أسعار الذهب والسبائك اليوم الأحد 12 مايو    مفاجأة في سعر الدولار اليوم في البنوك    بورصة الدواجن اليوم بعد الانخفاض.. أسعار الفراخ والبيض الأحد 12 مايو 2024 بالأسواق    الحكومة: إجمالي الأجانب المقيمين في مصر 9 ملايين مهاجر    بايدن: وقف إطلاق النار في غزة مشروط بإطلاق حماس سراح الرهائن    حماس تعلن وفاة محتجز إسرائيلي في غزة    جوميز يستقر على تشكيل الزمالك أمام نهضة بركان في ذهاب نهائي الكونفدرالية    موعد مباراة الأهلي القادمة أمام الترجي التونسي في ذهاب نهائي دوري أبطال إفريقيا    أول تعليق من بلدية المحلة بعد خسارته أمام الأهلي    ترتيب هدافي الدوري الإسباني قبل مباريات اليوم الأحد 12- 5- 2024    "هتذاكر وتعيِّد".. إجازة عيد الأضحى 2024 هُدنة طلاب امتحانات الثانوية العامة    طقس اليوم حار نهارا مائل للبرودة ليلا على أغلب الأنحاء.. والعظمى بالقاهرة 29    السكة الحديد تعلن عودة حركة القطارات بين محطتي الحمام والرويسات بمطروح    التعليم توجه تحذير لطلاب صفوف النقل اليوم    محمد رمضان يتألق في حفل زفاف ابنة مصطفى كامل    إسلام بحيري يكشف مصادر تمويل حركة تكوين    بعد.سحبه من الأسواق.. الصحة: لم نستورد أي لقاحات من استرازينيكا منذ عام    "اعرف هتقبض إمتى".. متى يتم صرف مرتبات شهر مايو 2024؟    أستراليا تشكل لجنة لمراقبة تأثير مواقع التواصل الاجتماعي على المجتمع    رئيس اليمن الأسبق: نحيي مصر حكومة وشعبًا لدعم القضايا العربية | حوار    وزير الرياضة يفتتح أعمال تطوير المدينة الشبابية الدولية بالأقصر    45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط».. الأحد 12 مايو    نشاط مكثف وحضور جماهيرى كبير فى الأوبرا    الهدنة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية قد تبدأ خلال ساعات بشرط وحيد    تثاءبت فظل فمها مفتوحًا.. شابة أمريكية تعرضت لحالة غريبة (فيديو)    مفاجأة صادمة.. سيخ الشاورما في الصيف قد يؤدي إلى إصابات بالتسمم    «آمنة»: خطة لرفع قدرات الصف الثانى من الموظفين الشباب    الحكومة: تعميق توطين الصناعة ورفع نسبة المكون المحلى    بطولة العالم للإسكواش 2024| تأهل 4 لاعبين مصريين للجولة الثالثة    طلاب الصف الثاني الثانوي بالجيزة يؤدون اليوم الامتحانات في 3 مواد    البحرية المغربية تنقذ 59 شخصا حاولوا الهجرة بطريقة غير شرعية    ما التحديات والخطورة من زيادة الوزن والسمنة؟    عاجل.. غليان في تل أبيب.. اشتباكات بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين واعتقالات بالجملة    عمرو أديب ل إسلام بحيري: الناس تثق في كلام إبراهيم عيسى أم محمد حسان؟    يسرا: عادل إمام أسطورة فنية.. وأشعر وأنا معه كأنني احتضن العالم    أبو مسلم: العلاقة بين كولر وبيرسي تاو وصلت لطريق مسدود    "الأوقاف" تكشف أسباب قرار منع تصوير الجنازات    يا مرحب بالعيد.. كم يوم باقي على عيد الاضحى 2024    أستاذ لغات وترجمة: إسرائيل تستخدم أفكارا مثلية خلال الرسوم المتحركة للأطفال    ملف رياضة مصراوي.. مذكرة احتجاج الأهلي.. تصريحات مدرب الزمالك.. وفوز الأحمر المثير    خطأ هالة وهند.. إسلام بحيري: تصيد لا يؤثر فينا.. هل الحل نمشي وراء الغوغاء!    