أسمع كثيرا جدا عن تطوير مناهج التعليم وأبتسم. لأن الغائب دائما في تطوير التعليم هو الروح والمتعة. أما المتعة فغيابها يتجسد في عدم وجود جماعات فنية وثقافية في المدارس كما كان الأمر علي ايامنا . وإذا وجدت فعلي استحياء ، وليس في كل المدارس . وسأضرب لكم مثلا واحدا علي المتعة زمان .كنت تلميذا في مدرسة حكومية هي مدرسة القباري الابتدائية بالاسكندرية . وكان للمدرسة رحلة شهرية يصحبنا فيها المدرسون الي احدي سينمات الدرجة الاولي نظير اشتراك رمزي جدا لم يكن يزيد علي ثلاثة قروش في ذلك الوقت . وكانت السينما غالبا هي سينما فريال التي تحمل اسم الاميرة فريال والتي ظلت تحمله حتي الآن ، تصور انت تلميذاً في الثامنة أو التاسعة من عمره يري امامه احمد رمزي وعبد الحليم حافظ وعمر الشريف وفريد شوقي وفاتن حمامة وشادية ومريم فخر الدين وغيرهم من ابطال وبطلات ذلك العصر .. تصور كم المتعة التي تمشي في روحه وكيف سيظل هو وزملاؤه يتحدثون عما جري في الفيلم حتي يروا فيلما آخر . في المدرسة الاعدادية صارت المتعة اكبر . فجوار رحلة السينما الشهرية كانت المدرسة احيانا تعرض فيلما لنا في قاعة الأشغال والرسم التي كانت كبيرة جدا . ولم تكن السينما وحدها بل كانت هناك الجماعات التي أشرت اليها . جماعة للموسيقي وجماعة للبلاغة وجماعة للكشافة أو الجوالة وجماعة للرسم .. وكان الاحتفال بعيد العلم مقدسا كل عام توزع فيه الهدايا علي الطلاب المتفوقين وكانت الهدايا كتبا .. ولا انسي وأنا في السنة الاولي الاعدادية وفي أحد الاحتفالات أعطوني أنا المتفوق أول الفصل أربعة كتب . جزءان من كتاب المنتخب من ادب العرب الذي كتب مقالاته وابحاثه طه حسين وآخرون وجزءان من مجلة المقتطف التي كانت علمية وفلسفية . كانت المدرسة حكومية ايضا وكانت هي مدرسة طاهر بك الاعدادية بالورديان . كنت في السنة الاولي الاعدادية ولم اكمل الثانية عشرة بعد وذهبت إلي البيت اتصفح الهدايا لتقابلني مقالات وابحاث عن المعري وطرفة بن العبد وامرئ القيس وعنترة وغيرهم في كتاب المنتخب واسماء مثل داروين ونيتشه وماركس وفرويد في مجلة المقتطف . لم يكن من السهل علي أن افهم شيئا ولكني اكتشف ان العالم اوسع مما حولي . اوسع مما ادرس.. فاخذت طريقي الي المكتبة لأزداد علما واحببت القراءة . .الي جانب هذه الجماعات كانت هناك الرياضة بكل اشكالها بدءا من الجمباز حتي كرة القدم مرورا طبعا بالسلة والكرة الطائرة . هذا ما اقصده بالمتعة والروح . واذا مشيت فيه فسأتحدث عن كثير من مظاهره الاخري وعلي رأسها زيارة المتاحف . لم تكن فيما ندرسه أي دروس كبيرة عن السينما وتاريخها ولا عن المسرح وتاريخه وكان هذا نقصا شديدا في العملية التعليمية ولكن كنا نمارسه في الجماعات والرحلات التي اشرت اليها . كانت مثلا القصة المقررة علينا في اللغة الانجليزية هي رحلات جاليفر للكاتب الانجليزي جوناثان سويفت والصدفة جعلت سينما ستراند بالاسكندرية طبعا تعرض فيلما مأخوذا عن الرواية فقسمتنا المدرسة الاعدادية الي جماعات تري الفيلم في السينما بتخفيضات . صارت قراءتنا للقصة سهلة . اعرف الآن ان هذا كله في عصر الميديا والانترنت صار سهلا . وربما لا تحتاج المدارس اليه لكن الاحتفال الجماعي يختلف عن الرؤية المنفردة . كانت المتعة في الذهاب الجماعي لا تقل عن متعة المشاهدة . وهذا لا يحدث الآن .وكما قلت كانت الكتب خالية من الدروس المناسبة عن الفن وكان هذا عيبا يخفف منه اننا نمارسه . وللاسف هذا العيب موجود حتي الان . لا يوجد في مناهج التعليم دروس ضافية عن تاريخ السينما ولا المسرح ولا الفن التشكيلي ولا اي نوع من الفنون . وبالطبع تطورها في التاريخ . والآن بعد ان زادت رحلتنا عن هذه الفنون علي مائة عام لا تجد درسا عن فاتن حمامة او فريد شوقي او زكي رستم أو محمود المليجي او من تشاء . فهذا كله صار حراما لا تتحدث فيه مناهج التعليم ولا تمارسه .ولن اطمع في تاريخ هذه الفنون في العالم. التاريخ الذي يدرس في المدارس هو التاريخ السياسي وهو في الغالب تاريخ الحكام والحروب .كأن الحياة تمضي بلاروح .ولن اتحدث عن الرياضة بعد ان تحولت معظم الأفنية الي فصول وتكاد تنعدم الرياضة .تربية الروح تبدأ من السنين الاولي للطفل وبدون هذه الروح يتحول التلميذ الي آلة صماء تحفظ ويمضي في التعليم مكتئبا مضطربا ان يختل مجموعه فيختل توازنه . الفنون والآداب تعلم الناس الحرية دون كلمة واحدة عن الحرية والديمقراطية وتعطينا انسانا سويا. القراءة في الآداب ومشاهدة الفنون تعطي التلميذ طاقة روحية يستعين بها علي العلوم البحتة والجماعات الادبية والفنية تطلق الروح من عقالها الي آفاق اكبر . لن يصدقني احد اذا قلت اني رغم غرامي بالاداب والفنون في وقت مبكر كنت طالبا متقدما جدا في الميكانيكا والتفاضل والتكامل حتي إنني اشتغلت بتدريس الرياضة فترة . وبعد سنوات طويلة جدا كان ابني يدرس الرياضة الحديثة في المرحلة الاعدادية وهي رياضة لم ادرسها انا ابدا وقمت بتدريسها له ونال فيها درجة كبيرة . بل وفي الثانوية العامة كانت الدروس الخصوصية تقريبا في كل المواد وقبل الامتحان بأسبوع اكتشفنا اننا نسينا ان نخصص له مدرسا في مادة الإحصاء ولم يكن هناك وقت فقمت بتدريسها له في اسبوع واحد ونال فيها درجة اعلي من درجاته في المواد الرياضية الاخري . عملية تعليمية بلا متعة ولا روح لا فائدة منها .وسنظل ندور في دائرة مفرغة . لا تنمية ولا ارتقاء للعقل دون ارتقاء بالروح . وأنتم أحرار.