حتي قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة عام 2005 لم يكن لدي العبد لله بطاقة انتخابية، ولأنها كانت المرة الأولي في تاريخ مصر التي ينتخب فيها رئيس الجمهورية من بين أكثر من مرشح، ومثل كثيرين غيري توكلت علي الله وقدمت طلب الحصول علي البطاقة الوردية، وبعد أيام نلتها وأصبحت مواطنا له حق الانتخاب وأضيف اسمي إلي قوائم «المسجلين» ممن يحق لهم التوجه إلي لجان الاقتراع في كل انتخابات.. وقتها اتخذت اللجنة المشرفة علي الانتخابات قرارا يلزم الناخب بغمس أحد أصابعه في زجاجة الحبر الفسفوري بعدما يضع ورقة الاقتراع داخل الصندوق للقضاء علي ظاهرة الاقتراع أكثر من مرة. في يوم الانتخاب توجهت إلي اللجنة التي يفترض أن اسمي مدون فيها لأداء واجبي الانتخابي ونظرا لأن طبيعة عملي تستوجب تفرغي لملاحقة الأحداث ومتابعتها ورصدها تصورت أن «مشوار» الاقتراع يحتاج إلي نحو الساعة وبعدها أتوجه إلي مقر عملي خصوصا أن لجنة الاقتراع لا تبعد عن منزلي سوي أمتار. لم تكن أول القصيدة مبشرة إذ لاحظت ازدحاما غير مبرر أمام باب المدرسة التي تحولت إلي لجنة انتخابية كأنه وقت الفسحة والتلاميذ في حالة تزويغ، أما داخل المدرسة فحالة الهرج والمرج حدث ولا حرج، حيث نصب أحدهم في ركن من «الحوش» مقهي صغيراً تولي عمل الشاي والقهوة للقائمين علي عملية الاقتراع والمترددين علي المدرسة وتأمين المكان، وبين آلاف الأوراق الممزقة أو «المرمية» علي الأرض وعشرات الملصقات واللافتات التي غطت حوائط المكان اقتربت شاكرا مهللا رغم مخاوفي إلي حيث بهو المدرسة، هناك سألت أحدهم عن نظام الاقتراع فأبلغني أن علي أولا أن أبحث عن اسمي لأعرف أين ستكون الحجرة التي يتعين التوجه إليها، حيث قسمت الصناديق بحسب الحروف الأبجدية.. ولأن اسمي يبدأ بحرف الميم ولأن المصريين يسمون أبناءهم كثيرا بأسماء تبدأ بهذا الحرف وجدت طابورا طويلا يقف فيه عشرات من الذين حرصوا علي تزيين أصابعهم باللون الفسفوري واستجابوا للنداءات بضرورة المشاركة في رسم مستقبل مصر. بالطبع لم أشعر بارتياح إذ إن نهاية الطابور لن تكون أمام صندوق الاقتراع وإنما عند موظف يضع علي مائدة أمامه كشوفا تحوي أسماء المسجلين في اللجنة من الذين تبدأ أسماؤهم بحرف الميم، لكن لأن الدوافع وطنية والرغبة صادقة والنية صافية تحملت عناء الوقوف والسير بمنتهي البطء بل وشاركت زملائي في الطابور الأحاديث والنقاش عن الديمقراطية وتداول السلطة والانتخاب بين أكثر من مرشح ومستقبل البلد. مر الوقت ثقيلا وزاد الملل والازدحام والطابور بالطبع ازداد طولا، وكلما خرج واحد منه بعدما ينهي مهمته ويعرف اللجنة التي سوف يقترع فيها شعرت وكأن حملا ثقيلا انزاح عن كاهلي.. يجدر الإشارة هنا إلي أن الأمر يتعلق بانتخابات رئاسية كان عدد المتنافسين بها قليلا وبدت نتيجتها محسومة قبل أن تجري، فما بالك بانتخابات برلمانية يسود فيها الصراع والعنف وتتحول المنافسة بين المرشحين في كل دائرة إلي تصديق لمقولة «يا قاتل يا مقتول». لم يكن داخل أو خارج اللجنة التي كنت أقف في طابورها العام أي بلطجي أو بلطجية، فالأمر لم يكن يحتاج بلطجة من الأساس، لكن عناء الطابور وانعدام التهوية والضجر من الطريقة البدائية التي تتم بها العملية جعلني أسأل ومعي آخرون من زملائي في الطابور عن أسباب عدم وضع أسماء المسجلين في قوائم الانتخابات علي الكمبيوتر فيتمكن كل منهم وهو في منزله من معرفة المكان الذي عليه أن يتوجه إليه ويقترع وهي عملية في منتهي السهولة قامت بها شركات الهواتف المحمولة والبنوك وغيرها من الجهات التي تحترم آدمية الناس دون نفقات كبيرة أو عقليات معملية فذة. عدت مجددا حامدا الله شاكرا مهللا لأن موقفي الإيجابي أتي في انتخابات رئاسية وليست برلمانية لا يسر ما يحدث فيها عدواً أو حبيباً.. أخيرا جاء دوري ووقفت أمام الموظف الذي انتدب لأداء المهمة الانتخابية وسألني عن اسمي فنطقته رباعيا حتي أسهل عليه المسألة وتفاديا لأسئلة قد تطيل الوقت خصوصا أن أصبعي بدا مشتاقا للحبر الفسفوري وغير قادر علي احتمال مزيد من الوقت من دون فسفور، الغريب أن الموظف بمجرد أن نطقت الاسم الأول وقبل أن أكمل ابتسم وبادر قائلاً: «اسمك محمد وده عندنا منه كثير وعلشان كده عملنا له طابور لوحده». وأشار بيديه إلي طابور «محمد» الذي يتعين علي أن أقف فيه مجددا لأعرف أين اقترع وأين يمكن لأصبعي أن يمتلئ بالفسفور، وجدت طابورا طويلا جدا حسبت عدد الواقفين فيه والوقت الذي يحتاجونه كي يصلوا إلي نهايته ليس ليقترعوا ولكن ليعرفوا أين سيقترعون وأدركت أن وقوفي فيه يمثل «وقف حال» فخرجت من طابور حرف الميم ولم أقترب من طابور «محمد» وسرت إلي حيث الشارع ووضعت يدي في جيبي حتي لا يري الناس أصبعي الذي لم يعرف حتي اليوم طعم الفسفور.