هذه سلسلة من المقالات حول العقل العربي والعقل الغربي، نحاول فيها أن نلقي الضوء علي مفهوم العقل في الثقافة العربية ومفهوم العقل في الثقافة الغربية، وهل من فارق ما في معاني ومفاهيم العقل عند العرب وعند الغربيين، جعلت تلك المفاهيم من العرب في هذه الحال من التأخر والتخلف علي جميع المستويات، بينما مفاهيم العقل عند الغرب - كما يري البعض - كان لها الأثر البالغ فيما وصل إليه الغرب من تقدم وحضارة، أم أن الأمر له علاقة بالمكونات والمنطلقات الفكرية لذلك العقل لدي الجانبين، وفي هذه الحالة هل يمكن القول بأن المكونات والمنطلقات الفكرية لدي الجانبين كان لهما أثرهما البالغ في وضعية كلا الجانبين؟، وهل تلك المنطلقات والمكونات الفكرية لها مساوئ ما لدي العرب ولدي الغربيين؟، كل هذا وغيره من المحاور سنتناوله بالشرح والتفصيل فيما يأتي من مقالات. بداية نحن نعاني في العالم العربي والإسلامي من أزمة عدم تحديد المصطلحات وضبابيتها، هذه الأزمة كان لها أثرها السيئ والبالغ علي بعثرة المفاهيم وخطأ الحكم علي الأشياء ومن ثم بعثرة محاولات الإصلاح الفكري والثقافي والديني والاجتماعي في العالم العربي والإسلامي، فمن الآثار السيئة لعدم تحديد المصطلحات أننا نطلق علي عملية التفكير التي تحدث في دماغ الإنسان مسمي «العقل» وكذلك يعتقد كثير من الناس أن العقل هو المخ الموجود داخل جمجمة الإنسان وهذا غير صحيح، ولا يتفق مع الدلالة الحقيقية للفعل «عقل» كما وردت في كلام العرب مما جعل الناس يخلطون خلطا قبيحا بين وظيفة التفكير ووظيفة العقل، ولكن نزولا علي المفاهيم الدارجة بين الناس سوف يكون استخدامي لمصطلح العقل في هذه السلسلة من المقالات بمفهومه السائد ألا وهو التفكير حتي يتسني للقارئ إدراك مغزي محاور الموضوع بشكل جيد. لن نخوض في ماهية العقل «عملية التفكير» ولا ماهية كنهه، فالبحث في ماهية العقل «آلية عملية التفكير» ليس وراءه كثير جدوي، فقد بذل الفلاسفة والعلماء والمفكرون والحكماء جهودا مضنية طول التاريخ البشري وعرضوا لمعرفة ماهية وذات العقل فلم يصلوا أو يتفقوا علي حقيقة واحدة لماهية العقل وكنهه، وإن ما خلص إليه الجميع رغم اختلافاتهم حول ماهية العقل أدي إلي حقيقة واحدة ألا وهي: «العقل غيب محض»، فقد عجز البشر عن إدراك كنهه، ومما يؤكد ذلك، التباين الواضح بين الفلاسفة والمفكرين في مفاهيمهم وتعاريفهم للعقل، وليس ذلك قاصرا علي طائفة من المفكرين دون أخري أو حضارة دون أخري أو فكر دون آخر، بل عجزت البشرية في ماضيها وحاضرها علي اختلاف أفكارها وفلسفاتها وأديانها وتواجدها عن التوصل لذات العقل وكنه ماهيته، وبالتالي فإن تتبع ماهية العقل ومحاولة كشف كنهه هي تبديد للطاقات الفكرية فيما لا طائل من ورائه. فما يهمنا في الأمر هو المكونات والمنطلقات الفكرية للعقل، وما يقوم العقل بإنتاجه من أفكار يكون لها الأثر البالغ علي تشكيل وعي الأمم الذي بدوره يقود الأمم إما إلي الحضارة والتقدم، وإما إلي التخلف والتقهقر، فشئنا أم أبينا كل ما يصدر عن الإنسان من سلوك وأعمال وحركة في هذه الحياة هو نتيجة حتمية لما يحمل من أفكار ومعتقدات وتعاليم تترسخ في نفسه، فمتي صلحت الأفكار والمعتقدات والتعاليم واتسقت وتوازنت وانفتحت صلح السلوك وتوازنت الأعمال وانفتحت حركة الحياة، ومتي فسدت الأفكار والمعتقدات والتعاليم التي ترسخ في نفسه وتناقضت وانغلقت فسد السلوك وتناقضت الأعمال وركدت حركة الحياة، ومن هنا تبرز أهمية العناية بمكونات العقل ومنطلقاته الفكرية وأهمية مراجعتها واختبارها كل حين للوقوف علي ما قد تحتوي عليه تلك المكونات والمنطلقات من خلل وتناقض وتابوهات تقيد الفكر وتحصره وتقصره علي معتقدات بعينها أو تعاليم وأفكار بعينها قد تعوق الإنسان وتحجبه عن المشاركة في تطوير أوضاع حياته وحياة من حوله، ومن ثم نقل أوضاعه إلي الأحسن والأفضل، ومن دون هذا النقد والمراجعة المستمرين والمتتابعين والدوريين لمكونات العقل سيبقي الإنسان حيث هو دون حراك، فتفسد حياته وتنتقل شئونه بأكملها من سييء إلي أسوأ. ومن قيد إلي قيد، ومن الحياة إلي الموت والفناء. «للحديث بقية»