إن النظرة التي تعامل الأشياء الجامدة كما لو كانت عاقلة حية ليست مقصورة علي البدائيين وإنما توجد أيضا عند كثير من الشعوب ذات الحضارات القديمة من أمثال الهند والصين مما يدل في رأي العلماء الأوائل علي الأقل علي أن هذه النزعة الحيوية نزعة إنسانية عامة وليست مسألة خاصة بمرحلة معينة من مراحل التفكير الإنساني. وإن كانت تضعف بتقدم الحضارة والمجتمع أو تتخذ أشكالا وصورا أكثر تهذيبًا. ولا يزال بعض بقايا ومخلفات هذه النظرة واضحة في المجتمعات الحديثة وتظهر في بعض المواقف التي تعامل فيها الأشياء الجامدة كما لو كانت عاقلة حية. وينص (هربرت سبنسر) نفس المنحني في تفسير نشأة الديانات فيذهب إلي أن الإنسان الأول كان يؤمن بحياة الأرباب لأن عبادة الأسلاف هي أقدم العبادات وكان يري الأطياف في المنام فيحسب أنها باقية ترجي وتخشي وأنها تتقاضاه فروضا لها عليه كفروض الآباء علي الأبناء وهم بقيد الحياة. ويؤخذ علي هذا القول إن عبادة الأسلاف لم تستغرق عبادات الأقدمين في زمن من الأزمان، وأن النائم يري أطياف الغرباء كما يري أطياف الأباء، ويري أطياف الأطفال الضعفاء، بل يري أطياف السباع التي يخافها في يقظته فلا يعبدها لأنه يخافها ويتردد عليه أطيافها بل يقتلها ويحول بينها وبين الطعام. ومع الاعتراف بأن الرجل البدائي يتصور العالم الخارجي مليئا بالنفوس والأرواح التي تتقمص كل شيء فإنه يشعر دائما بكيانه ووجوده المستقلين تماما عن الأشياء، بل إنه يقف في معظم الأحيان موقف التحدي من ذلك العالم الخارجي ومن الظواهر الكونية المختلفة. وعلي الرغم من إيمانه بوجود أرواح قوية وجبارة تسير هذه الظواهر الكونية والطبيعة فإنه يحاول دائما التغلب عليها وإخضاعها لمشيئته والتحكم فيها بما يتفق وصالحه الخاص. (راجع:عبد الباسط محمد حسن، علم الاجتماع، 534، 634). 3 الاتجاه الوظيفي: يقول الدكتور عبد الباسط حسن: (أخذ بهذا الاتجاه كثيرون من علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع، نذكر من بينهم راد كليف براون، ومالينوفسكي، وتالكوت بارسونز وغيرهم، وهم يفسرون نشأة العقيدة الدينية في ضوء الوظائف التي تؤديها للأفراد والجماعات والمجتمعات والتي سنشير إليها في الفقرة التالية: وتعليقا علي ما سبق فإن من الممكن القول إن جميع النظريات السابقة لا تعطي تفسيرا متكاملا لنشأة الديانات ومسألة العقيدة أكبر من أن يحصرها تفسير واحد فهي قد تتسع لجميع تلك التفسيرات معا ولا تزال مفتحة الأبواب لما يتجدد من البحوث والدراسات. ولابد أن تمتزج هذه الصلة بالوعي والشعور متي كان الموجود من أصحاب الوعي والشعور ومن العجيب كما يقول الأستاذ العقاد أن يعرف العلماء شيئا يسمي الغريزة النوعية، بل شيئا يسمي غريزة الجماعة ولا يعرفون شيئا يسمي الغريزة الكونية أو السليقة الكونية، أو ما شاءوا من الأسماء. ويقول: ففي الكون مجال (للوعي الكوني) أوسع من مجال الحواس والملكات وما دامت الصلة بين الإنسان وبين الكون قائمة فلا بد من دخولها في نطاق وعيه علي مثال من الأمثلة ولا موجب لوقوفها دون غاية من الغايات التي تطبقها ملكات الجنس البشري ومنها ملكة الاعتقاد والإيمان، وفي الكون العظيم حقائق لم تقابلها الحواس الجسدية ولا الحواس النفسية كل المقابلة إلي الآن. (راجع:عبد الباسط محمد حسن، علم الاجتماع، ص 437، 834). (للحديث بقية)