لكل نظام بوصلة.. ولكل بوصلة اتجاه. والبديل عن البوصلة هو العشوائية. واتجاه البوصلة تحدده عوامل كثيرة، أهمها هو كيفية وصول النظام إلى الحكم. هل وصل النظام إلى الحكم بإرادة الناس؟ أم وصل على ظهر دبابة؟ يختلف اتجاه البوصلة فى هذه الحالة عن تلك الحالة اختلافاً كلياً. الأنظمة التى تأتى بإرادة الناس، وتتغير بإرادة الناس يكون اتجاه بوصلتها نحو تحقيق إرادة ورغبات الناس. وهذا منطقى وطبيعى وواضح. والأنظمة التى تأتى إلى الحكم على ظهر دبابة يكون اتجاه بوصلتها هو كيفية الحفاظ على «قوة الدبابة وتأثيرها»، بعبارة أخرى تكون بوصلتها فى الأغلب الأعم هى البقاء فى السلطة والاستئثار بكل ما يمكن أن تمنحه السلطة من مزايا، وتستحل من أجل ذلك كل الوسائل وفى مقدمتها وسائل القهر والضغط. هذه مقدمات ضرورية ومنطقية لما نريد أن نعالجه فى مقال هذا الأسبوع الذى يتصل بمقالى الأسبوع الماضى، وبما كتبه الدكتور حسن نافعة، من سلسلة مقالاته عن موضوع مستقبل نظام الحكم فى مصر. عندما استولى الجيش على السلطة فى 23 يوليو 1952 وساندته إرادة شعبية عارمة حولت حركة الجيش إلى إرادة ثورية حقيقية كانت كل الظروف المحيطة تدفع اتجاه بوصلة النظام نحو الأمور الآتية: حماية أمن النظام الجديد، تحرير القرار الوطنى من قهر القوى الاستعمارية والإمبريالية الخارجية، وأحزاب الأقلية والقصر الملكى فى الداخل، وقدر من العدل الاجتماعى يعيد التوازن المختل بين الطبقات. كانت بوصلة النظام الجديد تتجه إلى هذه الأمور الثلاثة وتعطيها الأولوية، ورغم أن أحد المبادئ التى أعلنتها حركة الجيش هو إقامة ديمقراطية سليمة، ورغم أن أول «بوستر» وضعته الحركة على حيطان الشوارع كلها كانت صورة لجندى يقف عند مبنى البرلمان وتحت الصورة كتب «نحن نحمى الدستور»، رغم ذلك كله فإن بوصلة النظام كانت تتجه فى الأساس إلى الأهداف الثلاثة التى أشرنا إليها، وكان كل ما عدا ذلك يأتى تالياً. ولا يستطيع منصف أن ينكر على قيادة حركة الجيش إخلاصها وولاءها للوطن ورغبتها الحقيقية فى أن تنقله من مرحلة إلى مرحلة أكثر تقدماً، وجاءت نكسة أو نكبة أو هزيمة يونيو 1967 لتحدث صدعاً خطيراً فى النظام، ولولا صلابة الشعب المصرى وإصراره على الصمود وإيمانه بجمال عبدالناصر لما استطاع عبدالناصر أن يصمد وأن يعيد بناء القوات المسلحة بناءً سليماً يقوم على محترفين وليس على هواة. ومما يدل على أثر النكسة على عبدالناصر ويدل على وعيه فى نفس الوقت أنه كلف السيد زكريا محيى الدين، نائب رئيس الجمهورية، آنذالك - أعطاه الله الصحة والعافية- أن يلتقى عدداً محدوداً من قيادات التنظيم يناقشهم ويستمع إليهم فيما يرونه أسباباً للنكسة. وكنت واحداً من هؤلاء الذين استدعاهم السيد زكريا محيى الدين، وكان موعد لقائى مع سيادته فى الساعة الثانية ظهراً فى منزله بشارع الثورة قرب المتحف الزراعى، وذهبت قبل الموعد بخمس دقائق، وفى الموعد المحدد تماماً فتح باب مكتبه وإذا بالمرحوم الدكتور إبراهيم سعد الدين يخرج، وسلمت عليه قبل أن أدخل، ولكننا لم نتبادل حديثاً.وبدأ السيد زكريا محيى الدين الحديث بأن وجه إلىّ سؤالاً محدداً: ما رأيك فى الأسباب التى أدت إلى ما حدث فى 5 يونيو 1967؟ولم يكن السؤال غريباً ولا الإجابة غائبة. تحدثت عن الجيش الذى لم يكن محترفاً وعن قائده- عبدالحكيم عامر- وما اشتهر عنه، وكيف أنه كان يجب أن يُنحى عن الحياة العامة بعد مصيبة الانفصال بين شطرى الجمهورية العربية المتحدة، وكيف أن ذلك كان يرجع فى الغالب إلى سوء تصرفاته وسوء تصرفات أعضاء مكتبه فى دمشق، إلى جوار عوامل أخرى ثم تحدثت عن غياب المشاركة الديمقراطية التى أعتبرها الأساس لأى نظام حكم سليم وغياب المحاسبة، وأشرت إلى ما سمعته من أن المرحوم الأستاذ الدكتور حامد سلطان كان قد حذر من قرار سحب القوات الدولية من منطقة المضايق، وأنه قال لعبدالناصر وقتها إن ذلك القرار قد يكون سبباً للحرب ولهجوم إسرائيل ولكن رأى المختصين لم يُسمع كما هى العادة. وكان الوقت المخصص لى ساعة من الزمن، ووقفت لأنصرف وأثناء خطوتى نحو باب مكتبه توقفت، وقلت: لقد نسيت شيئاً آخر ومازلت أذكر حتى هذه اللحظة السيد زكريا محيى الدين وهو يقول لى: «إنت خليت حاجة يا يحيى؟»