في القلب من تلك المسألة الحيوية ، وأعني بها قضية الإصلاح الثقافي التي تتقدم كطليعة، وتبادر ممهدة للإصلاح الشامل، وفي توقيت مطلوب، أحب أن أشير وأعرض لكتابين مهمين في هذا الصدد وحول هذه المسألة والمهمة هما كتابا : " نقد الثقافة " للأستاذ الراحل سامي خشبة، و" الرهان علي المستقبل " للدكتور جابر عصفور، والكتابان يطرحان ماله صلة حميمة ومباشرة بهموم وقضايا الإصلاح الثقافي وتجديد الفكر العربي خاصة وأن كلاً من الرجلين كان أحدهما (سامي خشبة)، ومازال الآخر (د . جابر عصفور)- في خضم العمل الثقافي مسئولية ومشاركة وإدارة ، وكلاهما معروف في الأوساط الثقافية والأدبية بالجهد الواضح في الإنجاز النقدي الأدبي والفكري ، وكلاهما صاحب سعي دءوب لدفع العمل الثقافي وتأكيد قيم التعددية والاستنارة ، واحترام حق الاختلاف والاجتهاد في إطار من الفعالية الثقافية الخلاقة وبأساليب الحوار الأكثر تهذيباً وتحضراً. وأحسب أن الكتابين بما ناقشا من قضايا وظواهر في حياتنا الفكرية والأدبية ، وما تضمناه من قراءة واعية للوضع الثقافي العربي الراهن ، وما ميز منهجهما من نزعة نقدية بناءة - أحسبهما بهذا جهدين مشكورين يمكن أن يثريا النقاش حول قضايا الإصلاح ، ويقودا بدورهما إلي طرح العديد من الاقتراحات والبدائل. ومن واقع قناعتي بأن الإصلاح أفعال وممارسات، وأنه تعبير عن نوايا مخلصة وجادة ، ولا يمكن أن نؤمن به، ونتعامل معه إلا من خلال إرادة وإصرار حقيقيين علي التغيير والتحديث، والسعي إليهما بكل قوة ، من هذا المنطق أحاول أن أقف بالقارئ والمتابع لقضايا وسائل الإصلاح علي أهم ما ورد في الكتابين أوهاتين المشاركتين من قضايا وظواهر وأهمها: أولويات الثقافة وضروراتها يتفق كل من جابر عصفور في "رهانه علي المستقبل " وسامي خشبة في " نقده للثقافة "، علي أن الفارق الحاسم بين التقدم والتخلف يبدأ من الثقافة، ويتركز حول إمكانات النقد الإيجابي الذي يزدهر به الوعي الثقافي العام، ويتأسس به حضور هذا الوعي الفاعل في حياتنا ، ذلك الحضور الذي يسمح بالمبادرة الفردية، ويشجع علي التجريب والمغامرة الإبداعية، ويقبل المغايرة والمعارضة بوصفهما الوضع الطبيعي لثقافة تزخم وتثري بالحوار الذي هوعلامة التنوع والتسامح الإصلاح التعليمي ويري المؤلفان أن نقطة الانطلاق الأساسية، وعلامته المهمة الموجبة إنما تبدأ من التنشئة والتكوين حيث التغيير الجذري لكثير من المفاهيم الأسرية والمجتمعية من جانب، والمؤسسات التعليمية إصلاحاً وتطويراً من جانب آخر، مع التأكيد علي التفاعل مع آفاق الثورة المعلوماتية وإنجازات الانفجار المعرفي، وضرورة التماشي معهما ، من واقع رؤية علمية ومستقبلية لعديد من خبرائنا في مجال المعرفة والمعلوماتية ومنهم : الدكتور إسماعيل سراج الدين والدكتور نبيل علي، اللذين يؤكدان ، علي سرعة التحرك لملاحقة هذه الإنجازات، ويحذران بقوة من أن التأخير سوف يبعدنا كثيراً ويزيد من الفجوة المعلوماتية بيننا وبين ميادين التقدم العلمي المزدهرة ومحافل العطاء الثقافي الصاخبة ، وساحات التقدم التكنولوجي المائجة بالحركة والنشاط في العالم من حولنا ، وأنه لابد من تفاعل ضروري مع نقلة كيفية هائلة ، تتم الآن في تكنولوجيا المعلومات ، من المقرر كما يؤكد الخبيران استخدامهما خلال مدة وجيزة. ومن التصورات المطروحة في هذا الصدد: أن تكون مكتبة الإسكندرية كما يقترح سامي خشبة - مركزاً للاتصال والربط في مجالات البحث العلمي والدراسات الإنسانية والمستقبلية بين مؤسساتنا التعليمية في مصر والعالم العربي ، وبين نظائرها في سائر العالم وهي خطوة نحوالمشاركة في إنتاج وصناعة المعرفة ، ومبادرة للتواصل يمكن أن تتم علي مستويات عدة لمراكز ومؤسسات البحث العلمي. فضاء متصل وعلاقات عضوية يؤكد د. جابر عصفور بأن الخطاب الثقافي الجديد، إنما ينتج عن لغات متعددة للممارسات الفكرية المتحاورة والمتجاوبة بما يضيف إلي حضارة الأمة ويدفعها إلي التقدم ، ولا يمكن لهذا الخطاب أن ينبثق في فضاء مطلق بلا متغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية عميقة وملموسة تعمل علي سرعة تولده وإفرازه وزيادة تأصله ورسوخه ... من هنا تبدوالمراجعة الجذرية لجميع أوجه حياتنا وممارساتنا وأنظمتنا شرط أولي وبداية حقيقية للإصلاح.. مراجعة لجميع نظمنا التعليمية والتثقيفية والإعلامية والأمنية والتشريعية في موازاة أوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية ، فأصل العلل أشمل من أن يرجع إلي سبب واحد، وأعقد من أن تبرأ منه الأمة بأبسط أنواع الدواء . ومن هنا فإن الواقع الاقتصادي الكئيب المختنق بأزماته وتداعيات مشكلاته يفرض حتمية الإصلاح والتغيير، حيث إن الأزمات الاقتصادية تؤدي إلي تزايد معدلات الفقر ، وعدم العدل في توزيع الثروات الوطنية، والانفجارات السكانية، وانحسار معدلات التنمية الشاملة. وفي تشخيص دقيق لبعض أسباب الخلل في النظام التعليمي يفسر د.