أبطال السلاح بعد التتويج ب 6 ميداليات أفريقية    مع إشراقات العام الهجري الجديد.. تعرف على أجمل الأدعية وأفضلها    صوت بلغاريا مع أنطاكية.. البطريرك دانيال يندد بالعنف ويدعو إلى حماية المسيحيين    الدفاعات الإيرانية تسقط طائرة مسيّرة مجهولة قرب الحدود مع العراق    «الشؤون العربية والخارجية» بنقابة الصحفيين تعقد أول اجتماعاتها وتضع خطة عمل للفترة المقبلة    محافظ قنا يتفقد مشروع تطوير ميدان المحطة.. ويؤكد: نسعى لمدينة خضراء صديقة للبيئة    حضور جماهيرى كبير.. ويل سميث لأول مرة فى مهرجان موازين بالمغرب (صور)    أخبار كفر الشيخ اليوم.. المؤبد لطالب أنهى حياة آخر    عيار 21 الآن بعد الارتفاع الجديد.. قفزة بأسعار الذهب اليوم الخميس بالصاغة محليًا وعالميًا    رئيس هيئة الدواء المصرية: نحرص على شراكات إفريقية تعزز الاكتفاء الدوائي    مع حلول العام الهجري الجديد 1447ه.. متى يبدأ رمضان 2026 فلكيًا؟    دار الإفتاء تعلن اليوم الخميس هو أول أيام شهر المحرّم وبداية العام الهجري الجديد 1447    إصابة 11 شخص من كلب ضال فى الغربية    بلاغ رسمي ضد أحمد السقا.. طليقته تتهمه بالاعتداء عليها وسبّها أمام السكان    جمال الكشكي: سياسة مصر تدعم الاستقرار وتدعو دائما لاحترام سيادة الدول    ممر شرفي من المعتمرين استعدادا لدخول كسوة الكعبة الجديدة (فيديو)    هذا ما يحبه الرجال..3 أشياء تفعلها النساء الجذابات بشكل منتظم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين جنون وجنون
نشر في الشروق الجديد يوم 29 - 10 - 2009

فى مصر، وفى أحد مستشفيات الإسكندرية تحديدا، اكتشف روبرت كوخ ميكروب الكوليرا، وأحدث اكتشافه انقلابا فى مفاهيم أسباب الأمراض وعلاجها، فلم تكن هذه الميكروبات الدقيقة قد عُرفت من قبل.
وكما فى معتاد الأحوال تمترس بعض أطباء أوروبا الكبار وراء معلوماتهم القديمة.. رفضوا زعم كوخ الذى يعزو بعض الأمراض إلى كائنات دقيقة تسمى ميكروبات.
وفى مؤتمر علمى عُقد بإحدى المدن الأوروبية عام 1883 أعلن كوخ نبأ اكتشافه على العالم، وتصدى له على الفور طبيب مُعارِض هو الدكتور فانكوفر، وحتى يُثبت خطأ كوخ طلب فانكوفر شيئا من هذه الميكروبات المزعومة، وعندما أعطاه كوخ زجاجة بها سائل يعج بميكروبات كوليرا تكفى لعدوى جيش كامل، أو مدينة صغيرة، سارع فانكوفر بتجرُّعها حتى آخر قطرة، وعلى رءوس الأشهاد، ثم تمطى وتجشأ ومسح بثقة على لحيته العظيمة، ولم يحدث له شىء، أى شىء، لا عاجلا، ولا آجلا!
لايزال هذا لغزا من ألغاز تاريخ الطب يحير العقول، لكننى أزعم إمكانية حل اللغز اعتمادا على ما أسميه «قوة الجنون»، وهى قوة خارقة شاهدت تجليات مذهلة لها عبر سنوات من عملى طبيبا فى مستشفيات الأمراض العقلية، مرضى يلتهمون الصابون كما لو كان قطعا من الحلوى دون أن يصابوا بسوء، ويشربون الكيروسين فلا تحترق معداتهم، ومريضة ضئيلة تصدت لخمسة ممرضين أشداء تظاهرهم خمس تومرجيات من وزن ثقيل الثقيل، فجندلتهم جميعا، ثم طيرتنى فى طريقها وهى تمرق كعاصفة، خارجة من المستشفى للقاء «خطيبها»، الذى لم يخطبها أبدا، بل كان على علاقة حب بها أثارت غضب أهلها المتعصبين، فقتلوه، ومضى على مقتله عشر سنوات هى عمر جنونها!
كما لا أنسى مريضا عمره سبعة عشر عاما، صغير الجسم، مربوط اللسان بعيب خِلقى، ومصاب بذُهان صَرَعى، كان عندما تأتيه نوبة الهياج نستدعى كل أطباء وممرضى وعمال المستشفى للسيطرة عليه، بصعوبة شديدة، حتى نحقنه بالمهدئ.
