قامت الحركات الإسلامية منذ بداية القرن العشرين، على خلفية تراجع المرجعية العامة للأمة، الحضارية والدينية، عن القيام بدور القيمة المنظمة لمجمل النظام العام. لهذا ركزت مختلف الحركات الإسلامية على عملية استعادة مرجعية الأمة، لتكون المنظم الأساسي للنظام الاجتماعي والسياسي. وهذا الأمر طبع الحركات الإسلامية بطابع العمومية، فجاء خطابها السياسي عاما. وكان من الطبيعي أن تتجنب الحركات الإسلامية الخوض في تفاصيل النظام السياسي المستهدف، ليس للتهرب من الدخول في البرامج التفصيلية، ولكن لعدم وجود ضرورة لذلك. فهذه الحركات كانت تحاول تأسيس القواعد العامة الحاكمة، أي أنها كانت مشغولة بمجال الدستور الأساسي للنظام، ولم يكن من الضروري الخوض في تفاصيل، لم يأت وقت تطبيقها بعد. ومن متابعة الحركات الإسلامية المختلفة، عبر أكثر من قرن من الزمان، نجد أنها اختلفت في ما بينها حول منهج العمل. ولم يكن الاختلاف قاصرا على منهج التغيير، بل أرتبط هذا الاختلاف بتفسير الواقع الراهن، وكيفية النظر له. ومن الاختلاف في رؤية الواقع، تميز كل تيار بمنظومة فكرية خاصة به. والاختلاف الأهم في فقه التغيير، كان بين التغيير بالقوة، والتغيير السلمي. وقام فقه التغيير بالقوة على رؤية للواقع، تدين السلطة الحاكمة ومن يعاونها، لأنها المسئولة عن الواقع الراهن وتمنع تغيير هذا الواقع، وهي التي تحارب التيارات الإسلامية التي تعمل على استعادة المرجعية الحضارية والدينية للأمة. وبالطبع تميز هذا التيار بالعديد من الأفكار المتشددة، وغالى في التطرف في الكثير من الأحيان، وتأثر بتوجهاته العسكرية، وتحوله إلى تنظيمات سرية. أما فقه التغيير السلمي، والقائم على المنهج الإصلاحي والتربوي، فقد كان أقرب لتصوير الواقع بأنه تراجع للقيم الدينية العليا لدى عامة الناس. ولهذا أقام منهجه على دعوة الناس، ودعوة الحكام أيضا لتغيير حياتهم، واستعادة دور الدين في الحياة عامة، ليكون المنظم الرئيسي لها. ولهذا أرتبط فقه التغيير السلمي، بالاعتدال في المواقف، وعدم التشدد بغير ضرورة، ومال أكثر للعمل التدريجي. ورغم تأثير فقه المحن على التيار المعتدل، كما حدث لدى جماعة الإخوان المسلمين، إلا أن التيار الإصلاحي يتجه في النهاية للعمل الدعوي، والذي يجعل نجاح المشروع الإسلامي رهنا بإيمان الناس به، ومن هنا يكتسب هذا التيار اعتداله. وعندما نراجع التعددية بين التيارات الإسلامية، نجدها انحصرت لفترة زمنية طويلة في الجدل حول منهج التغيير، وكان لهذا الجدل تأثيرا سلبيا على العلاقات بين التيارات الإسلامية. فالخلاف حول منهج التغيير، بين المنهج السلمي ومنهج القوة، جعل كل تيار يرفض الآخر تماما، فلم تكن التعددية مقبولة على هذا المستوى. فلا يمكن للتيار السلمي الإصلاحي، أن يقبل مشروعية التغيير بالقوة، ويعتبرها أحد البدائل الممكنة، أو يعتبرها بديلا داخل إطار التعددية، بل كان عليه رفضها وأدانتها. وفي المقابل لم يكن ممكنا للتيار الداعي للتغيير بالقوة، أن يعتبر التغيير السلمي السياسي مشروعا، لأن تصوره يقوم على الرفض الكامل للواقع، مما يجعل أي محاولة للتغيير السلمي، هي اشتراك في ذالك الواقع المرفوض. ولعل الجدل المستمر، والبيانات والكتابات المتبادلة، بين توجهات القاعدة وجماعة الإخوان المسلمين، تعد تعبيرا عن هذا الموقف. والمتابع للهجوم المستمر للدكتور أيمن الظواهري، على جماعة الإخوان المسلمين، يلمح بالضرورة السبب الكامن وراء هذا الهجوم، فإذا كانت رؤية جماعة الإخوان المسلمين للتغيير صحيحة، ستكون رؤية الدكتور الظواهري خاطئة. هكذا أصبحت التعددية مستحيلة بين المختلفين حول منهج التغيير، ولكن المشكلة أن التعددية لم تتأسس بعد بين المنتمين لمنهج تغيير واحد. فالمنتمون لمنهج التغيير السلمي، لم يؤسسوا بعد لتعددية داخل إطار المرجعية الحضارية والدينية للمشروع الإسلامي. ونتج هذا عن التركيز على القضايا الكبرى، داخل منهج التغيير السلمي. فكل الجدل يدور حول المبادئ العامة للمشروع الحضاري، والتعريفات الأساسية له. والمتابع لهذا الجدل، يرى أن الأسس الدستورية والقانونية، وأسس النظام السياسي للمشروع الحضاري، لم تتبلور بعد. حتى بات الاختلاف بين التيار الإسلامية المعتدلة يدور حول تلك الأسس، ولا يدور حول البرنامج السياسي. ولكن الواقع الراهن للحركات الإسلامية، يبرز فيه التركيز على التأسيس، ولم تتبلور بعد رؤى سياسية حول النظام السياسي وشكل الحكم، ودور وشكل الدولة. والخلاف في الأسس، يؤدي في كثير من الأحيان إلى خلاف تمييزي يقوم على رفض قبول انتماء كل الأفكار لمرجعية واحدة، ومشروع واحد. والمتابع لبرامج الحركات الإسلامية، يجد أنها تتميز في الأسس، ولا تتميز في البرامج، ليس بين بعضها البعض، ولكن أحيانا بينها وبين التيارات السياسية الأخرى. ولقد كان من الاختلافات الأساسية بين الحركات الإسلامية، هو الموقف من الديمقراطية. ومن الواضح أن مختلف التيارات الإسلامية المعتدلة، قبلت الديمقراطية كمنهج للعمل السياسي. والاختلاف الراهن بين الحركات الإسلامية، يكمن في قبولها جميعا لآليات العمل الديمقراطي، وقبول بعض هذه الحركات لقيم الديمقراطية، النابعة من التصور العلماني، مثل حزب العدالة والتنمية. وهنا سنجد جدل حول مدى انتماء العدالة والتنمية للمشروع الإسلامي، والبعض يرى أنه قبل هذه القيم مؤقتا، ونظرا لظروف مرحلية، والبعض الآخر يرى أن قبول قيم الديمقراطية هو خروج من مرجعية القيم الإسلامية. ومرة أخرى نعود للاختلاف حول الأسس، فقبول الديمقراطية والدولة المدنية الحديثة كمرجعية للنظام السياسي، يختلف عن قبولها كأدوات للنظام السياسي. وهذا الخلاف يدور حول حدود دور المرجعية، فهو تعددية، ولكن حول المرجعية وليس داخلها. [email protected]