في ظل حالة الحراك السياسي والمطالبة بحدوث تغيير وإصلاح في النظام السياسي والممارسة السياسية، قد يحدث تداخل بين أولويات التغيير، خاصة بين المطالب الشائعة بين مختلف التيارات السياسية، والمطالب الخاصة بكل تيار. فأصبح من الواضح وجود قدر من الاتفاق بين التيارات السياسية على أهمية التحول إلى النهج الديمقراطي في الحكم، مما يسمح بحرية العمل السياسي والتنافس الحر وتداول السلطة. وتتفق التيارات السياسية أيضا على أن تصبح الأمة هي مصدر السلطات. ومن خلال هذا التوافق أمكن لكل التيارات السياسية العمل معا في حدود مازالت ضيقة، ولكنها تمثل بداية لم تتحقق في فترات سابقة. والعمل المشترك يؤدي إلى توحد جهود الأمة نحو تحقيق أهدافها، في وجه السلطة المستبدة. صحيح إذن أن التعاون بين مختلف التيارات السياسية له مردود ايجابي، أو يفترض أن يكون كذلك. ولكن صحيح أيضا اختلاف التيارات السياسية في ما بينها حول الصورة التي تريد تحقيقها للمستقبل. فكل تيار له تصوره عن المستقبل السياسي المراد تحقيقه، وعن نظام الحكم المنشود، وعن التوجه العام لمسيرة التقدم والتنمية. والفروق بين التيارات السياسية في مصر، وغيرها من البلاد العربية والإسلامية، ليست فروق محدودة، بل أزعم بأنها فروق كبيرة وأكبر من تلك الفروق التي توجد عادة بين التيارات السياسية في البلد الواحد. وتنبع تلك الفروق من اختلاف المرجعية الفكرية التي تستند عليها التيارات السياسية. فالحاصل أن التيارات السياسية استمدت مرجعيتها من مصادر حضارية مختلفة. والمتوقع غالبا في أي دولة، أن تستمد التيارات السياسية فيها من مرجعيتها الحضارية. ولكن بسبب الاحتكاك بالدول الغربية المتقدمة، وبالعديد من التجارب السياسية الغربية، وبسبب ما وصلنا له من حالة تأخر حضاري، أصبحت التيارات السياسية في بلادنا تستمد مرجعيتها في الغالب الأعم من التجارب الغربية الناجحة، على فرضية أن ما حقق التقدم الغربي سوف يحقق لنا التقدم. ولكن التيارات الإسلامية في المقابل، تمسكت بهويتها الحضارية، وعملت من أجل إعادة حضارة الأمة مرة أخرى، بوصفها المرجعية الحضارية والدينية الوحيدة الملزمة لكل نظام سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي. لقد أصبح من الواضح لكل مراقب مدى الاختلاف بين التيارات الإسلامية وغيرها من التيارات السياسية، صحيح أن التيارات السياسية غير الإسلامية تختلف في ما بينها في قدر اهتمامها بثوابت الأمة الحضارية والدينية، ولكنها تتفق في معظمها على استنادها في مشروعها السياسي على التجربة السياسية الغربية. وإذا كنا ننادي بالعمل الجماعي من أجل التغيير، فعلينا إدراك أثر هذا الاختلاف على عملية التغيير والإصلاح. فقد كان من الإيجابي بلا شك، ما قامت به جماعة الإخوان المسلمين من مبادرات للعمل الجماعي، كما كان من الإيجابي أيضا استجابتها لمبادرات العمل الجماعي، مثل اشتراكها في الجبهة الوطنية للتغيير. ولكن العمل الجماعي من أجل التغيير والإصلاح، يثير العديد من القضايا المهمة، التي يجب ألا تغيب على أصحاب المشروع الحضاري. فالتغيير الذي تنادي به معظم التيارات السياسية، هو تغيير سياسي في الأساس، المقصود منه تطوير النظام الحالي ليكون نظاما ديمقراطيا، يقوم على شروط المساواة والعدل والحرية. ولا يمكن بحال من الأحوال افتراض أن مثل هذا التغيير المنشود غير ضروري لأصحاب المشروع الحضاري، بل هو في الواقع تغيير ضروري وأساسي، بل هو تلبية لشروط التغيير الحضاري الذي ننشده. فتطبيق آليات الديمقراطية هو وسيلة أساسية لتحقيق الشورى كقيمة عليا ملزمة. وإقرار نظام يقوم على العدل والمساواة، هو من شروط إطلاق طاقات الأمة، حتى تتحمل مسئوليتها في النهضة الحضارية المنشودة. ولهذا تتفق كل القوى السياسية على تطبيق آليات الديمقراطية، كوسيلة مهمة للتغيير والإصلاح. ولكن برامج القوى السياسية تختلف في ما بعد ذلك، اختلافات واضحة، وقد تصل لحد التعارض الواضح. فمعظم القوى السياسية تهدف لإقامة نظام ديمقراطي على النمط الغربي، وهي ترى أن النظام السياسي الحالي يحتاج لإصلاح شامل حتى يكون نظاما ديمقراطيا، ولكنها لا تختلف مع الأسس التي قام عليها النظام الحالي، والذي جاء امتدادا للنموذج السياسي الغربي منذ زرعه الاستعمار في بلادنا. لهذا نرى أن حركة التغيير والإصلاح التي اجتمعت عليها القوى السياسية، هي حركة للتغيير السياسي فقط، ولكنها ليست حركة للتغيير الحضاري لأسس النظام السياسي الراهن. والتيارات ذات المرجعية الحضارية، لها تصور مختلف يقوم أساسا على استعادة المرجعية الحضارية وتفعيلها بوصفها المرجعية العليا للنظام السياسي، والذي يستمد منها كل جوانب النظام العام. والحقيقة أن اختلاف الهدف النهائي، كان سببا في العديد من المعارك التي دارت بين التيارات الإسلامية وغيرها من التيارات السياسية. فمختلف القوى السياسية كانت تدرك –ومازالت- أن التيار الإسلامي يهدف لتغيير أسس النظام العام بصورة تجعلها خارج هذه الأسس، وتدرك بالتالي أن استمرار المرجعية السياسية المستمدة من التجربة السياسية الغربية، يخرج الحركات الإسلامية خارج إطار العمل السياسي. وعلينا أن نعترف بوجود هذا الاختلاف المرجعي الحضاري الأساسي، ولكن علينا أن نتعامل معه في ضوء المعطيات الراهنة، بصورة تسمح بالتغيير السلمي التدريجي. لهذا نرى أن الاتفاق على آليات الديمقراطية هو الأساس، حيث أن تلك الآليات تتفق مع مختلف التوجهات السياسية، وهي تسمح في النهاية بالاحتكام للأمة. ويصبح التغيير السياسي طريقا لتفعيل دور الأمة، وبالتالي يكون مرحلة أولى تمهد للتغيير الحضاري.