قوة الجنون هذه أتصور أنها تُفجِّر الكامن من طاقات الجسد البشرى، فتعادل تأثير السموم بفيض هادر من الأنزيمات، وتقضى على أشرس الميكروبات بإشعال أقصى قدرات الجهاز المناعى، وتوقظ فى هشاشة اللحم المهيض عنفوانا يصعب تخيل حدوده، وهى شىء مناقض تماما لجنون القوة، ذلك الجنون الذى كوى وسيكوى العالم، ونحن فى قلبه، مادامت هناك هذه المخاتلة الأنانية واللاأخلاقية لدول الشمال تجاه الجنوب، ومثالها الأقرب منا هو هذا التحيز المستمر، المُعلن أو المستتر أو المراوغ، لصالح عدوانية وعنصرية وهمجية ولصوصية الكيان العسكرى الإسرائيلى.
جنون قوة هذا الافتئات العولمى المتصهين، يكاد يكون نموذجا مكبرا لجنون قوة عصابات التطرف الدينى، وجنون قوة جماعات التعصب العرقى أو القومى أو الطائفى، ولا يبتعد عنهما أبدا جنون قوة الأنظمة الحاكمة بالاستبداد والفساد. فهم جميعا منظومة شر واحدة برغم ما يبدو بين فُرقائها من اختلافات، ولابد أنهم يترابطون بوشائج ما، مخفية بوعى ماكر، أو مدفوعة بلا وعى غبى، لكنها موجودة دائما، بدليل تكاملهم فى الأذى والباطل.
قوة الجنون الفردى تكون الخسائر فيها منصبة على ذوات المرضى أنفسهم، وهى ذوات بائسة تتوهج مثل جمرات تأكل نفسها ثم لا يتبقى منها غير رماد الخواء الأليم.
بينما فى جنون القوة، سواء لدى الإمبراطوريات والدول، أو عصابات التطرف وجماعات التعصب، أو حكومات الاستبداد والفساد، يكون الجنون هائل الانحطاط وواسع التدمير، ينتفش وينتعش على حساب الأبرياء والضعفاء والمسالمين والعُزّل من مخلوقات الله، الذين لا يحلمون بأكثر من عبور رحلة الحياة على الأرض، بأقل قدر من الأحزان، وبأصغر نصيب من الفرح.
ويتبقى أن المفتونين بجنون قوتهم، وهم لا يتحسبون لفظاعات العنت والعذاب والألم التى يسقونها قهرا لعباد الله، إنما يفجِّرون فى البلاد والعباد قوة الجنون الجماعى، وهى قوة نار هائجة مشوشة، تأكل نفسها، وتحرق المحيط والأطراف، ولا يُفلِت منها أبدا من أشعلها، مهما بدا بعيد المنال، فالجنون وإن كان افتقادا للعقل، لا يفقد بوصلة الغريزة التى تحركه باتجاه ثأره. والأسوأ، أن يستوعب قوة الجنون الجماعى هذه خطاب متعصب، فتتحول إلى قوة مضافة لجنون القوة الكامن فى كل تكوين عِصابى، وما جماعات التعصب والتطرف، من أى ملة وأى اتجاه، إلا تكوينات تحكمها سيكلوجية العصابة، فيتواصل دوراننا الأليم، لكن فى دائرة جديدة أخبث، من جنون الفوضى، وفوضى الجنون.
لقد ثبت، ومثال الدكتور فانكوفر أحد الدلائل، أن قوة الجنون يمكن أن تأتى بمعجزات عبثية صغيرة، أما جنون القوة، أيا كان نوعه، فلن يأتى بأية معجزات، بل بكوارث من التعجيز وجحافل من العجزة، وأجيال تخفى جمر أحقادها تحت رماد الوقت.
وليس أمامنا إلا أن نرفض هذا الجنون كله، لننجو، جميعا، من الجحيم، ذلك الجحيم الدنيوى لأبناء الأمم التعيسة والدول الفاشلة.
فهل من اختيار عاقل فى شأننا الداخلى، ينبذ جنون القوة لمنع انفجار قوة الجنون؟
إنه سؤال يرتبط بالحديث المثار عن إيجاد مخرج آمن للحكّام بعد خروجهم من السلطة، وهو مطلوب قطعا، لأسباب إنسانية، وحضارية، وعقلانية، لكن ليس للرؤساء وحدهم، بل للشعوب أيضا.. فهى الأولى بمثل هذه المخارج الآمنة، لأنها الخاسر الأكبر فى كل ما ارتُكب فى حقها من تجاوزات، ولن يرمم خسائرها الروحية والمادية إلا عودة آمنة إلى الحق، والعدل، والحرية الحقيقية، وكرامة الإنسان، وحقوق المواطنة، وسيادة القانون، وردع الفساد، واستعادة أقصى ما يمكن استعادته من حقوق الدولة والمجتمع، بتراض حكيم يحافظ على دوران عجلة اقتصاد الأمة، ولا يخضع لشهوات الانتقام، وهى تجارب باهرة قادها فى جنوب إفريقيا نيلسون مانديلا، وفى ناميبيا سام نوجوما، ولمست أثارها البديعة على الأرض هناك.
وبصدق، نحن فى حاجة ماسة لأكثر من مخرج آمن، للحُكّام كما المحكومين، وإلا جاء انسحاق الأمة بين جنون القوة، وقوة الجنون، شيئا مروعا لا يرتضيه من بقيت فى داخله ولو ذرة من ضمير. لنُجرِّب، ونخاطب الضمير؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.