تفرض ضرورة ضبط المفاهيم والمصطلحات القيام بعمليتين في آن واحد، وهما: الأولى: تحرير المفاهيم الأساسية التي شاعت بشأن قضايا الفكر والاجتماع والعلاقات الإنسانية مما علق بها من مضامين ومعانٍ تخالف حقيقتها؛ لأن الكلمات نفسها كأداة للتعبير وإطار للمعاني تحمّل بمدلولات فكرية ونفسية تلقي بظلالها على عقل وقلب السامع والقارئ ف "اللغة" ليست مجرد أداة رمزية للتواصل بين البشر، ولا معينات للتفاهم والتخاطب بل إنها – كما نؤكد دائما ويؤكد كثير من الكتاب والباحثين- جوهر التفاعل الحضاري ومن أهم محددات هوية أي أمة؛ ودليل وجودها المادي. ومن ثم، فإن من أهم ما يتصل بقضية تحرير المفاهيم والمصطلحات هو عدم قبول المفاهيم الغربية في مجال الفكر والشأن الاجتماعي جملة وكما وفدت إليها؛ لأنها محملة بمسَلَّمات فكرية وأسس فلسفية وخلفيات معرفية نابعة من البيئة الحضارية التي أفرزتها، ذلك أنه من المسَلَّم به أن كلمات اللغة التي تنطق بها الأمة هي أفكارها وقيمها ومنهجها في الحياة، وهى ذات صلة عميقة بعقيدتها وتصوراتها الكلية للإنسان والكون والحياة. وعلى هذا، فإن مفاهيم الغرب ومصطلحاته لا يمكن فصلها عن ملابساتها الفكرية وسياقاتها الحضارية والتاريخية، ولا يمكن التعامل مع المفاهيم والمصطلحات الخاصة بمجال الفكر والشأن الاجتماعي كما نتعامل مع ألفاظ الاختراعات وأسماء الأشياء. الثانية: استبطان المفاهيم الإسلامية الخالصة التي تمثل منظومة أو نسقًا مفهوميًّا مترابطًا متكاملا وشاملا، يتداعى تلقائيًّا عند التعامل مع أحد مكوناته؛ فاستخدام المفهوم الإسلامي يستدعي تلقائيا منظومة المفاهيم المرتبط به؛ حيث المفاهيم الإسلامية تنطلق من التوحيد كأساس وغاية، مما يجعل منها وحدة متراصة متكاملة تتصف بمجموعة من الخصائص تميزها عن غيرها من الأنساق، كما تعبر المفاهيم الإسلامية عن الحقيقة التي تتناولها في شمولها واختلاف أبعادها ومستوياتها، كما تعطى تلك المفاهيم والمصطلحات دلالات معينة عند كل مستوى للتحليل، أو عند كل بُعْد من أبعاد الظاهرة، ذلك أن الوعي بأهمية "الكلمة" ومسئوليتها وفق البيان القرآني إنما يشكل حجر الأساس في عملية تحرير العقول. وتهدف عملية استبطان المفاهيم الإسلامية أساسًا إلى عدة أمور؛ من أهمها: 1- تحقيق الهوية والاختصاص والتمايز لمنظومة المفاهيم إسلامية الطابع والمصدر والوسائل والغايات، فالمفاهيم والمصطلحات وإن كانت "حمّالة" لرسائل فكرية موجهة، فهي أيضًا "أدوات للتواصل والتعبير" عمّا نحمله من حقائق أو مسلمات يتصورها الإنسان عن الخالق والكون والحياة. 2- التعامل مع الإنسان المسلم بوحدات من المفاهيم قادرة على أن تمس حقيقة تكوينه الفكري والنفسي والعقدي، حيث تستطيع تلك المفاهيم أن تفجر طاقاته الكامنة من خلال التعامل بمفاهيم الإيمان (الفرض والواجب - الحلال والحرام - رقابة الله) بما يحقق أقصى درجات الفاعلية؛ إذا تظل هذه المفاهيم رغم سنوات التغريب هي لغة إحياء الضمير الديني والوازع الأخلاقي وهي أهم مفاتيح الشخصية المسلمة على مدار الكتلة البشرية التي تظلل محور طنجة جاكرتا. 3- نقض دعوى "عالمية" المفاهيم الغربية بحسبانها مجمع تراث الإنسانية، ذلك أن مصطلح "العالمية" متصل بتحديد الأنا والذات، وبالموقف من الآخر، وبالدوائر الحضارية، وبتفاعل الحضارات كما يقول أستاذنا وحبيبنا الدكتور أحمد صدقي الدجاني عليه رحمة الله، حيث يلاحظ احتكار الغرب لصفة "العالمية" بحيث أصبح المصطلح ينصرف إليه، فكل ما هو غربي عالمي في نظره، فكأن العالم مقتصرا عليه؛ وكل ما له صلة بالغرب نطلق عليه عالمي فنقول وكالات الأنباء العالمية والصحافة العالمية والاتفاقات العالمية وغيرها من المفاهيم والمصطلحات التي استبطنت مركزية الغرب في العالم بل وجعلت تعرف الاتجاهات الأربعة الأساسية بموقعها منه؛ فيقولون الشرق الأوسط على تلك الكتلة الحضارية التي تشكل عالم العرب والمسلمين ونردد نحن ورائهم كالببغاوات "الشرق الأوسط" ونعتقد أننا فعلا شرقا أوسطيا؛ ويقولون وقف إطلاق النار على تلك العملية المسماة بين العدوان الإسرائيلي وحق الفلسطينيين في المقاومة المشروعة وكان هناك مساواة بين الجلاء والضحية؛ وهكذا إمعية بالغة واستتباع تام حتى صدق فينا الحديث لو دخلوا جحر ضب لدخلناه معهم أو بالأحرى ورائهم. لقد كان علماؤنا الأقدمون يحرصون قبل تناول أي قضايا شرعية أو فكرية أو اجتماعية على ضبط مفاهيمها ومصطلحاتها؛ وتحريرها وتحديدها تحديدا قاطعا لا لبث فيه ولا غموض ولا اشتراك ولا إيهام؛ فتكلموا عن حدود المصطلحات والمفاهيم وعنوا أيما عناية بالتعريفات الجامعة المانعة وكانوا يحرصون عليها؛ والمتأمل في تراثنا الفقهي يلاحظ بوضوح مدى الدقة والتحديد في ضبط المفاهيم والمصطلحات، بل لقد حرصت النصوص الشرعية على إلزام المسلمين بمصطلحات بعينها ونهت عن الحيد عنها أو تسميتها بغير ذلك الاسم حتى لو كان التقارب بين اللفظين شديداً وتفكر في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ۗ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ وللعلماء والمفسرين فيه كلاما نفيسا.