جابر عصفور يكشف بجلاء ووضوح عن المعالم الرئيسية لمنهجه في النقد الثقافي. ثقافة التخلف بجمودها تشجع علي التبرير وتدفع للحفاظ علي الأوضاع القائمة التي تحتاج إلي تغيير جذري كيف يمكن لنا أن نفسر عديدا من الظواهر السلبية السائدة الآن في المجتمع المصري؟ كيف نفسر تدهور القيم؟ وكيف نفسر السلوكيات الاجتماعية الخاطئة والمنحرفة؟ لقد حاولنا عدة مرات في مقالاتنا في الأهرام المسائي وغيرها من الجرائد والدوريات والكتب ممارسة النقد الثقافي لأوضاع المجتمع المصري بخاصة والمجتمع العربي بعامة. وميزة التحليل الثقافي أنه منهج شامل ومترابط, فهو ينظر بصورة نقدية إلي مختلف أنساق المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. لدينا فيما يتعلق بالشق السياسي مشكلة ضرورة التحول الديمقراطي, ونعني بذلك أهمية الانتقال من السلطوية بكل آثارها السلبية علي القيم والسلوك إلي الليبرالية بكل آفاقها المنفتحة, والتي تتيح بغير حدود ولا قيود حرية التفكير وحرية التعبير. وقد لفت نظري أن ناقدا أدبيا كبيرا هو الدكتور جابر عصفور ركز تركيزا شديدا في السنوات الأخيرة علي ممارسة النقد الثقافي, وصدرت له عدة كتب مهمة في هذا المجال أبرزها هوامش علي دفتر التنوير. (1993) وأنوار العقل(1996) و آفاق العصر (1997) وأوراق ثقافية(2003) ومواجهة الإرهاب (2003) والاحتفاء بالقيمة(2004) وأخيرا صدر له كتاب مهم هو نقد ثقافة التخلف الذي استعرنا عنوانه كعنوان لمقالنا. وهو في هذا الكتاب المهم الذي نظمت الهيئة العامة للكتاب ندوة لمناقشته توليت رئاستها وإدارة مناقشاتها وشارك فيها الأستاذ طلعت الشايب, والدكتورة هالة فؤاد. وترد أهمية هذا الكتاب إلي أنه في مختلف فصوله يقدم نقدا شاملا لثقافة التخلف السائدة الآن في المجتمع المصري. وهذه الثقافة تكشف عنها مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. والواقع أن جابر عصفور في مقدمة كتابه والذي هو تجميع لعدد من المقالات التي نشرت عبر فترة من الزمن استطاع أن يؤلف تأليفا خلاقا من أفكاره التي دارت حول ثقافة التخلف لكي يقدم لنا نظرية متكاملة بهذا الصدد زاخرة بعدد من المفاهيم البالغة الأهمية التي تعد مفاتيح أساسية لتفسير الظاهرة. وهو يقرر في المقدمة أن المقالات تهدف إلي المزيد من تحرير عقل الكاتب الذي يؤمن بأن الفهم لكل المفهوم الذي لايتأبي علي وضعه موضع المساءلة والمزيد من الكشف عن كل ما لايزال في حاجة إلي الكشف في تحرير موازاة وتطوير العقل النقدي للقارئ خصوصا الشباب, بما ينفعه إلي وضع أفكار هذا الكتاب وأطروحاته موضع المساءلة. والواقع أن جابر عصفور في هذه العبارات الدقيقة الموجزة يكشف بجلاء ووضوح عن المعالم الرئيسية لمنهجه في النقد الثقافي. فهو أولا يهدف إلي تملك المفاهيم التي يستخدمها بمعني معرفة أصول نشأتها التاريخية والسياق الذي نبعت في ظله والتطورات التي لحقت بها حتي يحرر عقل الكاتب كما يقول. وقد تبدو هذه العبارة غريبة بالنسبة للكثيرين من القراء. فقد يتساءلون كيف يحرر الكاتب عقله وهو في غمار ممارسة تحليله الثقافي لظاهرة من الظواهر؟والإجابة أن تملك المفهوم تعني من بين ما يعنيه تخليص عقل الكاتب من الأفكار التي قد تكون مشوشة حول مفهوم ما, أو المعاني التي يعتقد أن المفهوم يتضمنها, بمعني ذلك أن تحرير المفاهيم مهمة أولي ينبغي علي أي باحث جاد أن يقوم بها لأنها ستكفل له أن ينطلق في بحثه علي أساس من الفهم العميق للظواهر التي يتعرض لها. ولا بأس هنا من أن أضرب مثلا من خبرة شخصية لتوضيح هذه الفكرة المهمة التي يطرحها جابر عصفور ببساطة والتي قد يغمض معناها بالنسبة للكثيرين. في عام1996 بعد عودتي من البعثة العلمية في فرنسا(1964 1967) قررت أن أكتب دراسة مستفيضة عن الإيديولوجيا والتكنولوجيا, نشرت بعد أن أنجزتها في مجلة الكاتب التي كان يرأس تحريرها الأستاذ أحمد عباس صالح رحمه الله وذلك في عددي نوفمبر وديسمبر.1970 ووجدت أنني أحتاج ابتداء أن أحدد بدقة المفاهيم الرئيسية التي ستقوم عليها الدراسة وهي الإيديولوجية من جانب