لقد نجح الأوروبيون في خلق استعمار باطني مستتر في المناطق المستعمرة استلهم خطاب نفي وجود مسرح في تراثنا العربي- في مجمله- تعريف ماهية العمل المسرحي بناء علي الإرث النقدي الغربي الذي كان قد حدد المجال الفني للمسرح. علي مستوي النوع بناء علي معاينة واقعه الفني المحدود بالضرورة, حيث لا تنطبق خبرة المسرح الغربي, ومجال عمله النقدي, علي جميع الشكول المسرحية لشعوب لم يتسن_ لتيارات النقد والتنظير الغربيين- معرفة فنونها الأدائية. أما الشيء الذي يدعو إلي الدهشة فهو تلك الآراء النقدية التي حدقت إلي إبداعنا التراثي, بما يحمله من خصوصية ثقافية, وقيم جمالية محلية, من موقع أقدام الأوروبيين أنفسهم, فنفت الرواية, والفن المسرحي, والملحمة, وغيرها, عن آدابنا الشفهية والمكتوبة, وكانت صدي ضعيفا لآراء مستشرقين وبحاثة غربيين نذكر منهم جوستاف فون جرينباوم, ولوي ماسينيون, وهنري كوريان, وإرنست رينان, ولوي غاردييه, وفابيون باورز, وغيرهم. كيف نفسر موقف نقاد وباحثين ومبدعين مثل العقاد, وطه حسين, وأمين الخولي, وسهير القلماوي, ومحمود تيمور, ونجيب محفوظ, وزكي طليمات, وأحمد حسن الزيات, وزكي نجيب محمود, وغيرهم ممن تسرعوا بنفي الفن المسرحي, والدراما, عن تراثنا وموروثنا العربيين؟ يقول الناقد الثقافي الإنجليزي رينولد وليامز(1921-1981)' إن الأوروبيين قد نجحوا في خلق استعمار باطني مستتر في المناطق المستعمرة. تمثل هذا الاستعمار في الحرب التي شنها المثقفون المحليون في المستعمرات علي ثقافة بلادهم أنفسهم, أي ثقافة البرابرة', لصالح الثقافة الأوروبية.. ربما كان مفيدا مساءلة عينة مختارة من الآراء الرافضة لوجود المسرح في تراثنا وموروثنا العربيين, وهي آراء أرجعت غياب العرض المسرحي عن تراثنا العربي إلي عدد من الأسباب أهمها: السبب العقدي, فذهب عدد من المنظرين والباحثين إلي أن الإسلام قد حرم التجسيم والتمثيل, مثل فابيون باورز في كتابه( المسرح في الشرق), وفيه' أرجع غياب المسرح عن التراث العربي إلي تعاليم القرآن, مما أدي إلي إنكار جماليات الفنون الأدائية, الأمر الذي عاني منه الرقص والدراما', أما' جاكوب لانداو' في كتابه( تاريخ المسرح العربي), فيرجع غياب المسرح إلي سببين الأول أن الشعوب التي اتصل بها العرب في تلك الحقبة لم تكن ذات خلفية مسرحية! والثاني أن الإسلام قد حرم ظهور المرأة إلا بحجاب!', الغريب هنا أن تكون وجهة نظر باحث- بهذه المكانة- متسرعة إلي هذا الحد, لقد عرف اليونانيون المسرح ولم يتصلوا بشعوب سبقتهم إليه, فهل المسرح اختراع إغريقي, لا يمكن أن يعرفه شعب ما إلا نقلا! نجد صدي هذه الآراء في رأي توفيق الحكيم في كتابه( قالبنا المسرحي) الذي يقول:' هكذا أيضا سار الفن المسرحي لدينا, بدأ من النقل والاقتباس عن المسرح الأوروبي, وسارت عملية النقل عن أوروبا ابتداء من مرحلة السامر إلي مرحلة الترجمة والاقتباس, إلي أن وصل إلي مرحلة التأليف الأصيل'! ويذهب لويس غاردييه إلي أن' المسرح كان مجهولا في الإسلام بسبب صعوبة تنظيم العروض المسرحية في مجتمع يحارب فيه رجال الأخلاق والمحافظون تمثيل الأدوار النسوية!', ويري أند ميتن الرأي ذاته في كتابه( تاريخ المسرح, والملاهي الشعبية في تركيا) ذاهبا إلي' أن الإسلام وتعاليمه في الأساس يقفان ضد المسرح والرقص', وينضم أحمد أمين في كتابه( فجر الإسلام) إلي الاتجاه ذاته مؤكدا أن' غياب المسرح عن التفكير العربي والإسلامي يرجع إلي أسباب دينية, لأن الدين يمنع التمثيل'. تطرح هذه الآراء عددا من الأسئلة مثل: لماذا لم يمنع هذا التحريم ظهور المسرح فيما بعد؟ ولم لم يقف ظهور المرأة في المسرح الإغريقي_ حيث كان الرجال فيه يقومون بالأدوار النسائية- ضد قيام هذا المسرح وتطوره؟ وكيف يقوم الإسلام بالوقوف ضد فن لم يكن موجودا في الأصل, بعد الحكم بجهل العربي لهذا الفن؟ أما السبب الثاني فهو السبب الفني: وقد ذهب من مالوا إلي هذا السبب إلي أن غياب وجود نموذج أو أكثر من الشعر التمثيلي_ المقصود هنا النصوص- للاقتداء به, كان سببا في جهل العرب بهذا الفن, فأرجع' طه حسين' سبب غياب الفن المسرحي إلي' غياب احتكاك العرب بنماذج منه كي يقتدي به', وهو رأي واشج رأي لانداو السابق ذكره! والسؤال الذي نطرحه هنا: أيكفي توافر نماذج من الشعر التمثيلي كي يقتدي بها العرب, لتحقق الفن المسرحي؟ أم أن هذه النماذج كانت كافية_ في أحسن الأحوال- لإبداع نماذج مقلدة من الشعر الدرامي من دون وجود أي فرصة لتحققها المسرحي؟ وهل يعني غياب كلمة مسرح, أو ملحمة, أو رواية, عن تراث ما, مثل التراث العربي, غياب ما تدل عليه هذه المفهومات في الواقع؟ والسبب الثالث هو السبب البيئي, ويري' عباس محمود العقاد' في كتابه( أثر العرب في الحضارة الأوروبية) أن طبيعة البيئة العربية وقسوتها قد منعت قيام الأدوار الاجتماعية في حياة العربي, ذاهبا إلي أن'التمثيل فن يرتبط بالحياة الاجتماعية برباط وثيق, وبما أن بيئة العربي لم تتعدد فيها أدوار الحياة الاجتماعية(...) لم يعقل أن ينشأ فيها فن التمثيل, أو يظهر فيها أدب مسرحي', أما' أمين الخولي' فيدفع بأن ترحال البدوي الدائم كان سببا لغياب استقرار المظاهر التجسيمية في وثنيته, فلم يوجد عنده مسرح'. ويذهب توفيق الحكيم هنا إلي' أن جهل العرب لفن المسرح يرجع إلي غياب مبني مسرحي بسبب الترحال المستمر الذي فرضته البيئة علي الإنسان العربي', والسؤال الذي يمكن أن نسأله بعد هذا العرض المختصر لهذا الاتجاه هو: هل يشكل غياب مبني مخصص للعرض المسرحي وفق المعني المتعارف عليه جماليا في المسرح الأوروبي, دليلا علي غياب معرفة شعب ما للفن المسرحي؟ أما السؤال الغائب في كل هذا, الذي كانت لأسبقيته قبل الحكم بالنفي أو الإثبات ضرورة واقتضاء فهو: ما المسرح؟ وهو سؤال يرتبط مباشرة بما يسمي حقل الشعريات المقارنة, ذلك لأن الاتجاهين الرافضين لوجود المسرح والدراما كليهما في تراثنا قد تكلموا عما عرفوه من المسرح بشكله الغربي, وذلك بعد انتشاره في بيئات ثقافية عديدة ومختلفة, وبعد أن وصل إلي أعلي أطوار نضوجه الجمالي, ولم يجيبوا أسئلة أولية, عن معني المسرح في بنيته النووية, التي يمكنها أن تضم مئات الشعريات أو الصناعات المسرحية, التي يمكنها أن تتغير وفق انتسابها إلي عشرات البيئات الثقافية المختلفة.. نلاحظ في النهاية أن الذين نفوا وجود المسرح في تراثنا وموروثنا العربيين قد رجعوا_ مثلهم في ذلك مثل من نفوا وجود الدراما في تراثنا العربي- إلي سببين أساسيين هما السبب العقدي- الإسلام بخاصة- والسبب البيئي. وأذهب هنا إلي أن نفي فن المسرح وفن الدراما عن تراثنا وموروثنا العربيين يرجع أساسا إلي غياب الانتباه إلي أهمية الفصل بين المكون البنائي الثابت نسبيا في النوع, والمكون الجمالي المتغير, الذي يحتفي بكل سمات الخصوصية الثقافية, والتمايز الإبداعي القائم علي أسس محلية, وهي رؤية قد تثبت وجود عدد لا متناه من النظائر المسرحية, تختلف باختلاف بيئاتها, ذلك دون أن يمنع هذا الاختلاف من الانتماء إلي النوع ذاته, وهذا ما يدعونا إلي القيام بقراءة شاملة تجاوز الخصوصيات الثقافية, إلي المشترك العام, الذي يمكنه أن يفصل المكون البنائي في أي نوع;' الشعرية', عن المكون الجمالي فيه;' الأسلوبية', وللكتابة بقية.. المزيد من مقالات د. علاء عبدالهادى