هل جهل العرب- حقا- فن الدراما, وإن لم يترجموه عن الآداب الأخري؟ حقا, لا يوجد مسرح بشكله الغربي في تراثنا وموروثنا العربيين, وليس معقولا أن يوجد بهذا الشكل أو المفهوم, ذلك لأن البيئات الثقافية المختلفة لها أشكال عروض, ونظائر مسرحية مختلفة. وكنا قد أشرنا في مقالنا السابق إلي خطأ الأحكام التي رفضت وجود المسرح العربي قبل'1847 م' وهو تاريخ أول عرض قام علي تقاليد المسرح الأوروبي, وأرجعنا فساد معظم هذه الأحكام إلي غياب الملاءمة المنهجية عند التعامل النقدي مع نظائر أداء شعبية وفنية, لها بيئاتها الثقافية المختلفة عن البيئة التي نشأ فيها المسرح الأوروبي, ونما علي النحو الذي نعرفه الآن. ويمكنني هنا أن أقسم الآراء التي رفضت وجود مسرح في تراثنا العربي, وقد أشار إلي بعضها الباحث محمد كمال الدين في كتابه' العرب والمسرح', إلي تيارين; يعزو الأول غياب المسرح عن تراثنا وموروثنا العربيين إلي غياب فن الأداء, ويعبر عن هذا الاتجاه الآراء التي أرجعت غياب الفن المسرحي عند العرب إلي غياب الخشبة المسرحية! وهنا لنا أن نسأل: هل يشكل غياب مبني مسرحي بالمعني المعماري المتعارف عليه جماليا أو تاريخيا, دليلا علي غياب معرفة شعب, أو قومية ما, لهذا الفن؟ أما التيار الثاني وهو موضوع مقالنا فيرجع غياب المسرح في تراثنا وموروثنا العربيين إلي غياب الدراما, ويمكننا الرجوع إلي الآراء المعبرة عن هذا الاتجاه علي سبيل المثال في الآراء الواردة علي لسان كثير من الباحثين, والمستشرقين, والأدباء, والنقاد, الذين نفوا معرفة العرب للدراما- قياسا علي وعيهم الجمالي بالمسرح الغربي, ونظائره, وتجلياته. ويمكننا تقسيم الآراء التي نفت وجود الفن المسرحي في تراثنا وموروثنا العربيين, بسبب غياب الدراما, إلي اتجاهات أربعة, أرجع الأول غياب الدراما عن تراثنا وموروثنا العربيين إلي عامل عقدي, وقد ذهب ممثلو هذا الاتجاه إلي أن الإسلام بتعاليمه كان مانعا لهذا الفن! وأشهر ممثلي هذا الاتجاه: جوستاف فون جرينباوم, الذي ذهب إلي' أن الإسلام السني لم ينجح في خلق فن مسرحي لأن مفهوم الإنسان في الإسلام يمنع وقوع صراع درامي', وهنريش بيكر,' الذي رأي' أن الإسلام أهمل في نقل الأشياء التي كان نصيب الروح فيها أكثر من نصيب العقل', ويقصد بذلك الآداب اليونانية, ولوي ماسينيون, الذي ادعي أنه' ليست هناك دراما في الإسلام لأن الحرية عند المسلمين مشروطة بالإرادة الإلهية التي لا تعتبرهم إلا أدوات فحسب', وهنري كوريان, الذي ذهب إلي' أن العالم في التفكير الإسلامي يسير أفقيا وليس عموديا, الأمر الذي يمنع تطور هذا العالم, مؤكدا أن هذا الزمن الأفقي يخلق الأسطورة ولا يخلق الدراما'! ولم يفسر لنا أحد لماذا توقف الإسلام عن منع هذا الفن حينما دخل بتقاليده الغربية, وأصبح جزءا مهما من فنون البيئة الثقافية العربية فيما بعد؟ هذا لو افترضنا غيابه عن تراث الثقافة العربية, وغيرهم كثيرون ممن تبنوا أحكاما قائمة علي مقدمات خاطئة, وانطباعات اختزلت مفهوم المسرح إلي شكل أوروبي بنائي واحد, لا وجود لشكل غيره. الاتجاه الثاني وهو اتجاه أرجع غياب الفن الدرامي عند العرب إلي العامل اللغوي, وإلي طبيعة اللغة العربية, وقسوتها, ومن أبرز ممثليه محمد عزيزة, الذي يرجع غياب المسرح عن الفنون العربية إلي طبيعة اللغة العربية الكلاسيكية التي تنتمي إلي المعني أي إلي الدلالة, بينما يعود المسرح لغويا إلي منطقة التعبير الداخلية', ويذهب جاك بيرك إلي أن' التقاليد العربية قد جهلت التعبير المسرحي, لأنها لم توفق في إعطائه لغة مناسبة'. ويذهب' سليم البستاني علي سبيل المثال' إلي أن العرب لم ينظموا الملاحم الطويلة, وأن غياب الملحمة قد أثر في غياب الدراما والمسرح. ولكن هل جهل العرب- حقا- فن الدراما, وإن لم يترجموه عن الآداب الأخري؟ أما الاتجاه الثالث فهو الاتجاه الذي يرجع غياب الفن الدرامي عن تراثنا العربي إلي العامل النفسي, استنادا إلي الرأي الشائع بأن الشعر ديوان العرب, وأن العرب لم يقبلوا علي ترجمة الملاحم اليونانية لاعتزازهم بآدابهم! ولاعتقادهم بأنهم مكتفون بهذه الآداب, ولا حاجة إليهم بآداب الأمم الأخري, كما ذهب إلي ذلك' محمود تيمور, ونجيب محفوظ', ويذهب توفيق الحكيم إلي أن العرب حين استقروا في الحواضر العربية مثل بغداد ودمشق, ظلوا متمسكين بماضيهم الأدبي والفكري', فلم تكن لهم حاجة بآداب الآخرين. ولكن هل تعد ترجمة الملاحم, أو ترجمة الدراما تخليا عن ماضينا الأدبي؟ وهل كانت هذه الترجمة_ لو أنجزت- كفيلة بخلق مسرح_ في بيئة ثقافية عربية تختلف بنائيا عن البيئة التي نشأ فيها المسرح الغربي؟ ويرجع الاتجاه الرابع غياب الدراما عن تراثنا العربي إلي العامل البيئي, لقسوة البيئة الصحراوية التي عاش فيها العربي, وترحاله المستمر, وقد رأي عدد ممن ينتمون إلي هذا الرأي أن هذه البيئة القاسية والبدائية قد فرضت كثرة الترحال والتنقل, وهذا ما خلق في العقلية العربية آليات تفكير اهتمت بالكليات, وابتعدت عن التحليل والجدل اللذين يعتمد عليهما العمل الدرامي, فضلا عما يشير إليه هذا العامل من أن نمط الإنتاج السائد قد أثر علي تأخر ظهور هذا الفن عند الشعوب العربية, هذا علي الرغم من الحقيقة التاريخية التي تؤكد وجود مجتمعات حضرية عربية, قامت علي الاستقرار, بسبب قيام نمط إنتاجها علي الزراعة المعتمدة علي الأنهار! الأمر الذي جعل من هذا التعميم خطأ بالغا علي المستوي المنطقي, كما ذهب آخرون إلي أن البيئة التي ترعرع فيها الإنسان العربي كانت سببا في ضيق خيالهم, وهذا ما جعلهم مهتمين بالحس أكثر من اهتمامهم بالتحليل, الأمر الذي يكون إنتاج الشعر الدرامي معه محالا, وتذهب سهير القلماوي إلي' أن المسرح مخالف لطبع العربي, فالعربي في سلام مع الله, واستسلام للقدر'! وهو رأي يثير_ ضمن ما يثيره- سؤالين جوهريين: فإذا كان هذا الادعاء صحيحا, فلماذا لم يعرف العربي الفن المسرحي, أيام الوثنية أو قبل ظهور الإسلام؟ ولماذا لم يمنع هذا الرأي_ لو كان صحيحا- وجود المسرح فيما بعد؟ وهناك من رأي مثل حمد مندور' أن نوع خيال العربي لم يكن مواتيا للفن المسرحي, وذلك بحكم البيئة ونوع الحياة', أو أن تنقل العربي المستمر قد أدي إلي عدم نشوء الاستقرار اللازم للحضارة! كما جاء علي لسان كل من' زكي طليمات, ومحمود تيمور', وهذا ما أدي إلي جهلهم بالأساطير!' كما يري أحمد حسن الزيات', هذا فضلا عن' غياب التفاتهم إلي الشخصية الفردية بصفتها أساسا من أساسيات الكتابة الدرامية كما يذهب إلي ذلك' زكي نجيب محمود'. وهي آراء تثير عددا مهما من الأسئلة: فهل يمكن أن نعالج الخيال العربي في امتداده الثقافي الجغرافي المتعدد, والمختلف هكذا؟ هل يمكن أن نعالجه بصفته نوعا واحدا, هذا إذا كان التقسيم إلي( خيالنا وخيالهم) مجازا أصلا؟ وهل جهل العرب الأساطير حقا؟ وما أسهل هذا الحكم القائل بغياب التفات العرب إلي الشخصية الفردية وأسرعه! ويمتد هذا الاتجاه ليضم نزوعا عنصريا في التفكير, واصفا العقلية السامية' بأنها عقلية ذات اتجاه ديني في الأساس, وأنها تفتقد وجود الأساطير كما ذهب إلي ذلك' إرنست رينان'. والسؤالان اللذان يلحان علينا هما: هل يمكن أن تغيب الدراما عن شعب من الشعوب في حياته القومية أو في حياة أفراده؟ وهل يمكن أن تبتعد الأحداث الدرامية في حياته القومية أو الفردية عن التجلي في أعماله الأدبية والفنية؟ أما السؤال الجامع هنا فهو: أكانت آراء النقاد والأدباء العرب هذه أصيلة؟ صادرة عن منهجيات بحث, وعن اقتناعات مبررة بالدراسة والاستقصاء, أم كانت محض صدي لعدد مؤثر من كتب المستشرقين, وآرائهم؟ وللكتابة بقية..