يظل خطاب تأصيل المسرح العربي, والبحث في بداياته, فضاء تشتعل فيه الإجابات بأسئلة يثيرها الكثير من الأحكام الجامعة التي وردت في كتابات عدد كبير من المنظرين المسرحيين الذين شككوا في وجود مسرح عربي قبل مسرحية مارون النقاش البخيل في عام1847 م, وقد كانت هذه الأحكام وجه العملة الثاني لما ورد في خطاب من أرادوا أن يثبتوا وجوده قبل عام1847 م, وذلك دون درس عميق لمفهوم المسرح, وشعرياته المتعددة من الفريقين.. من المنطقي أن نقول إن هيمنة النظائر المسرحية القائمة علي تقاليد المسرح العربي, لا تعني غياب نظائر مسرحية عرفتها الشعوب المختلفة بثقافاتها المتنوعة, وتقاليد فرحتها المحلية, يشدنا هذا الفهم إلي أهمية الانتباه إلي الفروق بين المكونات البنيوية في الظاهرة موضوع الدراسة, والمكونات الجمالية فيها, في قضية النوع الأدبي أو الفني, وصناعاته بخاصة, أو ما يعرف الآن في الدراسات النقدية بالشعريات المسرحية المقارنة. المسرح ظاهرة عرض, أي أنه لا يتحقق إلا من خلال وسيط, وسيط المسرح الذي يتحقق من خلاله هو علاقة في الفضاء, فإذا ما عرفنا المسرح من خلال مصطلحات أدخل في العالم منها في غيره, لقلنا إن أية علاقة مسرحية ستشير ضرورة إلي طاقة فيزيائية مستهلكة في الفضاء, عبر الحركة, والصوت, والإضاءة.. إلخ. سواء حدث هذا من خلال علاقات بين إنسان وآخر, أو بين إنسان وأشياء أو بين أشياء وأشياء أخري, وذلك في زمان ومكان محددين, وهي علاقة لا تقوم إلا في فضاء ثلاثي الأبعاد. يعني هذا أن أي تحقق فرجوي في فضاء ثنائي الأبعاد( س,ص) لا يعد مسرحا, فخيال الظل علي سبيل المثال لا يعد مسرحا, أو ظاهرة عرض مسرحي. إلا إذا قام العارضون بتقديمه فوق خشبة مسرحية, وفي هذه الحالة لا يشاهد المتلقي أحداث قصة يرويها لاعب خيال الظل مستخدما شاشة ثنائية الأبعاد فحسب, ولكنه يتفرج علي اللعبة كلها, الشاشة واللاعبين معا, وهذا ما يفسر رأي فقهاء مسرح عديدين بأن المسرحيات التي تعرض مصورة علي الشاشة المرتبة, ليست مسرحا, فالجمهور هنا علي الرغم من كونه يشاهد عملا دراميا, فإنه لا يشاهد عملا مسرحيا.. أما المكون النووي الثاني للنوع المسرحي فهو أن يستقبل جمهور ما, شبكة العلاقات في هذا الفضاء, بصفتها ممثلة لعالم خيالي, وإن لم تكن في ذاتها كذلك, أي أن جمهور المشاهدين لدراما واقعية قد تخلقها المصادفة في فوضي الشارع المصري اليوم علي سبيل المثال, لن تكون مسرحا, علي الرغم من كونها لها بداية ووسط ونهاية وحبكة وصراع, وذلك لأن الجمهور سيتعامل معها بصفتها حقيقة واقعة, وهذا ما يفقده حس الفرجة الفنية, ويحرمه جماليات التأويل والتلقي المسرحيين, أما لو شاهد الجمهور الحادثة نفسها في عمل مسرحي, فإن اقناعه المبدئي بأن ما يراه علي الخشبة ليس سوي خيال, سيكون كافيا كي يتحقق فعل مسرحي, مهما تلون هذا الفعل بأي سلوك حقيقي من الممثل في الأداء, ذلك لأن الجمهور سيظل من خلال وعيه الفني متمسكا بالتعامل مع ما يراه بصفته علامة مسرحية, وبصفته تمثيلا, حتي لو لم يكن في ذاته كذلك. إن هذا الاعتقاد المسبق للجمهور بأن ما يراه يمثل واقعا خياليا ممكنا, لكنه ليس الواقع المعرف بالألف واللام, في فضاء ثلاثي الأبعاد, أي في فضاء وليس مساحة, شرط لازم كي يتحقق حضور النظير المسرحي. يؤكد هذا التناول اليسير لمفهوم المسرح, أن المسرح ظاهرة عرض في أساسه, من هنا كان خطأ من ترجموا عنوان كتاب بيتر بروك الشهير إلي المساحة الفارغة, ذلك لأن المساحة لها بعدان أي أنها فارغة بالضرورة, والصحيح أن تكون الترجمة هي الفضاء الفارغ.. علي أية حال, يمكن من خلال القراءة السريعة لأهم المحاولات التي حاولت التأصيل لبدايات المسرح العربي في تراثنا وموروثنا العربيين سواء علي مستوي