شباب المصريين بالخارج مهنئا الأقباط: سنظل نسيجا واحدا في وجه أعداء الوطن    صوامع الشرقية تستقبل 423 ألف طن قمح    التخطيط: 6.5 مليار جنيه استثمارات عامة للإسماعيلية للعام المالي الحالي    الجيش الإسرائيلي يفرض حظر نشر على حادث كرم أبو سالم    أخبار الأهلي: موقف كولر من عودة محمد شريف    رونالدو: الهدف رقم 900؟ لا أركض وراء الأرقام القياسية ... 66 هاتريك أغلبها بعد سن الثلاثين، رونالدو يواصل إحراج ليونيل ميسي    «قطار الموت» ينهي حياة فتاة داخل مدينة ملاهي بأكتوبر    الجد الأعظم للمصريين، رحلة رمسيس الثاني من اكتشافه إلى وصوله للمتحف الكبير (فيديو)    اعرف حظك وتوقعات الأبراج الاثنين 6-5-2024، أبراج الحوت والدلو والجدي    جامعة بنها تنظم قافلة طبية بقرية ميت كنانة بطوخ    "خطة النواب": مصر استعادت ثقة مؤسسات التقييم الأجنبية بعد التحركات الأخيرة لدعم الاقتصاد    التنمية المحلية: استرداد 707 آلاف متر مربع ضمن موجة إزالة التعديات بالمحافظات    وزير الإسكان: قطاع التخطيط يُعد حجر الزاوية لإقامة المشروعات وتحديد برامج التنمية بالمدن الجديدة    «شباب المصريين بالخارج» مهنئًا الأقباط: سنظل نسيجًا واحدًا صامدًا في وجه أعداء الوطن    نتنياهو: إسرائيل لن توافق على مطالب حماس وسنواصل الحرب    إعلام عبري: حالة الجندي الإسرائيلي المصاب في طولكرم خطرة للغاية    روسيا تسيطر على بلدة أوتشيريتينو في دونيتسك بأوكرانيا    زعيم المعارضة البريطانية يدعو سوناك لإجراء انتخابات عامة عقب خسارة حزبه في الانتخابات المحلية    صحة غزة: ارتفاع إجمالي الشهداء إلى 34 ألفًا و683 شخصًا    كنائس الإسكندرية تستقبل المهنئين بعيد القيامة المجيد    البابا تواضروس: فيلم السرب يسجل صفحة مهمة في تاريخ مصر    حمدي فتحي: مستمر مع الوكرة.. وأتمنى التتويج بالمزيد من البطولات    وزير الرياضة يتفقد منتدى شباب الطور    بين القبيلة والدولة الوطنية    في إجازة شم النسيم.. مصرع شاب غرقا أثناء استحمامه في ترعة بالغربية    «الداخلية» في خدمة «مُسِنّة» لاستخراج بطاقة الرقم القومي بمنزلها في الجيزة    التعليم: نتائج امتحانات صفوف النقل والاعدادية مسؤلية المدارس والمديريات    رفع حالة الطوارئ بمستشفيات بنها الجامعية لاستقبال عيد القيامة المجيد وشم النسيم    بالصور.. صقر والدح يقدمان التهنئة لأقباط السويس    «سلامة الغذاء»: تصدير نحو 280 ألف طن من المنتجات الزراعية.. والبطاطس في الصدارة    ماري منيب تلون البيض وحسن فايق يأكله|شاهد احتفال نجوم زمن الفن الجميل بشم النسيم    أنغام تُحيي حفلاً غنائيًا في دبي اليوم الأحد    بعد انفصال شقيقه عن هنا الزاهد.. كريم فهمي: «أنا وزوجتي مش السبب»    بالتزامن مع ذكرى وفاته.. محطات في حياة الطبلاوي    الليلة.. أمسية " زيارة إلى قاهرة نجيب محفوظ.. بين الروائي والتسجيلي" بمركز الإبداع    حفل رامى صبرى ومسلم ضمن احتفالات شم النسيم وأعياد الربيع غدا    الإفتاء: كثرة الحلف في البيع والشراء منهي عنها شرعًا    دعاء تثبيت الحمل وحفظ الجنين .. لكل حامل ردديه يجبر الله بخاطرك    «الإسكان» تنظم ورش عمل