، قلت له: «نعم يا سيادة النائب، الجامعة وتلك التشكيلات الموجودة فيها التى لا تفعل غير أن تثير مخاوف وقلق أعضاء هيئة التدريس والطلاب وتشيع الشقاق والفرقة»، ثم سلمت منصرفاً والرجل الكريم يشعرنى أنه لم يضق صدراً بكل ما سمعه.وانتقل عبدالناصر إلى جوار ربه، وهو لم يتعد الخمسين عاماً إلا بقليل، مات فقيراً كما ولد فقيراً، ولكنه مات كريماً عزيزاً، وشيعه شعبه كما لم يشيع شعب زعيماً قط. وانتقل الحكم إلى أنور السادات- نتيجة اختيار عبدالناصر له- وكان هدف تحرير الأرض هو الهدف الأساسى، كان محو عار نكسة 1967 هو الذى يسيطر على كل شىء، وهو الذى يحدد البوصلة.وفى 6 أكتوبر 1973 استطاع الجيش المصرى بكل أسلحته أن يعبر قناة السويس، وأن يحطم خط بارليف، وأن يدحض أكذوبة الجيش الذى لا يُهزَم. وأدار أنور السادات بعد معركة السلاح معركة سياسية على أعلى مستوى من الدهاء.إلا أن النفس كان قصيراً، وكانت الرغبة فى تخفيف الضغط عن الشعب المصرى الذى عانى معاناة رهيبة منذ يونيو 1967 حتى أكتوبر 1973 رغبة مشروعة، وبذلك سارت مصر، بقيادة السادات، فى العملية السلمية التى انتهت بتوقيع اتفاقيات كامب ديفيد التى عارضناها فى وقتها، وأدركنا بعد سنين طوال أنها كانت دليلاً على بعد نظر السادات وإحاطته بأحوال السياسة العالمية إحاطة مبصرة.واغتيل السادات فى يوم نصره.وكان السادات قد اختار حسنى مبارك نائباً له، وجاء مبارك رئيساً لمصر. وهكذا جاء الرؤساء الثلاثة، جاء عبدالناصر نتيجة حركة الجيش، وجاء السادات لأن عبدالناصر اختاره، وجاء مبارك لأن السادات اختاره.وأقصد هنا أن الإرادة الشعبية لم يكن لها دخل حقيقى فى الاختيار.وجاء الرئيس مبارك ليرث وضعاً متوتراً وقلقاً وصعباً فى بداية حكمه إلا أنه استطاع بهدوئه أن يعبر هذه الفترة. وأعلن الرئيس مبارك فى بداية حكمه - وتقديرى أنه كان صادقاً فى نواياه- أنه لا يريد أن يبقى فى الحكم، وأنه زاهد فيه، ولكن الأمور تغيرت تغيراً كيفياً بعد الفترة الثانية لولايته. كانت الأوضاع قد استقرت، وكانت معركة طابا قد انتهت لصالح مصر، وبدأت الرياح توجه البوصلة إلى مسار آخر. وأعلن الرئيس أنه لن يترك الحكم وفيه نَفَس يتردد، طبعاً من باب حرصه على مصلحة الشعب المصرى، وأصر الرئيس على ألا يعين نائباً لرئيس الجمهورية، يبدو لأنه لم يجد فى الشعب المصرى كله من يستأهل أن يكون نائباً له، كما صرح سيادته بذلك، أثناء لقائه بالجالية المصرية فى لندن، منذ سنوات طوال.وتضافرت عوامل كثيرة على انتشار الحديث عن توريث الحكم- بانتخابات شفافة طبعاً- لنجل الرئيس جمال مبارك. ولكنى شخصياً غير ميال الآن لقبول هذا الحديث. نشاط الرئيس وحركته فى الشهور الأخيرة ينبئان أنه يريد أن يفى بوعده لشعبه، ولكن المأزق الحقيقى أن الرئيس يعرف جيداً أن نجله ليس له أى فرصة لولاية الحكم إلا فى عهده وفى وجوده وعلى يديه- صحيح بانتخابات حرة ونزيهة وشفافة- وأنه إذا لا قدر الله بعد عمر طويل انتقل الرئيس إلى حيث ينتقل كل خلق الله دون أن يولى ابنه، فإن هذا الأمر لن يتحقق قط.هذا هو المأزق الحقيقى. وهذا هو الذى يحدد اتجاه بوصلة النظام الآن.والذين يتحدثون عن مقاومة التوريث يجب عليهم أن يتحدثوا عن شىء آخر. يجب عليهم أن يتحدثوا عن تغيير النظام الذى يفرز الحديث عن هذا التوريث. يجب عليهم أن يتحدثوا عن نظام حكم يستند إلى إرادة الناس، مثل هذا الحكم هو الذى سيجعل التوريث حديث خرافة، وهو الذى سيعيد لمصر كرامتها ومكانتها. وكما قلت مراراً وتكراراً وأقول دائماً إن تقدم الأمم والشعوب يبنى على ركيزتين: سيادة القانون والعلم.ومن جديد أنادى كل مؤمن بهذا البلد وكل محب له وحريص عليه إلى أن تتضافر الجهود لإعادة بناء مصر على أساس نظام ديمقراطى حقيقى.وليس فى الأمر ألغاز.الطريق الذى سلكته شعوب أخرى قبلنا وحققت به المعجزات. انظروا إلى الهند. يكفيكم ذلك. هلموا ولبوا نداء مصر.