رئيس بلدية رفح الفلسطينية يوجه رسالة للعالم    أرخص السيارات العائلية في مصر 2024    حبس سائق السيارة النقل المتسبب في حادث الطريق الدائري 4 أيام على ذمة التحقيقات    إصابة 7 أشخاص إثر انقلاب ميكروباص بمدينة 6 أكتوبر    بعيداً عن شربها.. تعرف على استخدامات القهوة المختلفة    حظك اليوم برج العذراء الأحد 12-5-2024 مهنيا وعاطفيا    «التعليم» تعلن حاجتها لتعيين أكثر من 18 ألف معلم بجميع المحافظات (الشروط والمستندات المطلوبة)    4 قضايا تلاحق "مجدي شطة".. ومحاميه: جاري التصالح (فيديو)    علي الدين هلال: الحرب من أصعب القرارات وهي فكرة متأخرة نلجأ لها حال التهديد المباشر للأمن المصري    خلال تدشين كنيسة الرحاب.. البابا تواضروس يكرم هشام طلعت مصطفى    وزارة الأوقاف تقرر منع تصوير الجنازات داخل وخارج المساجد    تيسيرًا على الوافدين.. «الإسكندرية الأزهرية» تستحدث نظام الاستمارة الإلكترونية للطلاب    رمضان عبد المعز: لن يهلك مع الدعاء أحد والله لا يتخلى عن عباده    الرقابة الإدارية تستقبل وفد مفتشية الحكومة الفيتنامية    رئيس"المهندسين" بالإسكندرية يشارك في افتتاح الملتقى الهندسي للأعمال والوظائف لعام 2024    نقيب الأطباء يشكر السيسي لرعايته حفل يوم الطبيب: وجه بتحسين أحوال الأطباء عدة مرات    ما حكمُ من مات غنيًّا ولم يؤدِّ فريضةَ الحج؟ الإفتاء تُجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محسن جاسم الموسوي:الأدب في حالة حرب!
ما يزال الاهتمام بالإبداع العربي أٌقل مما يجب في الولايات المتحدة!
نشر في أخبار الأدب يوم 11 - 12 - 2010

للدكتور محسن جاسم الموسوي حضور بارز في الثقافة العربية، حتي عندما سافر إلي الغرب لتدريس الأدب العربي في جامعات كندا، ثم استقر في جامعة كولومبيا العريقة، أستاذا للأدب العربي الحديث، مؤلفاته حول ألف ليلة وليلة تعتبر مرجعا أساسيا في المكتبة العالمية، كما أنه يقوم بدور مهم في التعريف بالأدب العربي في الولايات المتحدة التي يتصاعد فيها الاهتمام بالأدب العربي واللغة العربية من خلال منطلقات عديدة بعضها سياسي والآخر ثقافي، التقيته في نيويورك بعد عودته من مؤتمر علمي هام في ولاية تكساس.
نبدأ من المحاضرة التي ألقيتها أخيراً في تكساس وحضرها 70 دارساً للغة العربية وألقيتها باللغة العربية. هذا حدث. اجتماع 70 دارساً للغة العربية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية شيء استثنائي. ماذا كان موضوع المحاضرة وما دلالتها؟
جئت لجامعة تكساس في أوستن لإلقاء محاضرتين، الأولي علي الطلبة الذين اجتازوا مرحلة الكفاءة في اللغة العربية علي أن تكون المحاضرة بالعربية، والثانية كانت عبارة عن محاضرة الافتتاح لمؤتمر كبير عن الحرب الباردة.. وكانت بالإنجليزية، وعنوانها "الأدب في حالة حرب" وكان يبحث في الحرب العالمية الثانية وتأثيراتها في المنطقة العربية، سواء علي مستوي الأدب أو الثقافة عموماً.