مكثفة للمديريات حول تطبيق التصالح بمخالفات البناء وتقنين أوضاعها    جامعة بنها تنظم قافلة طبية بقرية ميت كنانة في طوخ    رئيس هيئة الرعاية الصحية يبحث تعزيز التعاون مع ممثل «يونيسف في مصر» لتدريب الكوادر    لتجنب التسمم.. نصائح مهمة عند تناول الرنجة والفسيخ    "الرعاية الصحية" بأسوان تنظم يوما رياضيا للتوعية بقصور عضلة القلب    فاينانشال تايمز: الاتحاد الأوروبي يضغط لاستبعاد قطاع الزراعة من النزاعات التجارية مع الصين    الأهلي يجدد عقد حارسه بعد نهائي أفريقيا    الاتحاد يواصل تدريباته استعدادًا لمواجهة الأهلي.. وأتوبيسات مجانية للجماهير    «التعليم»: المراجعات النهائية ل الإعدادية والثانوية تشهد إقبالا كبيرًا.. ومفاجآت «ليلة الامتحان»    «منتجي الدواجن»: انخفاضات جديدة في أسعار البيض أكتوبر المقبل    البابا تواضروس خلال قداس عيد القيامة: الوطن أغلى ما عند الإنسان (صور)    السيطرة على حريق شقة سكنية في منطقة أوسيم    ضبط دهون لحوم بلدية غير صالحة للاستهلاك الآدمي في البحيرة    المديريات تحدد حالات وضوابط الاعتذار عن المشاركة في امتحانات الشهادة الإعدادية    «الدفاع المدني الفلسطيني»: 120 شهيدا تحت الأنقاض في محيط مجمع الشفاء بغزة    مختار مختار: عودة متولي تمثل إضافة قوية للأهلي    محمود البنا حكما لمباراة الزمالك وسموحة في الدوري    هل يجوز السفر إلى الحج دون محرم.. الإفتاء تجيب    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    رسالة دكتوراة تناقش تشريعات المواريث والوصية في التلمود.. صور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السيد يس.. عقل يبحث عن يقين..لست متديناً بمعني الطقوس ولكن بالمعني الفلسفي
نشر في روزاليوسف اليومية يوم 05 - 03 - 2010

فاتر ياسين، أو هكذا تبدو لي عاطفته..منطفئة. هو يعرف ما يريد.. من الكتب أو الأشخاص أو الحياة . ينطلق مباشرة باتجاه نفسه، قبل أي شيء آخر. وما لايمكن أن تحبه فيه، علي عكس ما يعتقد ، هو أسلوبه. إن سطوره أشبه بعيدان حطب جافة. كتابته خالية من التضاريس. لا برق ولا رعد يدوي من بعيد. ربما لوعورة الأرض التي يطأها لكن تكوينه مبني من طوب صلب، من حجارة وزلط وأسمنت ومواد أخري مهضومة جيدا ً. إن معدته تفكر. فهو، منذ صغره، يعرف كيف يتعامل مع الكتب باعتبارها أعضاء، أو حاسة ملحقة بجسمه الباهظ. وقد لا تعجبك موضاعاته، إذا كنت قارئا ًيبحث عن التسلية، لكنه رجل جريء في مواجهة ما لا يعرف، ولعل هذا أنبل ما يبقي منه وما يبقي له. والآن إلي "الخراف المهضومة"، أو السيد ياسين:

نعود إلي محطة أخري للقراءة في حياتك هي مكتبة المركز الثقافي الأمريكي بالإسكندرية. علي ذكر أمريكا، أعتقد أنها كانت تطبع الكتب، في الخمسينيات والستينيات، بقصد الدعاية. ثم لماذا لم توجد دولة ثقافية عبر التاريخ؟ أمريكا كانت مؤهلة لهذا الدور؟!
- ما الذي تعنيه بدولة ثقافية؟
دولة تعزز قيم التسامح، القيم الروحية حول العالم، لا غزو العالم؟
- أنا لم أقرأ في هذا المركز كتبا ًدعائية. قرأت فيها جون ديوي، سانتيانا، وقرأت الشاعر الأمريكي العظيم...، مين، مييين......... نسيت اسمه.