والتكنولوجيا من جانب آخر. وهكذا انغمست قي قراءات متعمقة لكي أوصل كل مفهوم من هذين المفهومين. وقد ظهرت آثار هذه القراءات في الدراسة ذاتها لأني قدمت تعريفات شاملة لمفهوم الإيديولوجية بدءا من تعريف كارل ماركس لها إلي تعريف كارل مانها تم وصولا إلي تعريف الفيلسوف البولندي المعروف آدم شاف. وكذلك فعلت بالنسبة لمفهوم التكنولوجيا وأستطيع أن أقول لو استخدمت عبارة جابر عصفور الدالة أنني فعلا حررت عقلي بهذه القراءات المتعمقة. ومازلت حتي الآن أعتمد علي ما سجلته عام1970 فيما يتعلق بتحديد مفاهيم الإيديولوجية والتكنولوجيا. أما الفكرة الثانية التي يشير إليها عصفور فهي أهمية الكشف في بحث الظواهر عن كل ما لايزال في حاجة إلي الكشف. وهذه العبارة المختصرة تشير إلي أهمية أن يتناول الباحث كل أبعاد الظاهرة محل البحث حتي منها تلك التي قد تكون مخفية تحت السطح, أو مسكوتا عنها خوفا من عواقب كشف سترها أو تشريح جوهرها الحقيقي ونصل أخيرا إلي الفكرة الثالثة وهي أهمية تحرير وتطوير العقل النقدي للقارئ وخصوصا الشباب بما يدفعه إلي وضع الأفكار المختلفة موضع المساءلة. والواقع أن هذه الفكرة التي يطرحها عصفور من أهم الأفكار, لأن التخلف السائد في المجتمع وجد تفسيرا له في سيادة العقل الاتباعي الذي يحرص علي تأسيسه للأسف نظام التعليم المختلف. مع أن النهضة إذا قدر لها أن تقوم لايمكن لها أن تتأسس إلا علي أساس العقل النقدي. وقد حرص عصفور علي أن يشير إلي الإشكاليات الرئيسية التي تثيرها ثقافة التخلف. وقد يكون أهم هذه الإشكاليات قاطبة التحديد الدقيق لمفاهيم التخلف والتقدم. وذلك أن هناك مخاطر من تبني مفاهيم للتقدم قد لا تكون صحيحة تماما وقد تكون زائفة, وقد تصلح لمجتمعات معينة ولاتصلح لمجتمعنا. ومن هنا أهمية التحليل النقدي لمفاهيم التخلف والتقدم. ومما يلفت النظر أن مفهوم التقدم الذي أذاعه مشروع الحداثة الغربي قد سقط تحت ضربات النقد الموجعة التي وجهت إليه, بناء علي دراسة سلبياته البارزة التي ظهرت في أوقات الحرب وفي عصور السلام علي السواء. وهذه الانتقادات التي ربما صاحبت مفهوم التقدم الذي تبناه مشروع الحداثة الغربي قد زادت حدتها بعد ظهور مشروع ما بعد الحداثة مصاحبا لظاهرة العولمة. ذلك أن المفكرين الجدد لما بعد الحداثة طالبوا بإعادة التفكير في مفهوم التقدم القديم وقدموا صياغات جديدة للمفهوم تتفق مع روح العصر. والإشكالية الثانية التي تثيرها ثقافة التخلف هي ظاهرة التخلف السياسي والتي تظهر واضحة في غياب الديمقراطية. وهذا الغياب يؤدي إلي ظهور العنف والعنف المضاد وتبدو الإشكالية الثالثة والتي هي أحد أسباب ثقافة التخلف في الآثار السلبية للبنية البطريركية التي تعني التسلط السياسي والاجتماعي والثقافي سواء للدولة أو للعائلة أو للتقاليد علي مقدرات الناس. وهذه الأبوية التي تأخذ أشكالا شتي تمنع الناس من أن يختاروا مصائرهم بحرية وتغلق أمامهم أبواب الاجتهاد خضوعا لتراث الاستبداد السياسي أو طاعة لتقاليد بالية. والمشكلة أن ثقافة التخلف بجمودها تشجع علي التبرير وتدفع للحفاظ علي الأوضاع القائمة التي تحتاج إلي تغيير جذري ويواصل عصفور تشريحه لثقافة التخلف ويرصد أهم مفرداتها وهي الانكفاء علي ماض متخيل تتهوس به لأن أتباع هذه الثقافة من التيارات الدينية الرجعية يحلمون باستعادة الفردوس المفقود الذي يتمثل في نظرهم في إقامة الدولة الدينية واسترجاع الخلافة الضائعة! أضف إلي ذلك من سمات ثقافة التخلف التعصب للقديم وعدم التسامح مع الجديد وهذا التعصب عادة ما يؤدي إلي التطرف الفكري الذي يقود أصحابه إلي الإرهاب. ومما هو جدير بالذكر أن ثقافة التخلف سادت في ظل الدولة السلطوية التي تقوم علي احتكار السلطة والقوة والثروة لأصبحت المخاطر علي وعي الجماهير بالغة الحدة. ذلك أن القهر السياسي سيرافق في هذه الحالة قهرا فكريا وثقافيا مما يؤدي إلي خنق المبادرات الحرية للجماهير. ثقافة التخلف إذن قد تكون هي المفهوم الذي يستطيع علي أساسه فهم أسباب تدهور القيم وتدني السلوك الاجتماعي في مصر المحروسة!