كانت الأولي عن ألف ليلة وليلة. استقبل الطلبة المحاضرة بشكل ممتاز. كانوا ينصتون بشدة وكذلك كانوا يوجّهون الأسئلة باللغة العربية. صحيح أن البعض منهم كان يتلكأ قليلاً في تركيب الجمل، ولكنهم كانوا يصغون جيداً ويتلمّسون معالم ما قلتُ بحيث إنهم استدركوا وسألوا، وهذا يعني أن وضع جامعة تكساس في أوستن يعدّ من الأوضاع الحسنة بالنسبة للغة العربية.. علي أساس أنّ هذه الجامعة مركز من المراكز الأولي لدراسة اللغة العربية، فيها مراكز تأهيل اللغة العربية وبعثاتها، وما يسمّي بمنطقة الشرق الأوسط. لهذا السبب يمكن أن يقال الآن إنّ هناك المركز الأساس لتعليم العربية وتنشيط معالمها.
ما الذي يعنينا من هذا. هل نستطيع القول إنّ اللغة العربية قد استُقبلت استقبالاً واسعاً في الولايات المتحدة الأمريكية؟
نعم ولكن لأغراض مختلفة كما نعلم. هناك من يستجيب لدراسة اللغة العربية علي أنها من المكمّلات والشروط الأساسية لتحصيل عمل في الدوائر الأساسية المختلفة، وفي الشركات وما إلي ذلك، ومنها ما ينحرف من دراسة اللغة إلي الأدب والثقافة ويسعي إلي تعلّم ذلك. وبالفعل حصل لديّ في جامعة كولومبيا علي سبيل المثال أنّ بعض الطلبة الذين جاءوا لتعلّم اللغة انحرفوا قليلاً لتعلم الأدب والثقافة وتمرّسوا أكثر في هذا الميدان. كما قلت إن هذا من العلامات الحسنة من جانب، ولكن من الجانب الآخر يمكن أن يكون استمراراً لما يسمي بظاهرة الاستشراق، علي أساس أنه لا بد من تعلم لغة الآخر لتكون متمكناً منه ثقافة وعلماً وأداء وما إلي ذلك.. ولكن علينا أن نأخذ الجانب الإيجابي وهو أنّ الثقافة العربية ولفترة طويلة من الزمن كانت مظلومة في هذه المنطقة من العالم، أي يصعب الادّعاء بوجود إحاطة حسنة بمعني الثقافة العربية الإسلامية أو بمعني العربي في الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت البرامج الشائعة في الجامعات الكبيرة محدودة أي أنها تقدم المعرفة لعدد محدود جداً من الطلبة، وهؤلاء قلما يستطيعون تغيير معالم الصورة.. نحن الآن نتحدّث عن وجود عدد كبير من الطلبة يمكن أن يتسّرب بعضهم إلي مجالات الإعلام والمعرفة العامة ويمكن أن يؤثّروا في طبيعة الرأي العام لفهم من هو العربي؟ وهذه بدورها يمكن أن تساعد العربي أن يكون أكثر ثقة بنفسه لكي يقدم نفسه بشكل صحيح للمجتمعات الأخري. نري أن الثقافة العربية والإنسان العربي لم يزل يراوح في مستويات دنيا من الحياة العامة مقارنة بالهنود علي سبيل المثال أو اليابانيين والصينيين أو بالشعوب الأخري التي تمتلك ثقة عالية بذاتها.
أعرف أنك تعمل علي مشروع يتعلّق بالحرب الباردة في الثقافة العربية خلال عقد الستينيات.. هل كان ذلك انطلاقاً من مشاركتك بهذا المؤتمر؟
هذا صحيح. كان هذا المؤتمر واسعاً من حيث عدد المدعوين. 150 شخصاً من المشاركين الفعليين في تقديم الأوراق، ولكن ورقتي كانت تمثّل محاضرة الافتتاح، أي أنها تقدّم الاتجاهات العامة لقراءة الآداب. صحيح أنني تحدّثت بشكل خاص عن المنطقة العربية وعلاقة الحرب الباردة بها ولكن كانت هناك أيضاً إشارات للثقافات الأخري.
