إن محاولة البعض خلق هوة بين مفهوم العقل عند العرب وبين مفهوم العقل عند الغرب استنادا في ذلك إلي دلالة كلمة (عقل) الواردة في المعاجم العربية، ثم الذهاب بهذا المعني مذهبا بعيدا عن المقصد الحقيقي للدلالة، أو التأكيد علي رؤية أن مفهوم الدلالة نفسه هو السبب في تأخر العرب فكريا وثقافيا وسياسيا لتحقير العقل العربي والتقليل من شأنه، وإحداث قطيعة بين العرب وبين لسانهم (لغتهم) الأم. إن هذا الكلام به بعض الحقيقة وكثير من المغالطات، ومن المغالطات الكبيرة اختزال مفهوم العقل عند العرب في المعني (ربط) وكفي، دون التحليل العلمي الحقيقي لهذه الدلالة. أولا: أصل دلالة الفعل (عقل) كما جاء في اللسان العربي وكما ذكره ابن فارس في معجم مقاييس اللغة هو (حُبْسَة في الشيء أو ما يقارب الحُبْسَة) إذن العقل هو حبسه في الشيء أو قيد فيه، ولكن الوقوف علي هذا المفهوم المجتزأ الناقص هل هو بالفعل المعني الحقيقي للعقل عند العرب كما يري البعض؟، كلا، فليس الحبس في الشيء أو تقييده هو لمجرد الحبس أو التقييد كما يحلو للبعض تصويره سواء عن سوء نية أو حسن نية، فقول العرب (عقلت الدابة) ليس لمجرد حبسها وتقييدها كما يظن البعض، إنما عقل وحبس وتقييد الشيء هو نتيجة إدراك حدوث ما لا يحمد عقباه لولا الحبس أو التقييد. إن ترك ربط وتقييد الدابة وإهمال حبسها سيؤدي حتما إلي فقدانها أو تسببها في إلحاق الضرر للغير مما يعود حتما بالضرر عليها وعلي صاحبها، إذن فالعقل في المفهوم العربي هو ليس مجرد الحبس للحبس أو الربط للربط، أو التقييد للتقييد، وإنما العقل هو الحبس والربط نتيجة الإدراك لنتائج العلاقة بين عدم عقل الدابة وإلحاق الضرر بالآخرين ومن ثم عودة الضرر علي الدابة وعلي صاحبها، إذن فالعقل في المفهوم العربي هو الحبس أو الربط نتيجة إدراك واكتشاف علاقة بين الأشياء ينشأ علي أثرها تشكيل علاقة جديدة يكون هدفها جلب النفع ودفع الضرر عن النفس وعن الآخرين. وبإيضاح أكثر يمكن القول إن معني العقل في اللسان العربي هو نتيجة لإدراك العلاقة بين الأشياء، وليس سابقا علي الإدراك، كما يريد أن يصور البعض ذلك من خلال مفهومه الضيق والقاصر لمعني العقل في اللسان العربي، بمعني أن الإدراك له السبق علي العقل الذي بمعني القيد أو الحبس، والعقل الذي بمعني الحبس أو القيد يأتي في المرتبة الثانية بعد الإدراك ويأتي في صورة النتيجة الجديدة التي تشكلت من خلال إدراك العلاقات بين الأشياء بعد إدراك مدي ضررها ومدي نفعها، ويظهر هذا جليا من قول العرب (عقلت الدابة) فهو لم يعقل الدابة ليدرك مدي الضرر أو مدي النفع بعد حبسها وتقييدها، كلا، إنما عقلها وحبسها نتيجة لإدراك مسبق لمدي ضررها ومدي نفعها، وبناء علي هذا الإدراك الذي كشف عن علاقة جديدة لعدم ربط الدابة وهي حدوث الضرر المحقق الذي قد يلحق بها وبصاحبها وبالآخرين، فنتيجة لهذا الإدراك المسبق قام بعقلها وتقييدها وحبسها، بمعني أن العقل هو نهاية مطاف ونتيجة إدراك العلاقات بين الأشياء، وليس سابقا علي الإدراك. وبعبارة أخري نقول إن المعني والمفهوم اللساني العربي للعقل يحتوي ليس علي إدراك العلاقة بين الأشياء فقط بل يرتبط كذلك ارتباطا وثيقا بإدراك مدي الضرر والنفع الناتج عن علاقات الأشياء ببعضها بعد إدراك حقيقتها، وهذه الدلالة بهذا المفهوم هي دلالة تحوي جانبا قيميا وانضباطيا كبيرا، ألا وهو أخذ مصلحة النفس ومصلحة الآخرين ومصلحة الأشياء بعين الاعتبار، وذلك بإدراك مدي الضرر ومدي النفع الناتج عن هذه العملية، وهذا ما يتميز به مفهوم العقل في اللسان العربي عنه في الفكر الغربي، الذي هو مجرد السعي والإدراك المتحرر من القيم، والأنانية غير المنضبطة والتي لا تقيم وزنا للآخرين أو للأشياء، دون أدني اعتبار للأضرار أو المنافع التي قد تلحق بالنفس وبالأشياء وبالآخرين. (للحديث بقية)