والت ويتمان؟
- برافو عليك، والت ويتمان، كنت مبهورا ًبه، أما أمريكا فدعك منها الآن.
انتقلت في قراءات التكوين من الأدب وهو القوة الخالقة إلي الفلسفة..القوة الناقدة. وهما الدعامة الأساسية للحضارة. في تصورك..ما الظروف المثالية التي تلتئم فيها النزعة الفلسفية بالسليقة الشعرية، دون ضرر؟
- الحياة الإنسانية لا يمكن تقسيمها هكذا، ولا الحياة الفكرية ولا المجتمعية. الحياة كيان مركب، تجتمع فيه الفلسفة والعاطفة والتحليل. ولو اختفي جانب، أصبحت الحياة عقيمة، في النهضة العربية الأولي والثانية كنت تجد أحمد شوقي إلي جوارالعقاد، فيما بعد تجد زكي نجيب محمود وصلاح عبدالصبور. أي مجتمع لا يمكنه العيش دون تجاور هذه الموارد المختلفة للثقافة الإنسانية.
أتكلم عن تجاور الأضداد داخل الشخص الواحد، وليكن الشاعر..
- هناك فرق بين من يتعمد الفلسفة والشاعر الذي يصدر عن فلسفة ما. الأخير معناه أن لديه رؤية للحياة، رؤية العالم مفهوم أساسي بالنسبة لي في التحليل الثقافي، كيف ينظر المرء للكون والمجتمع والإنسان، تختلف رؤي العالم من فرد لآخر ومن مجتمع لآخر ومن طبقة لطبقة ومن جيل لجيل..إلخ، إليوت لم يكن فيلسوفا ً، فقط كانت لديه رؤية للعالم، قد تكون رجعية، كما تقول أنت، أو غير رجعية، ولكنه لم يتكلف الفلسفة، كان الشعر تعبيرا ًعن شخصيته وإحساسه بالحياة في مختلف المواقف.
إليوت كان يهرب من شخصيته، كان يري أن الشعر ليس إطلاقاً للوجدان، لكنه هروب من الوجدان، ليس تعبيرا ًعن الشخصية، لكنه هروب منها.
- هذه هي الفلسفة التي أراد لقصيدته أن تعبر عنها. الفلسفة تكمن في اللاشعور، تحت القصيدة، وهذا ما يجعل التلقي ثريا ًكما قلت لك.
كان لاكتشاف مكتبة "علم النفس التكاملي" ليوسف مراد، أثر فيك. قل لي هل صمد المنهج التكاملي للزمن؟
- أعتقد أن المنهج التكاملي قد تحول إلي ما أسميه الآن منهجية التحليل الثقافي، هذه المنهجية تنظر أبعد من التحليل السياسي والاقتصادي المحض، إنها تهضم الحياة. السياسي والاقتصادي والعقائدي، لأنه لايمكن اختزال الظاهرة الاجتماعية في جانب واحد.
تزامن تكوينك مع تكون ثورة يوليو، من 1946 إلي 1952م. لماذا انقلب الحاضر علي الماضي. أعني لم يبق شيء من ثورة يوليو، ما يجعلني أعيد التساؤل..هل كانت ثورة أو مجرد انقلاب. ماذا بقي منها؟
- بدأت كانقلاب عسكري ثم تحولت إلي ثورة عندما تبني الضباط الأحرار المشروع الذي وضعته الحركة الوطنية المصرية في الفترة من 1945 إلي 1952م، كان مشروعا ًنقديا ًيخص المستقبل..كان يبشر بتصنيع مصر، وتسليحها بجيش قوي، وتأميم قناة السويس. كل المفاهيم التي بنت عليها الثورة برنامجها، أخذت من هذا المشروع الذي شارك فيه أقطاب الفكر اليميني واليساري، شارك فيه سيد قطب بكتابه "العدالة الاجتماعية في الإسلام"، شارك فيه خالد محمد خالد و"من هنا نبدأ"، القوي الوطنية المصرية، الإخوان والشيوعيون وغيرهم، كان لديهم مشروع.