الأسئلة في نهاية المحاضرة كانت عديدة وبعضها يتعلّق بما قلته مقارنة بالذي جري في أمريكا اللاتينية، وقد سألني في ذلك أحد أساتذة جامعة مكسيكو الجديدة بصدد الملامح العامة أو المشتركة بين الثقافتين. وهذا صحيح. إذن توجد أشياء مشتركة بين الثقافة العربية وما جري فيها وبين الثقافات الأخري.
محاضرة الافتتاح كانت عبارة عن خمسين دقيقة، وهي فترة طويلة نسبياً لإلقاء محاضرة ولكن هي قليلة نسبياً مقارنة بالمادة الغزيرة التي اكتملت وأنا أستجمع معلومات الموضوع، وقد طالبني الناس بأن يتحوّل هذا الموضوع إلي كتاب، ووجدت أنه فعلاً يستحق أن يكون كتاباً ، لأننا أهملنا هذا الجانب لفترة طويلة من الزمن علي الرغم من أنه يتعلّق بشدة بطبيعة تكوين الثقافة العربية في مرحلة حرجة جداً في حياتها، أي أن الثقافة العربية لا تقتصر علي ما جري في حركة الشعر الحر علي سبيل المثال التي تُعاد وتُكرر، أو ما جري في مجلة جاليري التي تُعاد وتُكرر، أو الذي جري لاحقاً في روايات ما بعد الثمانينيات. ينبغي أن نعرف المسبّبات الفعلية التي جرت داخل الثقافة العربية والتي قادت إلي تناحرات بداخلها، وأيضاً إلي ظهور نزعات حقيقية وأخري مزيّفة وطارئة ، فهناك ما يتأتي بالتصدير، وهناك ما هو راسخ ويتأتي من جذور تلك الثقافة..
عندما تقرأ طبيعة الحرب الباردة ستفاجأ بكثير من الأشياء التي تتبدي لك بمنظار جديد لم يكن قد تراءي لك من قبل كقارئ أو كمنصتٍ. لهذا السبب حتي قضية ما الحداثة أو ما بعدها، وما بعد البنيوية. لماذا تعمّقت؟ لماذا لم تتعمق؟ لماذا ظهر في هذا المجال وليس في ذاك المجال؟ كل هذه الأسئلة التي بدت لنا في يوم من الأيام وكأنها هامشية بدت من خلال البحث وكأنها جذرية وأساسية في داخل البحث الكلي الذي يتعلّق بطبيعة الحرب الباردة.
انطباعي عن المجتمع في الولايات المتحدة الأمريكية أنه مفتوح لا يمنع أي ثقافة. إنه مجتمع قائم علي التعدد واستيعاب الآخر المختلف. ما الذي يجب أن يتم حتي نستطيع أن نقدّم الأدب العربي بشكل صحيح؟ أن تتم قراءته علي نطاق أوسع يتجاوز أسوار الجامعات؟
طبعاً ينبغي أن نقرأ هذا السؤال في ضوء طبيعة ما جري بالنسبة لبرامج اللغة والآداب العربية في أمريكا وغيرها. ينبغي أن نتذكر أيضاً أنّ المرحلة الأولي، أي مرحلة قيام المستشرقين بقراءة الآداب العربية وظهور برامج دراسة اللغة العربية في الجامعات الخاصة كان مبنياً علي دراسة اللغة بشكل خاص.. علي أساس أن التعمق في هذا الميدان يمكن أن يقود إلي فهم المجتمعات والشخصيات وكذلك إلي التعمق العملي والحرفي في تفصيلات تفيد المستشرق، كما أنه جري الاهتمام أكثر بالجانب الكلاسيكي، والمقصود هو التراث القديم، ولكن ليس التراث كله. لقد تمت قراءة المعلقات بشكل تفصيلي، ولكن ينبغي أن نتذكر أنها حينما تُرجمت وهُمشت تمت قراءتها علي أساس أن المجتمعات التي تنتمي إليها عتيقة، وبالية وتحاكي المجتمع اليوناني القديم، كانت الأولوية والأسبقية والاهتمام للمجتمع اليوناني القديم علي أساس أنه المركز الحضاري الأول، أما