أصبح من الضروري تحديد القواعد والأسس التي تقوم عليها العلاقة بين الدين والسياسة في ظل تطبيق النظام السياسي الديمقراطي. ولا نظن أن الديمقراطية بوصفها آليات للعمل السياسي، تتعارض مع وجود تيارات سياسية لها مرجعية حضارية أو دينية. فآليات العمل الديمقراطي تنظم الحياة السياسية، بتحديد قواعد تنظيم الحق في حرية العمل السياسي والتنافس الحر وتداول السلطة، وهذه القواعد في مجملها بما فيها آلية الاحتكام لصناديق الاقتراع، لا تتعارض مع مضمون الأفكار السياسية المتنافسة أيا كانت، إلا إذا قامت هذه الأفكار على تحديد حق سياسي مطلق لجهة ما، أو لم تعترف بالحق السياسي المطلق للأمة بوصفها مصدرا للسلطات والتشريع. لهذا يتعارض المنهج الديمقراطي مع الأفكار التي تنادي بحكم رجال الدين بالحق الإلهي. لأن هذه الأفكار تعطي حقا مطلقا في الحكم لرجال الدين دون أي اختيار من الناس. وحتى إذا اختار الناس ذلك، فهو اختيار لمرة واحدة، وبعده تنفرد فئة بالحكم وتستبد بالقرار وتبرر ما تفعل بأنه حكم الله المفوض لها. ويشمل هذا أيضا، أي شكل للحكم بالحق الإلهي، لرئيس الدولة أو رأس السلطة التنفيذية. حتى إذا قام الناس باختيار رئيس الدولة اختيارا حرا، وبعد ذلك يصبح له الحق في الحكم باسم الله، فإنه يصبح خارج إطار المسائلة والمراقبة، ويتحول إلى حاكم مستبد. ويعني هذا ضمنا، أن الحق الأصيل هو للأمة، ومنها يستمد الحاكم سلطته، فلا يجوز بعد ذلك إضفاء أي قداسة على هذه السلطة، تفقد الأمة ذلك الحق الأصيل. كذلك إذا تصورنا نظاما للحكم يستند على أعطاء جماعة العلماء سلطة مطلقة ونهائية لتحديد الحلال والحرام، وبالتالي للموافقة على القوانين أو رفضها، فهنا أيضا يصبح لهذه الجماعة حقا مطلقا، يجور على دور السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، وتصبح جماعة العلماء هي الجهة الحاكمة بالفعل، دون تفويض من الأمة، ودون رقابة ومحاسبة. والمفروض أن لجماعة العلماء رأيا في القضايا التي تتعلق بالقواعد والأسس الدينية، ولكن هذا الرأي يعرض على ممثلي الأمة، أو على الأمة حسب أهمية الموضوع، ومن ثم يأتي القرار التشريعي النهائي من الأمة أو ممثليها. جانب آخر يثور في مجال الدين والسياسية يتعلق أساسا بالرأي الديني الصادر من جماعة تمارس العمل السياسي. وهو يتعلق برأي تراه جماعة ما يوافق الدين، وتراه جماعة أخرى غير ذلك، وترفضه جماعة ثالثة، وهكذا. وتعدد الآراء الدينية، أو تعدد الاجتهادات الفقهية أمر لازم، ويعني في النهاية أن الرأي الديني لا يأتي من جهة تملك سلطة الرأي الديني وسلطة فرضه على الناس. وفي المرجعية الدينية كغيرها من المرجعيات، ومن خلال النهج الديمقراطي، يكون الاتفاق على الرأي النهائي حق للأمة تقوم به أو تتركه لممثليها. وهذا لا يمنع أي طرف من التعبير عن رأيه السياسي، أو التعبير عن رأي سياسي يرى أنه يتفق مع المرجعية الدينية أو ينبع منها. وأيضا من حق أي جهة أن تعلن عن رأي ترى أنه ملزم دينيا، كأن يرى فريق مثلا أن فوائد البنوك هي ربا، وهو محرم دينيا. ولكن هذا الرأي لا يمثل الحق المطلق، بل هو رأي جماعة ما، وعليها أن تعرضه على الناس، وتدعو له، وغيرها يدعو لغيره من الآراء، والناس هي التي تختار الرأي الذي تقبله، وما يقبله الناس يصبح قانونا أو دستورا. والقواعد العامة الحاكمة في أي نظام سياسي تأتي من التوافق أو إجماع الناس، وهو ما ينطبق على أي توجه سياسي، كما ينطبق على التوجه السياسي المستند للمرجعية الدينية. لهذا يصبح الحديث عن دور الجماعات التي تقوم على رؤية دينية شاملة، وتطرح مشروعا سياسيا، مرتبط بتحديد الموقع الذي تقف فيه الجماعة. فهذه الجماعات دعوية، تدعو لفكرها بين الناس، ثم تطرح برنامجها السياسي وتدعو الناس له. وعليه تدخل هذه الجماعات مجال العمل السياسي وتدعو الناس لاختيارها لتمثل الأمة. وكل هذا يمثل ممارسة دعوية وسياسية تدخل في نطاق حرية الفكر والعمل السياسي. ولكن السؤال الذي يطرحه البعض يتعلق غالبا بموقف هذه الجماعة إذا وصلت للسلطة، وهل تفرض فكرها على الناس بعد أن كانت تدعو لهذا الفكر! وهنا أيضا نرجع لمصدر السلطة والتشريع، فأي جماعة يكون لها فكر معين، وتدعو له، ويختارها الناس بسبب هذا الفكر. ولكنها لا تمارس سلطة تطبيق رؤيتها، بل تعمل على تطبيق رؤيتها من خلال المجلس التشريعي، ورجوعا لرأي العلماء في القضايا الدينية، ورجوعا لرأي الأمة في القضايا الدستورية. وهو ما يتم بالفعل مع أي تيار سياسي، بما في ذلك الرجوع لرأي العلماء، وهو مثل الرجوع لأهل الاختصاص. وفي كل الأحوال يكون دور الدين قائما على الاختيارات الأساسية للأمة، فدور الرأي الديني مرتبط أساسا بأن الأمة لا تقبل أمرا يخالف الدين، وأن الناس في حياتها تراعي الرأي الديني وتحاول أن تتوافق مع عقيدتها الدينية. ولهذا يصبح التيار السياسي المستمد من المرجعية الدينية، قادرا على ممارسة دور سياسي من خلال آليات العمل الديمقراطي. والمشكلة التي تثيرها التيارات العلمانية في وجه التيار الإسلامي، لا ترتبط بوجود تعارض بين المشروع الإسلامي وآليات العمل الديمقراطي، بل ترتبط بوجود تعارض بين المشروع العلماني والمشروع الإسلامي.