الانقلاب علي المجتمع القديم، أخذ الضباط هذا المشروع الذي لم يكن مكتوبا ًكوثيقة، ترجموه إلي أفكار وطبقوه بطريقتهم. ما الذي بقي من ثورة يوليو. بقي الكثير في الحقيقة. لقد حرثت التربة الاجتماعية في مصر، أعادت صياغة الطبقات، لأنها فكت الحصار عن الطبقة الوسطي التي كانت محاصرة في العهد الملكي، طبقة الأفنديات، أبناء ثورة 1919 م، في تشكيل الوزارات المصرية كنت تجد فلان الفلاني باشا، فلان الفلاني بك، مع الثورة دخل الأفنديات الوزارة. أول وزارة في الثورة دخلها نجيب الغرابلي أفندي. اقرأ نجيب محفوظ في "القاهرة الجديدة"، لتعرف كيف خان خريج الجامعة الذي لم يجد وظيفة مبادئه وأصبح مجرد ذيلاً لأحد الباكوات الذي استغل زوجته. الطبقة الوسطي تحررت أيام عبدالناصر، أذكر أن خطة البعثات، الأولي أو الثانية، كانت تضم 5000 آلاف مبعوث للخارج من أبناء العمال والفلاحين الذين أصبحوا أساتذة جامعة.
لكن الثوار أصبحوا باشوات العصر الجديد، هربوا من طبقاتهم وتنكروا للفقراء.
- هذه إشاعات كاذبة، روج لها أعداء الثورة، روج لها الرجل الذي كتب "باشوات وسوبر باشوات" هذا الرجل..
حسين مؤنس؟
- استفاد من الثورة ثم انقلب عليها .
الواقع الآن يقول إنه لا شيء قد بقي من الثورة؟
- يا رجل يكفي أن المواطن، لأول مرة، شعر أنه مواطن مع ثورة يوليو.
أسألك عن الحاضر، ولست من أعداء الثورة بالمناسبة، أنا مدين لها بتعليمي.
ولكنني غير آمن. ولدت في عصر عبد الناصر، الذي أقدر نواياه لبناء وطن، إن كانت الأوطان تبني بالنوايا الطيبة. كان الرجل يرتب الأثاث، بينما البيت يحترق، كما يقولون. وتربيت في عصر السادات، كانت رياح الانفتاح قد بدأت تهب عشوائية ومدمرة، والآن انهار من حولي كل شيء، بينما توقعت أن أعثر علي المستقبل. محجوب عبدالدايم هو ما بقي يا أستاذ سيد.
السادات أراد أن يزحزح الأوضاع المتكلسة، أراد أن يغير الاقتصاد الاشتراكي الجامد، ارتكب أخطاء جسيمة بالانفتاح، لكنه لم يتنكر للفقراء.
ولما انتهي يسين من كلامه قلت: بما أنه لم يعد لدينا ما نقوله عن هذه النقطة، أو ما نختلف عليه، دعنا نكمل في جلسة أخري. وأكملنا في 14 يوليو ما بدأناه قبل ذلك، علي القول إن مساحة وقد بدأت تنشأ بيننا. تخففنا من غربة العلاقات الجديدة وصار لدي كل منا الرغبة في مغادرة المياه الضحلة. كان يسين بداخل نفسه الآن أكثر بساطة وحضورًا، إلا أنني طلبت منه أن نجرب مكانًا آخر غير مكتبه بالأهرام، وفيما يفكر في مكان بديل سألته: ما الأشياء التي كانت تلهب الشعور العام، أيام شبابك؟
- كانت الفترة من 1945م إلي 1952م، هي مرحلة نقد النظام القديم. كانت هناك مشكلتان: المشكلة الوطنية، الجلاء، والمشكلة الاجتماعية أو سد الفجوة بين الأغنياء والفقراء. اشتد نقد المثقفين في هذه الفترة للنظام القديم مطالبين بنظام جديد. كانت هناك دعاوي مختلفة.. كان هناك الشيوعيون والحزب الاشتراكي والإخوان المسلمون وحزب الوفد، حزب الأغلبية الذي أقصي عن الساحة بحكم تآمر القصر والإنجليز وأحزاب الأقلية. كما