علاقة رجال الدين برجال السلطة علاقة تاريخية تقوم علي المصالح المشتركة والمتبادلة بين الطرفين، فهي علاقة تقوم علي أن كل طرف يستمد مشروعية وجوده ومبررات امتيازاته من الآخر علي حساب الجماهير، هذا في حال كان رجال السلطة لا يستمدون مشروعية وجودهم في السلطة من الجماهير ولا من امتثالهم بقيم العدل والحق أثناء ممارستهم للسلطة والحكم بين الناس، فهم في هذه الحال يجدون أنفسهم في أمس الحاجة إلي طرف آخر من خارج السلطة لتبرير وجودهم غير المشروع فيها وكذلك إضفاء المشروعية علي احتكارهم لها وبقائهم فيها وعلي ممارساتهم غير المشروعة في حق الجماهير، وتاريخيا لم يجد رجال السلطة أحداً للقيام بهذا الدور الشيطاني أفضل من رجال الدين المرتزقة الذين باعوا الله وباعوا دينه وباعوا عباده وخانوا أمانته واشتروا بآياته ثمنا قليلاً، وتاريخيا لم يستطع أحد أن ينافس رجال الدين في دورهم الشيطاني ذلك لما للدين من هيبة وقدسية وإجلال في قلوب الجماهير، ومن المعروف تاريخيا أن رجال الدين حين تقوم دعوتهم للدين علي الحق والعدل والمساواة والأمانة وحين يكونون منحازين للجماهير وخاصة للضعفاء والمقهورين منهم فلابد وحتما من وقوع الصدام والتنافر وربما الاقتتال بينهم وبين رجال السلطة، كما حدث بين الأنبياء والمرسلين وورثتهم من العلماء المصلحين وبين رجال السلطة في أقوامهم. والتاريخ قد سجل لنا مشهدين مختلفين لعلاقة رجال السلطة برجال الدين في زمن غياب أشخاص الأنبياء والمرسلين والمصلحين الأمناء عن ساحة الحياة وتولي أمر الدين من لا أمانة لهم ولا عهد ولا ذمة ولا دين. المشهد الأول: يحكي لنا التاريخ كيف قام رجال الدين المسيحي بتولي رجال السلطة في أوروبا في القرن الرابع الميلادي حين اعتنق الإمبراطور قسطنطين المسيحية وقام بفرضها علي الإمبراطورية، وبمرور السنين سجل التاريخ أحداثاً عن ذلك النزاع المرير الذي كان ينشب من حين لآخر بين رجال الدين ورجال السلطة حول من يجب أن يكون له السلطان المطلق علي الناس، رجال الدين أم رجال السلطة؟، حتي إن البابا (نقولا الأول) أصدر بيانا في العصور الوسطي قال فيه: (إن ابن الله أنشأ الكنيسة بأن جعل الرسول بطرس أول رئيس لها، وإن أساقفة روما ورثوا سلطات بطرس في تسلسل مستمر متصل، ولذلك فإن البابا ممثل الله علي ظهر الأرض يجب أن تكون له السيادة العليا والسلطان الأعظم علي جميع المسيحيين حكاما كانوا أو محكومين) انتهي. (المصدر: قصة الحضارة، ول ديورانت، ج14، ص352). وفي القرون الوسطي مارست السلطة الدينية ذلك السلطان بالفعل أبشع ممارسة علي الحكام والمحكومين، مما نشر الطغيان والفساد في الأرض باسم الله وبالتحايل علي نصوص الدين، وعاشت أوروبا في ظلام دامس ما يقرب من ألف عام، وتم ذلك حين قام رجال الدين يفسرون الدين وفق مصالحهم وأطماعهم، كفهمهم لكلام السيد المسيح الذي يقول: (أعطوا إذاً ما لقيصر لقيصر وما لله لله). (انجيل متي 23. 14: 23)، حيث زعموا آنذاك أن قيصر يحكم عالم الناس بما شاء وكيف شاء ومتي شاء، وبهذا التفسير الإجرامي لكلام السيد المسيح تم إعطاء قيصر المشروعية الدينية في أن يفعل بالجماهير ما يحلو له من تنكيل واضطهاد وفرض ضرائب وقهر واستغلال واستبداد. المشهد الثاني: سجله التاريخ حين اغتصب معاوية بن أبي سفيان الخلافة الإسلامية وقضي علي الشوري وحول سلطة الخلافة إلي ملك وراثي ظلوم غشوم آثر به نفسه وأبنائه من بعده، وحين شعر معاوية بن أبي سفيان بجرم ما فعله من اغتصابه للسلطة قام باستدراج بعض صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام من ضعاف النفوس وأغراهم بالمال والمناصب حتي يشرعنوا له اغتصابه للخلافة ويبرروا للناس استئثاره بالسلطة هو وأبناؤه من بعده من دون الناس جميعا، فقاموا يروون الكثير من الأحاديث وينسبونها للرسول عليه الصلاة والسلام، وهي أقوال تجعل من الحاكم ما يشبه الإله الذي لا يسْئَل عما يفعل، وعلي الناس جميعا أن يسمعوا ويطيعوا حتي ولو نهب الحاكم أموالهم وجلد ظهورهم. وأقدم للقارئ عينة من هذه الروايات التي نسبوها للرسول علي النحو التالي: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: (عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك) رواه مسلم رقم: (1836). ومنها: قال الرسول لما سأله رجل :يا نبي الله أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألوننا حقهم ويمنعوننا حقنا فما تأمرنا؟ فقال: (اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم) رواه مسلم رقم: (1846). ومنها: قال النبي (ص) في الحديث الذي رواه مسلم: (يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قال حذيفة: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: (تسمع وتطيع وإن ضُرِبَ ظهرك وأُخِذَ مالك، فاسمع وأطع). رواه البخاري برقم: (7084). ومسلم برقم: (1847). ولا يخفي علي أحد مدي تفصيل هذه الأحاديث علي معاوية بن أبي سفيان وبنيه ومن جاءوا بعدهم من الطغاة والمستبدين. ولا يخفي علي أحد أن هذه الأحاديث وعشرات غيرها كيف تشرعن للطغيان وتبرر للطغاة كل ما يرتكبوه من جرائم في حق رعاياهم، وظلت هذه الروايات هي الأعمدة والقواعد التي قام عليها الفكر السلفي وكل المؤسسات الدينية الرسمية التابعة للسلطة في شتي عصور التاريخ الإسلامي وحتي الآن، ولا يخفي علي أحد مدي تبني السلطات الحاكمة في كل الدول العربية والإسلامية للسلفية والسلفيين وتقريبهم إليها، وذلك أن الفكر السلفي الذي يروج له الإعلام الديني اليوم هو الفكر الوحيد في تاريخ الفكر الإسلامي كله الذي يملك إضفاء الشرعية الدينية والعصمة الإلهية علي أنظمة الحكم الطاغية المستبدة.