جابر عصفور خلل الأجهزة التعليمية بأنه وجه آخر لخلل الأنظمة الإعلامية والتثقيفية التي لا تخلومن مركزية الصوت الواحد ، والشخص الواحد ، والرأي الواحد وتتدعم بالتلقين أكثر من الاجتهاد ، وتحرص علي الدعاية وتغييب الوعي أكثر من إنارته وجعله وعياً خلاقاً ، ولا تفارق الخوف من التجديد والتجريب ، بل لا تكف عن استفزاز المحرومين من الأغلبية الصامتة للشعب ، كما يدعوالمؤلف إلي ملاحقة الفساد السياسي والاجتماعي الذي يؤدي إلي فقدان الثقة في الدولة، وضياع الأمل في الحق والعدل ، وبالتالي تغلغله وانتشاره، مما يؤدي إلي تزايد إحساس الشرفاء بالغربة المكانية والانطواء علي الإحباط ، وضعف الانتماء الذي يؤدي إلي ظهور أشكال وممارسات عديدة للتراخي واللامبالاة والعصيان المدني، أشدها عنفاً ممارسات التطرف وسلوكيات الإرهاب . سلبيات الثقافة العربية ويأتي نقد جابر عصفور لسلبيات الوضع الثقافي الراهن أكثر صراحة وأشد حدة من منطلق مساءلة الذات والمراجعة الموضوعية لمجمل أحوال الوضع الثقافي المتردي أخلاقياً ... إنه يأتي مناخاً فاسداً وغير صحي علي الإطلاق ولا يمكن أن يؤدي أي إصلاح تجني ثماره وتُحصد نتائجه دون التصدي لمثل هذه الظواهر والسلوكيات السلبية المتمثلة فيما يلي : رفض الآخر وإنكار حق الاختلاف وعدم الاعتراف بحق الاجتهاد والخطأ . عدم وجود أسس ديمقراطية تسمح بالتعددية الحقيقية. رفع رايات الحوار ورفض شروطه والإعلان عن حق الاختلاف مع عدم السماح بوجوده. ارتداء أقنعة القطرية والإقليمية بما ينفي التعددية الحوارية المتفاعلة ويكرس لتعدد المراكز المتصارعة ، المتسلطة . تبدي هذه الظواهر الثقافية في حواريات فضائيات العواصم العربية في ظاهرة شديدة السلبية تدعوإلي الأسف علي ما آلت إليه أوضاع الثقافة العربية . عمليات مزدوجة ، تعتمد في جانبها الأول علي الترويض والتدجين والتطويع وفي جانبها الآخر علي التهميش والإزاحة والقتل المعنوي والمادي. سوء الظن بين المثقفين بالآخر وفي الآخر. التشكيك في كل اجتهاد مغاير أوتجريب مخالف . التراشق بالاتهامات والمبارزة بتبادل النعوت والصفات السالبة ، المشوهة لكل رمز ومعني وإيحاء . جلسات المثقفين التي تحولت إلي جلسات للنميمة وتبادل الاتهامات. غياب القضايا الكبيرة عن حوارات المثقفين . الانفتاح علي الآخر وفي هذا الاتجاه بصفة خاصة وحول هذه القضايا يدور كتاب "نقد الثقافة" للراحل سامي خشبة ، مركزاً علي طرح مشكلات ومسائل مهمة مرت بها تجارب أمم وبلدان متقدمة وتمر بها الثقافة العربية في مراحل التحول الراهنة ومنها : الاستفادة من التجربة الألمانية من جهة وتجربة الوحدة الأوروبية من جهة أخري في تأكيد مبدأ التعدد في الوحدة ، والوحدة في التعدد وذلك بالتبادل الفعال والتكافؤ المثمر نحوتأكيد هوية عربية في عالم تدهمه موجات العولمة موجة في إثر أخري. الاستفادة من التجربة السابقة أيضاً في الاعتزاز باللغة ومالها من أولوية مطلقة في تجميع الأمة ونشوء وتطور ثقافتها والمشاركة بإنجازات أبنائها في صنع المعرفة ، والإيمان بأن اللغة والثقافة الواحدة المحتضنة للاختلاف هما دعامتان لتقدم الأمة ومظهراً جلياً لوحدتها. لفت الانتباه إلي سلبيات مرحلة الحداثة خاصة حين بدأت منذ عقودها الأولي حين كانت الحداثة تتحرك بنزعات عنصرية واستعلائية ودعوات قومية متعصبة ونهم لا يشبع نحوالتصنيع وتراكم رأس المال والصراع علي مناطق النفوذ وما نتج من آثار بالغة الضرر لحقت بالإنسانية والبيئة علي السواء ونشوب حربين عالميتين مدمرتين قادتا إلي تقسيم العالم وأدتا إلي صراعات أيديولوجية وحروب باردة. نقد سياسة عولمة عالمنا المعاصر ذات النمط الاستهلاكي وسيادة قيم القطب الأوحد التي تلغي الهويات وحق الإنسانية في التعدد والاختلاف.