المنشأ العربي فعتيق وقديم، ولا معني له في الحياة الحديثة.. كانت البرامج إذن تتجه هذا الاتجاه ثم جاءت الموجة الثانية التي رأت أنه لا بد في حركة الاستعمار من الالتقاء بالمكتوب الذي أجري تحاوراً مع الغرب واحتك به وأخذ من مدارسه واحتج جزئياً علي ثقافته، وأفاد من العلوم الحديثة كعلوم الاجتماع، فظهر الاهتمام بطه حسين علي أساس قراءة سيرة الأيام ومشروعه المتأثر بديكارت ودور كايم، ليست قراءة طه حسين حباً فيه ولا حباً في الثقافة العربية وانتصاراً لها. لا، ولكن لأننا نتحدث عن علاقات ثقافية تتمحور في إطار ما نسمّيه بالتبعية الثقافية التي تري أنك في ظل الاستعمار وبصفتك النخبة الطالعة والمتصدرة للحياة الاجتماعية.. يتم النظر إليك باعتبارك تأخذ عن الغرب لتزرع بذرة في حياتك الخاصة. أنت الطليعة التي سيقول عنها فانون أنها في يوم من الأيام ستكون الطليعة التي ستنهض بما يسمي ب"الحداثة الأوروبية" وتنقل هذه الحداثة لتكون جزءاً من الاستعمار لا خارج الاستعمار. هذا لا يعني أننا نقول إن المشروع كان جزءاً من الاستعمار. لا. هذا كلام ساذج وسهل وبسيط. المقصود أن هذا ما كان يدور في ذهن كرومر وغيره من سدنة المستعمر. أما ما الذي جري للطلائع العربية فإنها حوّلت هذه الثقافة تحويلاً كلياً في تحديث مجتمعاتها، أو في التحاور في شيء من هذا التحديث، ولهذا السبب سرعان ما احتجت هذه الطلائع علي المستعمر وحاولت أن تنشئ ثقافتها الخاصة. اقرأ "عصفور من الشرق" علي سبيل المثال.. ستري أن محسن حينما رأي ما جري لأبيه مثلاً، وأيضاً الشخص الآخر الذي عاد من جامعة إكسفورد، وغيرهما.. احتجوا علي المستعمر، واعتقدوا في يوم من الأيام أنّ ذلك المستعمر قدّم لهم شيئاً عظيماً، ولكن رأوه في داخل بلدانهم يتحوّل إلي صورة أخري، فالمستعمر يتعامل معهم علي أساس أنهم أدني منه بكثير، وهذا جعلهم يتحولون ضده، ويتجهون بثقافتهم العربية والمحلية اتجاهاً آخر تحررياً. ينبغي إذن أن تُقرأ الأمور بهذه المنظورات وليس بالمنظورات الثابتة التي اعتاد عليها الكتّاب أصحاب النظرة الجامدة والمتقوقعة غير القادرة علي فهم الأشياء بعلاقاتها المتباينة والمتغيرة علي مدي الزمن..
أما المرحلة الأهم فهي الثالثة، تلك التي جاءت مع ظهور الدولة الوطنية، ينبغي أن نتذكر أن هذه الدولة لم تنشأ عن فراغ، لا بد أن نتذكر أن أحمد لطفي السيد كان شريكاً حقيقياً في إنشاء الدولة الحديثة، وهكذا كان طه حسين، وفي العراق لم يكن الزهاوي بمعزل عن هذه الظاهرة ولم يكن الرصافي أيضاً. كل هؤلاء كانوا يشاركون في تكوين الدولة الوطنية بشكل أو بآخر، وكانوا يعترضون علي اتجاهات هذه الدولة في بعض الأحيان، والحوارات التي نشرها جمال الغيطاني مثلاً مع توفيق الحكيم تشير إلي أنّ قائداً سياسياً كعبد الناصر علي سبيل المثال، كان يمكن أن يستلهم مساراً كاملاً في حياته السياسية والمعرفية من خلال شخصية محسن في "عودة الروح". ينبغي أن نأخذ التداخل في معني المثقف كمنشئ للدولة الوطنية وبين القائد السياسي كمنتوج لهذه المعرفة.