علت نبرة النقد الاجتماعي. كان هناك احساس عام بالتهاوي. وأن النظام القديم يسقط، لكن الرؤية كانت غائمة. كنا نحس بأن نظامًا جديدًا يتشكل في رحم الغيب ولكننا لم نكن نعرف ما هو بالضبط وما ملامحه. كانت هناك قيم ومطالب ملحة.. مسألة العدالة الاجتماعية، الاستقلال، حرية مصر، عروبتها، كل ذلك كان يشغل الرأي العام ويثير حماسته علي أيامي. ولدي قيام الثورة تبنت أغلب هذه المطالب ولكن نفذتها بطريقتها. ضع سطرا ًتحت ذلك. الثورة ركزت علي بعد العدالة الاجتماعية وتجاهلت الحريات السياسية بالمعني البرجوازي للكلمة، علي أساس أن هذه الحريات كانت جزءًا من الليبرالية السياسية التي كانت ترفضها، باعتبار أنها قد تؤدي إلي الأحزاب والأحزاب بدورها قد تكون رجعية، أو ضد المصلحة الوطنية، من هنا أصبح التنظيم السياسي الوحيد هو المتحكم. انتقلنا من هيئة التحرير إلي الاتحاد القومي إلي الاتحاد الاشتراكي. أعلنت الاشتراكية كأيديولوجية. وكانت هذه الفترة خصبة جدا ًمن 1952 إلي 1967، مرحلة صعود وسقوط المشروع الناصري.
أريد أن أسألك عن "المثقف" كيف يخون دوره، عندما يفصل القوانين علي مقاس الحاكم. أسألك وفي ذهني السنهوري وغيره. ثم إن خطأ ثورة يوليو القاتل اعتقادها أنها تحرك عجلة التاريخ من البداية. اعتبرت أن تاريخ مصر يبدأ بها!
- السنهوري وكان معه مستشار مجلس الدولة.. ناسي اسمه.
سليمان حافظ.
- هؤلاء هم الذين رتبوا الوضع الدستوري الجديد. كان سليمان ضد الأحزاب، وبالذات حزب الوفد. السنهوري مشرع وقاض عظيم. كان لمجلس الدولة بقيادته دور تاريخي في الدفاع عن الحريات العامة قبل ثورة يوليو. بعد ذلك فرضت الثورة هيمنتها علي مرافق الدولة وظل الصراع بينها وبين القضاء فترة طويلة إلي أن تم في عهد نصير ما عرف أيامها بمذبحة القضاء.
1968؟
- كانت المشكلة هي..كيف يمكن التوفيق بين الشرعية القانونية المستمدة من القانون المدني التقليدي وبين الشرعية الثورية، الأولي تقول إن العقد شريعة المتعاقدين، بينما تريد الثورة أن تؤمم وأن تصادر، إذن كان هناك صراع بين الشرعيتين، وقد انحاز بعض القضاة إلي الشرعية الثورية والبعض رفض. كانت هناك بلبلة لم يستقر معها النظام القانوني، لكني لا أسمي ما حدث خيانة. الأصل أن اتجاهات القضاة السياسية لا تؤثر علي أحكامهم. وفي عملية إصدار الأحكام sentenceing، هناك عوامل موضوعية وذاتية تؤثر علي القاضي. وقد رأينا أن بعض القضاة ذوي الاتجاه الإسلامي حكموا أحكاما ًغير مستمدة من القانون بالضرورة، لكنها مستمدة من أيديولوجيتهم.
أعطني مثلاً.
- نصر حامد أبو زيد وتطليقه من زوجته . هذا حكم مضاد للقانون ومضاد للشريعة الإسلامية نفسها، لأنه لا يجوز الحكم بالارتداد علي شخص يقول لا إله إلا الله، إنما نكاية في نصر الذي قدم تفسيرات مستحدثة للقرآن عوقب بهذا الحكم. هذه حالة بارزة من حالات تأثير الأيديولوجية السياسية للقاضي علي أحكامه. والخطورة الحقيقية عندما تصل المسألة لمحكمة النقض! إذن فالأصل ألا يحكم القاضي وفق هواه.