الإثبات أو مستوي النفي, أن نقول إن عددا كبيرا من هذه الدراسات قد استلهم عند التنظير وعيا جماليا يقع في خارج الوعي التاريخي لفنون فرجتنا, وتراثنا أو موروثنا العربيين, وفي خارج صرامة التحري النقدي الذي كان يستلزم الفصل بين البنيوي والجمالي في مفهوم العمل المسرحي, وقد ظهر هذا العيب في معظم الدراسات أو المقالات التي رفضت وجود المسرح والدراما العربيين قبل مارون النقاش. وكان غياب الانتباه إلي إشكالية العرض الكاملة في بعديه; نص الدراما, نص العرض, من العيوب المنهجية المهمة في خطاب التأصيل, فوقع الخلط بين النصين عند إطلاق الأحكام التي حاولت إثبات وجود مسرح عربي سابق علي استنبات المسرح وفق شكله الغربي في تربتنا العربية, فقام عدد من الأحكام النقدية علي أساس أن وجود نصوص درامية في تراثنا العربي دليل علي وجود المسرح, هكذا تعامل عدد من النقاد مع عدد من النصوص التراثية التي تحمل في جنباتها سمات درامية والتي لم يكن لها أي تحقق مسرحي, بوصفها دليلا علي معرفة العرب للفن المسرحي, وكان الوجود بالقوة يعادل الوجود بالفعل, فدخلت النقائض ومجالس الشعر, وبعض النصوص الدينية, والمقامة وغيرها إلي هذا الحقل, وأشهر مثالين لهذا كتاب علي عقله عرسان الظواهر المسرحية عند العرب, وكتاب عمر الطالب ملامح المسرحية العربية الإسلامية, علي جانب آخر, لم تتحر معظم هذه الدراسات البحث في فنون الأداء علي نحو كلي علي مستوي العالم العربي, وعلي الرغم من صعوبة تحقيق ذلك علي نحو شامل, فإن تحري القيام به كان كفيلا بسد الكثير من الفجوات التي اعترت معظم هذه البحوث, هكذا جاء التعامل مع النظير المسرحي العربي علي نحو جزئي, لم يهتم بالتقصي الشامل للظاهرة موضوع البحث, بل خضع إلي الاختزال والانتقاء.. كما خلط عدد من هذه الدراسات عند الحكم النقدي علي الفنون الأدائية وبين الأداء الفني الذي يستقبل بوصفه عالما ممكنا وخياليا, وفنون الأداء الواقعية التي تنظم طرائق ممارستها قيود دينية أو احتفالية, مثل مواكب الملوك, أو الاحتفالات الدينية, أو الحضرة الصوفية, أو الزار الشعبي, ونجد الميل ذاته عند المنظرين الذين حاولوا إثبات وجود المسرح من خلال نصوص تبدو درامية في التراث الفرعوني مثل اجتهادات كورت زيتة, وإتيين دريوتون وغيرهما. أما علي مستوي الأعمال التي تنتمي إلي وسيط كتابي, فقد قام عدد من المسرحيين والنقاد بإعدادها, وتحقيقها أحيانا, في خارج بنيتها الجمالية التاريخية, مسقطين عليها جماليات فنية, وسمات نوعية للدراما الغربية, ومتناسين أنهم بذلك قد أخرجوا هذه الأعمال من محيطها الثقافي, النوعي والجمالي, بعد أن تدخل في جسدها الفني وعي خارج وعيها التاريخي, وذلك مثل النص الذي أعده محمد عزيزة من نصوص التعازي الشيعية. كما تدخل عدد من النقاد بالتعديل, والحذف, والإضافة علي نصوص أصلية, إما لتنقيتها مما شابها من خروج عن الآداب العامة, أو لإثبات قدرة هذه النصوص علي الوصول إلي نص درامي متكامل علي منوال التقاليد الدرامية الغربية من أجل إقامة الدليل علي وجود دراما عربية, أو مسرح عربي, وذلك مثل ما فعله إبراهيم حمادة في بابات ابن دانيال, وهو سلوك لا يمثل خطأ علميا فحسب, بل يصل إلي درجة الإثم, علي الرغم من أن وجود نصوص درامية عربية لا يثبت بأية حال وجود مسرح عربي! أما أهم العيوب المنهجية في هذه الدراسات فظهر في النتائج التي جاءت سابقة لمقدماتها, حيث بدأت هذه الدراسات تنظيرها وفي نيتها إثبات وجود مسرح عربي يسبق التاريخ المعتاد الذي يعود بنشأة المسرح العربي إلي عام1847 م, وهو تاريخ دخول أول مسرحية إلي عالمنا العربي علي يد مارون النقاش, وبداية وقوع فنون فرجتنا التي ينتمي بعضها إلي المسرح تحت ظل جماليات المسرح الأوروبي.