هل تنقصنا الجدية في التعامل مع مثل هذه القضايا؟!
نعم، ينبغي أن نأخذ هذه الأمور بجدية أعلي بما فيها من إيجابيات وسلبيات وهذا يحتّم علينا أن نأخذ الدور الثالث للثقافة العربية في أمريكا والغرب. كيف يمكن لهذه الثقافة أن تنمّي فهماً فعلياً لطبيعة المجتمعات يتيح لدارسها أن يلمّ بطبيعة التعقيدات التي تنطوي عليها هذه الثقافة لأنها ثقافة ليست مسطحة بمعني أنها بيضاء أو سوداء وإنما ثقافة في منتهي التعقيد، في قديمها وجديدها، ولأنها كذلك ينبغي قراءتها بحرية وبسعة أكثر، حتي في مسألة البلاغة مثلاً.. وأنا أقدّم الآن لطلبة الدراسات العليا درساً في التراث العربي بمعني النقد البلاغي للثقافة العربية، أحاول أن أتجه بقراءة البلاغة اتجاهاً معرفياً أوسع، نري أن البلاغة لا تتحرك في فراغ أولاً، ولم تكن مجرد ولع من قبل بعض الثقات والمتفقهين في أمور بلاغية وعلم البيان، أو البديع. كانت هذه استجابة أولاً لروح العصر وتشارك في تكوين هذه الروح، كما أن الاجتهادات الجديدة التي جرت في هذا الميدان لم تكن عادية، أي أنك حتي حينما تقرأ شخصاً غير معتزل كالباقلاني الذي يريد أن يثبت مسألة إعجاز القرآن مقارنة بالشعر وبديعه السائد آنذاك ينبغي أن يُقرأ بجدية أخري، صحيح يمكن أن يكون الباقلاني اتّجه لإثبات قضية، ولكن في واقع الحال قدّم قراءة تفصيلية لمسألة البديع، وحاول أن يشاكس هذا البديع ليثبت رأيه فيمن يمتلك القوة والكفاءة الفعلية.. الباقلاني علي ما يبدو عليه من محافظة كان جريئاً جداً في تقديم وتعظيم شأن الهامشيين من الشعراء علي حساب الشعراء الشائعين فهو مثلاً يضرب بيتاً للحسين بن الضّحاك، مقارنة بأبي نواس من أجل أن يعلي من شأن الأول، وهكذا وسيفعل عشرات المرات بالنسبة للشعراء الآخرين في الانتقاص من أبي تمام علي سبيل المثال، تجربة الحركة بين خطاب سائد وخطاب هامشي ليست تجربة عادية، ينبغي أن تؤخذ في ضوء التمهيدات السياسية والمعرفية الجارية في تلك الأثناء داخل الثقافة العربية الإسلامية في مرحلتها الثانية التي ستشهد علي الصعيد السياسي انحساراً كبيراً. كل هذه الأمور متداخلة وليست معزولة كما علمونا من قبل داخل أروقة الجامعات العربية، أي أن البلاغة تُقرأ بمعزل وكأنها شغل محدود لمجموعة من الطلبة المعنيّين بقضايا اللغة، لم تؤخذ بعمقها الفعلي الذي قدمه لك دوسوسير في دراسته لعلم اللغة أو الذي قدمه لك الدارسون البنيويون علي سبيل المثال وما بعدهم، من قراءات إلي أن جاء ميشيل فوكو ليتعمق في قراءة تحليل الخطاب. هذه الأمور لا بد من الإفادة منها من الجانب الآخر ونقلها إلي الثقافة العربية لتتحرك إلي الأمام بدلاً من العزلة المفروضة عليها في داخل أروقة الجامعات وداخل الدرس العربي وداخل أكثر أقسام الجامعات تخلّفاً، أقصد أقسام اللغة العربية علي الرغم من وجود جهابذة وعلماء معروفين بها!