ولا وفق هوي الثورة؟
- ولا وفق هوي الثورة، ولذلك عندما خرج قانون الإصلاح الزراعي، كانت هناك لجان لتفسيره، بعض المستشارين ممن ينتمون لطبقة الملاك، فخربوا القانون بتفسيره لحساب طبقتهم علي حساب الفلاحين!
سألتك عن ثورة يوليو التي اعتبرت نفسها بداية لكل شيء، لاغية كل الميراث التاريخي.
- الثورة كانت تريد تأسيس شرعية جديدة، ولهذا أرادت أن تدين الحكم الملكي إدانة مطلقة، حتي موقفها من ثورة 1919 كان سلبيا ً، بدعوي أن سعد زغلول ركب موجة الثورة. أنا أعتقد أن ثورة يوليو تطرفت في عملية تأسيس شرعيتها الجديدة، لأنها لم تعترف، كما ينبغي، بإنجازات الفكر الليبرالي، وبالغت في تضخيم السلبيات، ركزت علي الفساد وعلي السيطرة علي الجيش.. إلخ، حصل أن انعقد المجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب، تخيل أن كمال الدين حسين كان يرأس الجلسة بينما طه حسين إلي جواره، هذه صورة رمزية تدلك علي التجاهل الذي كانت تمارسه الثورة للإرث الليبرالي. كان يشرف الثورة أكثر لو أن طه حسين كان هو رئيس هذا المجلس! لا تنس أن الثورة ألغت الأحزاب السياسية عام 1954 ومعني ذلك أنها قضت علي طبقة سياسية كاملة بضربة واحدة.
يقال .. إن ضرورة الثورات، في مراحل معينة من التاريخ الإنساني، تنشأ عند الحاجة إلي تغيير العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بعد إصابتها بالتلف. تماما ًكما نجري للجسد عملية جراحية لازمة لسلامته، ثم تنتقل الثورات إلي مرحلة الاستقرار، حيث يترك نظامها الجديد ينمو ويتطور بشكل طبيعي. في ظنك..هل حدث هذا مع ثورة يوليو؟!
- بكل أسف لم يحدث
نعود إلي الشك، كابد الإمام الغزالي الشك، ولم يجد له قاعا ً. إلي أين يمكن أن يقف الشك بالعقل. إننا كلما اطمأننا إلي إجابة، إذا بها سؤال.
- الشك يتعلق بمرحلة التكوين، مرحلة افتراق الطرق، حيث الخيارات والاتجاهات مختلفة، خاصة إذا كانت لديك نزعة نقدية، هذه النزعة تجعلك تشك في مسلماتك، وأعمق شكوكك تلك التي تخص الدين. وقد ألمّ بي طائف من الشك في وجود الخالق، كنت أتساءل..لو كان موجودا ً، إذن فلم هذا العذاب الذي يحيق بالبشر؟! ما المنطق من وراء ذلك؟! .ثم مسألة الاختيار هذه.. هل نحن مخيرون أو مسيرون، كانت فترة الأسئلة القلقة.
ما الذي دلك علي وجود الله، العقل أم القلب أم التجربة؟
- العقل، لأن القلب قد يقودك إلي الإيمان. وقد أردت أن أستخلص لنفسي معيارًا أرتكن إليه في حسم هذه البلبلة، قلت: إن العلم يقوم علي الشك والدين يقوم علي اليقين، بمعني أنه إذا كان لديك اليقين فأنت تؤمن بكل ما جاء في الدين، والعلم لا يقبل ذلك. الإيمان صفقة واحدة غير قابلة للتجزئة. إما أن تقبل كل شيء أو ترفض كل شيء. في موضوع الشك واليقين ليست هناك نقطة ثابتة يمكنك الوقوف عندها. قد تكون في قلب اليقين وينتابك الشك، وقد تكون وسط الشك وتتسلل إليك برودة اليقين.
