من أجمل أغاني الماضي البعيد.. يا عطارين دلوني، الصبر فين ألاقيه؟ ولكي تدرك حرص الشاعر الغنائي في العثور علي هذا الصبر يكفي أن تعرف أنه علي استعداد لأن يدفع عيونه ثمنا له.. والله لو طلبتم عيوني، خدوها بس ألاقيه. ما هي تلك الحالة العقلية التي نسميها الصبر؟ هل هي القدرة علي السكون في المكان وانعدام الفعل ضعفا وعجزا وكسلا، أم أنه موقف إيجابي مطلوب من البشر في مواجهة وضع ضاغط مؤلم؟ أنبهك منذ البداية إلي أنه ليس لدي إجابات شافية عن كل أسئلتي وتساؤلاتي. في هذا المقال أنا فقط أبذل محاولة لفهم ذلك الشيء المحير الذي قيل عنه بحسم إنه مفتاح الفرج. لقد نحتت اللغة العربية الكلمة وكأنها تنتمي لنبات الصبار المؤلم ذي الأشواك, ومن هنا اكتسب صفته الشهيرة بأنه مر. وفي الانجليزية اختارت اللغة أن تجعل للمريض والصابر نفس الصفةpatient ) ) هل لأن الألم هو الصفة السائدة في حالتي الصبر والمرض؟ ولماذا هو مفتاح الفرج؟ كلمة مفتاح بالطبع مفهومة ولا يمكن الوقوع في خطأ في تفسيرها، ولكن ما هو الفرج؟ هل هو الرزق الوفير مثلا، هل هو المنصب الرفيع، هل هو القوة والسطوة السياسية هل هو القصور والفيلات والشاليهات والأرصدة الكبيرة في البنوك؟ الواقع أن الحصول علي كل هذه الأشياء لا يتطلب صبرا بل لعلها تتطلب التسرع وعدم المبالاة بالقوانين والأعراف والقيم العليا ولا حتي السفلي، ولو اتيحت لك فرصة الاقتراب من أصحاب هذه الأشياء لاكتشفت علي الفور أنهم لا يطيقون صبرا علي غنيمة،بل لعل التسرع وانتهاز الفرص هو فضيلتهم الأولي. أعتقد أن الفرج لا صلة له بكل ذلك, إنه أعظم درجات الارتياح، أن تشعر بأنه قد أفرج عنك وأن قيودك قد زالت ، وأنك قد وصلت إلي أعلي درجات التحقق وهو الأمر الذي لا يمكن حدوثه إلا عندما تتمكن من إنجاز أعظم الأشياء. وبالمناسبة، لا تتعب نفسك بالتفكير في إنجاز أعظم الأشياء، الحياة تتطلب منك شيئا واحدا هو أن تنجز أبسط الأشياء بأعظم طريقة لديك ولما كانت " الدنيا ليست محلا للسعادة بل للإنجاز" لذلك فالفرج هو نفسه القدرة علي الإنجاز، وبذلك يكون الصبر موقفا منجزا أي فاعلا وفعالا. ننتقل إلي خطوة أخري يستخدم فيها الصبر استخداما غريبا ومدهشا وهو " لو صبر القاتل علي القتيل لكان مات لوحده" المثل الشعبي هنا يحاول مساعدة البشر علي عدم التحول لقتلة من أجل تحقيق هدف ما. أما المثل الشعبي الصيني فيقول" اجلس علي ضفة النهر وحدق في مياه الأمواج، يوما ما ستحمل لك جثة عدوك" الأهداف الشرعية بوجه عام، تحقيقها لا يتطلب تدمير البشر. لقد كان من السهل علي أن أكتشف أن الإنسان عندما ينشغل بالعدوان علي الآخرين يفقد في اللحظة نفسها قدرته في الدفاع عن نفسه وتنعدم أمامه فرصة الفوز بأي شيء. في اللحظة التي بدأ فيها لاعبو الجزائر في العدوان علي لاعبي الفريق القومي المصري في أنجولا أدركت علي الفور أنهم سيمنون بهزيمة كبري. لا صلة لذلك بالغيبيات وقيم الخير والشر بل بآليات الحياة ذاتها وآليات التفكير البشري. في اللحظة التي ينصرف فيها تفكيرك إلي إيذاء الآخرين، ستفقد فيها القدرة علي التفكير الصحيح والإبداع من أجل الفوز. اسمح لي الآن أن أقفز قفزة بعيدة وربما بعيدة جدا.. مفكرو السياسة في الغرب بوجه عام لايعرفون " الصبر" إذ إن حضارتهم العلمية تصور لهم أنه نوع من الإهمال السياسي الذي يعطي لخصومهم الفرصة لتقوية أنفسهم والعدوان عليهم، هذه هي مشكلة الغرب مع إيران هذه الأيام، هم لا يتصورون أنه بالامتناع عن قتل القتيل" حا يموت لوحده" تماما كأي نظام ثوري لا ينشغل بحماية شعبه، متفرغا فقط للبحث عن السطوة السياسية والسيطرة علي أرض الملعب بضرب الآخرين إلي أن وصل بهم الأمر إلي إعدام شابين لمجرد الاشتراك في مظاهرات احتجاج. لا يجب بأي حال من الأحوال فرض حصار من أي نوع علي الشعب الإيراني، تعلموا فضيلة الصبر. الحصار علي صدام حسين أتاح له ولجماعته الفرصة للمزيد من إذلال الشعب العراقي، حكومة أحمدي نجاد تبذل المستحيل لدفع الغرب للمزيد من عمليات الحصار عليها، وأخيرا قام السيد علي لاريجاني وزير خارجيتهم بتهديد دول الخليج علنا، واختار الكويت منبرا لتهديداته، إنها عملية استدعاء لضربة كبري يقوم بها الغرب، هذا هو بالضبط ما يطلبه. لقد دارت مقصلة الجيليوتين في إيران ومن المستحيل أن تتوقف، هم يقتلون الناس بمحاكمات وتهم هزلية، هذه هي حالة التوتر الحادة التي تنتاب الأنظمة الثورية بعد أن يدرك أصحابها أنهم لا يسيرون في طريق الحياة الصاعد، طريق الدفاع عن حقوق البشر وتأمينها والحفاظ علي حقوقهم وأولهاحق الحياة. إبرة البوصلة تتجه دائما ناحية الشمال، والبوصلة في العقول المتطرفة تتجه دائما للقضاء علي الذات فلا داعي لحصارهم لأن ذلك بالتحديد هو ما يكسبهم الشرعية. اتخذوا كل الإجراءات للدفاع عن أنفسكم ولكن لا داعي للمزيد من الحصار، هم سيخطئون عما قريب خطأ كبيرا يدفعون فيه ثمنا فادحا, عندها سيجدون أنفسهم في قبضة الشعب الإيراني.. لا تتدخلوا أنتم.. اصبروا.. هذا هو الموقف الوحيد الذي يصلح في مواجهة هذا النوع من المشاكل.. نعم، الصبر في هذا النوع من المشاكل التاريخية هو مفتاح الفرج.