أتيح لي أن أري فيلمين بهما اقتراب من الواقع، هل الحدث المؤلم، حادث 11 سبتمبر برغم مأساويته ودمويته.. بداية للتعرف علي العالم العربي؟ لقد لاحظت ثمة اهتماما باللغة العربية وواقعنا. العالم العربي كان يبدو علي الدوام بعيداً، وكان طرفاً طوال الوقت في الصراع مع إسرائيل. ما رأيته في السينما لم أحسّه في الأدب. هل هي ملاحظة صحيحة؟
السينما طبعاً تختلف قليلاً، عدد الأفلام الوثائقية التي جاءت من مخرجين مختلفين، أمريكان وغيرهم كانت كثيرة جداً، بعضها كان سطحياً وعادياً، وبعضها متعمقا، أغلب الوثائقيات والأفلام كانت شأن الطيران الهجومي، يضرب من فوق، ويتعامل بمنطق الألعاب النارية، بغض النظر عن حجم الخسائر والدمار الذي تتمخض عنه مثل هذه الهجمات والضربات. تلك الأفلام سلكت هي الأخري نفس الاتجاه، وتحول البلد في هذه الأفلام بناسه وطبيعته وثرواته إلي هامش أو شيء غير موجود أصلاً، لأن الموجود فقط هو الذي يقوم بفعل، والذي يضرب يفرض بطولته علي فراغ.
هذه "الهالة/ اللاشيء" يمكن أن تتحوّل إلي وحش في خيال المشاهد، ويمكن أن تتحول إلي أرض خالية وخراب، وبالتالي تستحق أن تُتنهك بمثل هذه الصورة، لكن الأفلام الوثائقية التي انشقّت عن هذه الصورة كانت كثيرة جداً، وقادت نسبياً إلي خلخلة في الضمير، لأن الناس بدأوا يتساءلون عن انتهاك الآخرين وتدميرهم بدون أي عذر، فإذا كانت الأعذار التي جري الحديث عنها والمسوغات التي طرحت في حينها قد أثبتت كذبها وزيفها، فلا بد من معرفة الأسباب الفعلية لها، وهذا قاد الناس للتفاهم أكثر مع المغلوب والمضروب والمضطهد.
من الجانب الآخر يمكن أن يقال إن عدداً كبيراً من الناس التي عادت أيضاً من جبهات الحرب ذات ضمير منهك هي الأخري خاصة أن أغلب هؤلاء عندما يعودون يعترفون علي غيرهم فيما تم انتهاكه وارتكابه من جرائم بحق الناس الأبرياء، كل هذا بدأ في الظهور بالإضافة إلي ما تسببت فيه الحرب من دمار قيل في بعض الحالات ومنذ عام 91 إنه يفوق الدمار الذي تسببت فيه قنبلة هيروشيما علي سبيل المثال. كل هذا تسبب في هزة عنيفة للضمير، ولهذا كان عدد من الكتب الذي تناول كل هذه الظواهر كبيراً نسبياً، ويمكن أن يقال إن حرب العراق من حيث الوقت في المستقبل كحرب فيتنام علي الضمير الأمريكي، ويتوقع أيضاً أن يكون بعض الشعراء والكتّاب والفنانين قادرين علي تقديم الصورة الأعمق والأدق!
من الجانب الآخر علي المستوي الفكري أن 91 هي التحقق الأول للنظام الدولي الجديد الذي أظهر القطبية الواحدة إلي الأبد واستخدم مشروعه كاملاً في هذا الإطار، أما 2003 فكانت تدشيناً للمشروع العسكري.
كيف يمكن أن نقرأ ذلك علي أصعدة المعرفة والأدب؟
الأحداث كما قلت سببت شرخاً كبيراً في داخل الأمريكيين، ويمكن أن نقول أيضاً إن عدداً كبيراً من الباحثين والدارسين والطلبة والعسكريين أخذوا يتساءلون في معني ذلك، وفي معني أحقية التعامل مع الشعوب الأخري بهذه الصورة. بدأوا يتحدثون عن العمق الحضاري، هذا العمق الذي يبدو أنه كان يغيظ بعض الناس من الناحية النفسية ويدعوهم إلي التعامل بهمجية، وهذا كما قلت قاد بعض الناس لمعرفة لماذا تلك الطريقة في التعامل مع مشروع حضاري يعد من الأعماق الكبري للإنسانية.
