للمفكر المصري الكبير الدكتور حسين مؤنس (1911 - 1996) كتاب أدبي رائع بعنوان "عصر الفتوات" حكي فيه بأسلوبه الأدبي الرفيع عن الدور الوطني الذي قام به مجموعة الفتوات المصريين في قيادة بعض المجموعات من أبناء الوطن نحو مقاومة الحملة الفرنسية علي مصر عام 1798 وكيف ساهمت تلك المقاومة في صد الزحف الفرنسي علي مصر إبان ثورة القاهرة الأولي والثانية في تلك الفترة من تاريخ مصر. وشخصية الفتوة كانت لها مكانة بارزة في التاريخ الشعبي المصري، فهو الشخص الذي كان يفرض هيمنته ويبسط نفوذه علي قطاع بعينه من قطاعات المواطنين التي كانت تقطن حياً معيناً من احياء القاهرة نظير توفير الحماية والأمان لسكان ذلك الحي، وبغض النظر عن دوره الذي كان يلعبه في الحياة اليومية سلباً او إيجاباً، فإن اللافت للنظر انه كان له قانون خاص، فهو لا يقبل بوجود فتوة آخر في المنطقة ينازعه نفوذه الذي يبسطه علي المنطقة التي يعيش فيها و يعرف سكانها واحداً واحداً بالاسم , فلا تفاهم و لا نقاش مع أي فتوة آخر غيره. فلكل واحد منطقته التي لا يجب ان يتعدي حدودها الي منطقة نفوذ "زميل" آخر من زملاء الفتونة، اي انه كان لا يقبل العيش مع "الآخر" تحت اي ظرف من الظروف، ولقد اختفي "عصر الفتوة" منذ اكثر من سبعين عاماً مضت بعد ان فرض القانون سيطرته علي مجريات الحياة في مصر.. الا انه بدأت تلوح بوادر ظهوره مرة اخري في ايامنا الحالية للاسف الشديد ليظهر نوع آخر من الفتوات، وفتوات القرن الحادي والعشرين ليسوا مسلحين بالعصي والبلط والشوم كسابقيهم، لكنهم - وهو المحزن في الامر - مسلحون بكتاب العلم وقوة التعبير وفصاحة اللسان وبلاغة الخطاب، أدواتهم لم تعد شومة وبلطة وعصاة، لكنها اصبحت برنامج تليفزيونيا وميكروفونًا اذاعيا وموقعًا الكترونيا، بما يتناسب مع ادوات الاعلام بالغة الخطورة والتأثير في العصر الحديث. واذا كان فتوات القرن الماضي قد اعتادوا بسط نفوذهم بقوة الجسم فان فتوات القرن الحالي يبسطون نفوذهم بقوة العقيدة الايمانية المتأصلة في نفس كل مواطن مصري بحكم ديانته التي يعتنقها، الا ان كل اولئك و هؤلاء من فتوات القرنين اتفقوا علي نبذ فكرة الحياة مع الآخر، واذا كان فتوة بدايات القرن العشرين اعتمد علي قوة ذراعه في فرض هيمنته علي جموع الشعب، فان فتوة القرن الحادي والعشرين اعتمد علي قوة علمه ومكانته المقدسه في فرض نفس الهيمنة وبسط ذات النفوذ ومحاولة تأصيل فكرة رفض الحياة مع "الآخر" الذي اعتبره كل منهما عدواً له. وها قد ظهرت علي ايدي فتوات القرن الحادي والعشرين تساؤلات - بين افراد الشعب المصري الواحد - ما كان لها ان تظهر أبدًا، تساؤلات عن اصحاب الارض الاصليين التي يعيش عليها الجميع ومن يستضيف من في بيته، تشكيك في آيات الكتاب المقدس لجموع المسلمين الذي تكفل رب العالمين بحفظه الي يوم يبعثون، استفسارات مؤسفة عن استخدام دور عبادة في غير وظيفتها واستبدال رسالاتها في دعوة المحبة والسلام برسالات اخري قوامها الكره والعدوان. وما يحزنك في الأمر ان اصحاب التساؤلات هم من اهل العلم والفكر والرأي والقول، فاذا كان هذا منهجهم في الرؤية وعرض الامور، واذا كان ذلك اسلوبهم في الحوار والنقاش، فلا تتعجب من صاحب دين لم يتلق نصيبه من العلم عندما يرفع السلاح في وجه جاره صاحب الديانة الاخري ويعتبر ذلك نوعاً من الجهاد للدفاع عن دينه. للاسف، ان فتوات العقيدة لم يدركوا حتي الآن خطورة ادوات الاعلام في العصر الحديث ولم يتعاملوا معها التعامل الآمن ليحموا جموع مريديهم من شرها، فاذا كانت كلمات الحب والإخاء التي كانت مصر تسمعها من فضيلة الشيخ محمد الغزالي وقداسة البابا كيرلس السادس قد اثرت في بضعة آلاف من مواطني الجمهورية العربية المتحدة في ستينيات القرن الماضي. فإن خطاب الدكتور سليم العوا وتصريحات الانبا بيشوي تهز أواصر المحبة في نفوس الملايين من مواطني جمهورية مصر العربية، وتمهد الطريق لتفجيرات ستنال من الجميع، لا تفرق عندئذ بين مسلم او مسيحي.. وسيكون الخاسر الأول هو الوطن وكل ابناء الوطن، وكل ذلك بسبب فتوات العقيدة الذين لا يقبل أي منهم الآخر ويؤصل نار الفتنة في نفوس مستمعيهم ومريديهم وتابعيهم. رحم الله عصراً حمي فيه الفتوة جاهل العلم وطنه من الشر، ولطف الله بنا من عصر يزرع فيه الفتوة صاحب العلم لغماً متفجراً تحت كل قدم تسير علي ارض الوطن. مصر أقوي من فتنتها التي يثيرها بعض أبنائها. مصر أكبر بشعبها علي شطحات بعض متعلميها. مصرآمنة بأزهر الإمام الطيب، سالمة بكنيسة البابا شنودة. رئيس تحرير مجلة أبطال اليوم الصادرة عن مؤسسة أخبار اليوم