هل هناك يقين لا شك بعده؟
- لدي البعض من المتطرفين يقين خالص، الإيمان المطلق بشيء هو، في رأيي، تطرف. ليست هناك قيمة مطلقة، الإيمان المطلق بقيمة ما ضد الحقيقة، الحقيقة نسبية ولا يمكن الوصول إليها باحتكارها، أو بالتعصب لما نعرفه ونعتنقه.
ما الحادثة المباشرة التي دعتك إلي الشك في وجود الله، أو التأكد من وجوده.
- أنا دخلت "الإخوان المسلمين" من باب العدالة الاجتماعية، كان الفقر يؤرقني، لم أكن أفهم.. لماذا هذا التفاوت الطبقي، وفي محاولة للبحث عن إجابة دخلت الإخوان، فوجدت الحلول التي يقدمونها حلولا ًدينية تقليدية، يقولون إن الأرزاق توزع حسب إرادة الله سبحانه وتعالي وخلل التوزيع يحل عن طريق الزكاة! كانت الزكاة توضع في بيت الرسول، ومرة أراد أحد أبنائه أخذ تمرة من تمر الزكاة فنهره الرسول وقال له: هذا نتن الناس. بمعني أن الناس يزكون بأسوأ ما عندهم. لقد هزني هذا الحديث، وفكرت: إذا كان هذا هو كلام الرسول فإن الزكاة لا تصلح كآلية، لأن الزكاة معناها أن أحداً له اليد العليا upper hand والآخر له اليد الدنيا، وليست هذه هي العدالة التي كنت أظنها وأحلم بها. وكانت النتيجة التي توصلت إليها أن الدولة مسئولة عن المواطن ولا ينبغي للمواطن أن يمد يده! هذا اعتداء علي كرامته الإنسانية. هذا ما جعلني أشك أن الزكاة يمكن أن تحقق العدالة الاجتماعية! ولذلك انجذبت إلي الماركسية، لأنها تقدم نظرية عن تفسير التفاوت..عن توزيع الثروة، الصراع الطبقي، الاستغلال..إلخ، كانت هذه النظرية أقرب إلي إقناعي من الزكاة.
ولكن هذا لا يجيب عن سؤالي عن وجود الله. ما الذي كان يدفعك للبحث عنه..هل أفهم من كلامك أن هذا التفاوت في الأرزاق كان باعثاً للتفكير عن علة له؟
- عذاب البشر، كما قلت لك. استغلال الأقوياء للضعفاء بشكل منهجي عبر التاريخ. قلت، إذا كان الله موجوداً، لماذا يسمح بشيء كهذا! هو كلي القدرة. فلماذا يترك الظالمين يعيثون فساداً في الأرض. بينما ينال الفقراء والمستضعفون حقهم في الجنة. بعد الموت. كانت هذه الأسئلة تدفعني للبحث عن الله.. إذا كان قادراً، فلماذا لا يقضي بضربة واحدة علي ..
علي الأشرار؟
- علي الأشرار والمفسدين.
ألا يبطل ذلك عمل الإرادة والاختيار؟
- كلامك صحيح، لأن العقاب والثواب بهذه الطريقة سيجعل الجنة علي الأرض. في السجال بين الخير والشر يكمن في الاختيار. ولولا هذا ما أصبح للحياة معني ولا مذاق. إنك تكافح، لتصل إلي نفسك، عبر هذا الصراع.
وكيف وصلت إلي الله.. سؤالي ما زال مطروحًا. بالحدس أم بالبصيرة أم بالعلم؟
- لم يكن للعلم دخل بذلك. نوع من الحدس كما تقول. شيء قريب من وحدة الوجود. أن الله في عباءتي بتعبير أحد المتصوفة. كنت، وما زلت أشعر، بأن الله قريب مني، هناك عمار بيني وبينه. وحين أكون في مأزق، هو، لا أحد غيره، يخرجني منه ولو بعد حين.