هل يقود هذا إلي فهم أحسن للعرب وثقافاتهم علي الرغم من عمق الجرح وآثاره؟
يمكن. كان إدوارد سعيد يقول قبيل وفاته: الحروب والمحن الكبري قد تقود إلي تقارب ما بين الشعوب. هذا صحيح. علينا أن نقرأ قصيدة سعدي يوسف المعنونة ب"أمريكا" ونري أنها تقوم علي مبدأ الحوار بين الشاعر والولايات المتحدة الأمريكية. الشاعر الذي ترجم والت وايتمان وتغنّي بقصائده، ورقص علي أنغام الجاز، وتعمق في فهم الفلكلور الأمريكي والموسيقي الأمريكية. هذا الشاعر يستغرب التدمير الوحشي لحضارة في عدة مرات. ومنها ما جري في 91 وكانت القصيدة قد كتبت مبكراً بعد آثار الضربات التي جرت أيام كلينتون علي سبيل المثال. هذه التساؤلات بُنيت كما قلت علي مبدأ الحوار. خذ واعطني، وهذا يعني أن المثقف عندما يكون مثل سعدي، رافضاً للآخر كمشروع سياسي، ولكنه مستعد للتحاور في المعني الذي أخذناه من الثقافة الأمريكية، وفي المعني الذي يجب أن تأخذه الثقافة الأمريكية منا بدلاً من اللجوء إلي هذا العنف والتدمير اللذين يتسببان في إلغاء مكوناتنا الثقافية والحضارية التي عاشت في مخيلة الشاعر وتمخضت عنها قصائد الشعر المختلف.
كيف تري وضع الأدب العربي الآن في الولايات المتحدة مقارنة بوضعه قبل ربع القرن؟
نحن خرّجنا بعض الأجيال. لديّ بعض الطلبة الجادين الذين تخرجوا وتحوّلوا إلي مدرسين لمادة الأدب العربي في الجامعات الأمريكية. هؤلاء خرجوا بأفكار جديدة، وبطرائق جديدة لتعليم الأدب العربي بشقيه القديم والجديد، فالثقافة العربية إذن لم تعد محدودة أو موضوعة في قوالب جاهزة ومُعدّة كالتي قولبت من قبل في البرامج القديمة أو في المرحلة الأولي كما سميتها وأصبحت أكثر حضارية، أي أنها تصب في المفاهيم العامة التي يتشكل منها الفكر الإنساني وبالتالي تتيح للطلبة أن يتحاوروا معها بطرائق مختلفة عما كان. كان المستشرق يري أن هذا هو الآخر، المعزول الغريب الغامض أما الطالب الحالي فإنه يتعامل جرّاء المنهجيات الجديدة التي زرعناها في أذهان الطلبة الذين كما قلت أصبحوا أساتذة يتعاملون مع هذه الثقافة والآداب العربية كقضايا جادة تتحاور مع أذهانهم بمعاصرة شديدة، وتفاجئ هذه الأذهان بمعرفة جديدة تستحق البحث.
كيف تري المستقبل؟
أتوقع للمستقبل إذا ما مضينا في هذا الشوط بعيداً يمكن أن تكون الثقافة العربية قد أرست لنفسها حضوراً فعلياً داخل الثقافة الأمريكية لا سيما في وجود المنهجيات الجديدة، فنحن لم نعد نقدم الأدب العربي بمعزل عن هذه المنهجيات وغالباً ما نلجأ إلي طرائق مختلفة في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وهذه الطرائق تستطيع تقديم ما ألفناه بشكل محدود، تعيد تقديمه بشكل واسع يتيح للطالب أن يتحاور معه بعصرية، إذا ما مضينا في هذا الشوط إذن يمكن لهذه الثقافة العربية أن تصبح جزءاً في تشكيلة الثقافة الأمريكية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.