هذا الجدل دائم في قلبي عن الله.. أتصور أن كل لحظة إما تبعدنا عنه أو تقربنا منه. وقد لخص موقف أحدهم شكي، حين سأله سائل عن الله، قال له: ألم تركب البحر، قال: بلي، فسأله: ألم توشك علي الغرق وانقطع رجاؤك إلا من شيء تشعر أنه أكبر منك ومن البشر وأنه وحده القادر علي إنقاذك، قال: بلي، قال: فذلك هو الله. إننا لا نحتاج إلا إلي النظر في أنفسنا لنجد الله. وقد هدتني التجربة، مع كازنتزاكس، إلي أن الله رعشة ودمعة لطيفة. قد يتراسل هذا مع تجربتك. قل أما زلت تستدفئ بوجوده؟
- بالذات في أوقات الشدة، عندما تستغلق عليك الأمور ولا يكون هناك ملجأ، وقتها تنفتح لك كوة علي غير توقع. بالحدس أقول إن معني هذه الكوة نوع من المكافأة علي تعاطفي مع البشر. انقاذ، أيا ًكانت الأزمة، فقد عزيز كالزوجة أو الابن.. إلخ . إنها تعيدك إلي الحياة بعد أن تكون قد يئست من أن تمتد إليك يد.
هل الدين يبدأ من اليأس؟
- لا، الدين لا بداية له ولا نهاية، الشعور الديني يولد ويموت معك .
الدين بمعني الاعتقاد الواثق؟
- الدين أوسع من هذا. الدين ليس مجرد اعتقاد عقلي أو وثوق أو يقين. الدين منظومة كاملة.
هل تعتبر نفسك متدينًا؟
- ليس بالمعني الطقوسي، ولكنني متدين بالمعني الفلسفي للكلمة. التدين بالنسبة لي ليس أداء الصلوات أو صوم رمضان..إلخ. التدين طريقة التعامل مع البشر. وفق نسق قيمي صارم ودقيق، يقوم علي الإخلاص في العمل والنزاهة والموضوعية وحب الناس.
يقال إن وراء العالم الطبيعي جانبا ًيستحيل علي الإنسان معرفته؟
- طبعًا. خذ مثلاً ما يقال عن الحياة بعد الموت، هناك مذاهب شتي في تفسير صورة العالم بعد الموت، أو صور العذاب أو نعيم الجنة. بالطبع هناك أشياء يؤمن بها العامة لا الخاصة، أي استواء الله علي العرش وغيرها. ليس معناها أن الله جلس علي الكرسي. هذه أوصاف رمزية في التعبير عن هذا العالم غير المرئي لنا. هناك عوالم يستحيل علينا إدراكها.
هل قرأت "في ظلال القرآن" لسيد قطب بحكم أنك كنت إخوانيا؟
- هناك فرق بين التفسير والتأويل، الخطورة في التأويل. التفسير العلمي أقرب ما يكون للمادة المجموعة، بينما خطورة التأويل تنبع من دس الهوي الشخصي في تفسير المادة. حيث تقرأ التأويل المسيحي أو الماركسي أو الإسلامي للتاريخ. هنا الخطورة أن تجر المادة إلي حيث تريد. وكأن رأيك أو ختمك هو الحقيقة المطلقة، نافيا ًبقية التفسيرات. فالانحراف يحدث عادة في التأويل. كأن يؤول جماعة الجهاد أو غيرهم آية من الآيات ليستحلوا بها أموال الأقباط. أو تسول لهم قتل المسلمين. هذا كلام خطير. التفسير أكثر إخلاصا ً، فيما أظن، من التأويل. لأنه يترك لك مجال الاستنتاج. اتركني استنتج ما أشاء من النص. كيف يقع معني النص في قلبي وفي عقلي. اتركني اتلقي رسالة النص بطريقتي. لا تجرني وراء تأويلك، ولذلك في محاولتي لفهم هؤلاء كتبت دراسة عن "إشكالية القياس الخاطئ والتأويل المنحرف"، التأويل من أخطر ما يمكن. أن تقول لي.. والله فلوس البنوك دي ربا. قياس خاطئ. الآية دي معناها قتال من لم يسلم بعد البعثة المحمدية. هذا ما يدعيه د. فضل، مفتي الجماعات الإسلامية في كتابه "العمدة في إعداد العدة"، كل الجماعات الإرهابية اعتمدت علي هذه الآلية، وقد أدي ذلك إلي انحراف شديد في تفسير القرآن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.