في الأدبيات المصرية، كما في السلوكيات الحرفية، يعتبر رش الماء مصدرًا لجلب الرزق، ومن ثم يبدأ صاحب الدكان المصري في رش المياه علي الرصيف وفي نهر الشارع. تلاحظ ذلك في الورشة والمحل والكشك، بل أن الأمر يصل لرش الماء علي القبر بعد دفن المرحوم. استمر ذلك طويلاً وتبعه رش الماء من أجل «الطراوة» أي تخفيف حدة الحر صيفا، وتلاه غسيل العربات بكافة أنواعها من الريكشا المعدلة (التوك توك) وحتي الهامر (غير المعدلة)، وسبقه غسيل المواشي بمختلف أصنافها في الشارع والأسطبل والمزرعة. تزامن ذلك كله مع إهدار المياه عبر ترع وقنوات تصب في البحر أو الصحاري، مع سوء استهلاكها في المنزل المصري عمومًا.. في صورة إهدار آخر يدعو للعجب. ولا زلت أذكر أنه خلال صيف في نيويورك أصدر عمدة المدينة قرارًا بمنع غسيل السيارات بالمياه المكررة (النقية)، وكذا الحال بالنسبة للحدائق حيث يقتصر استخدام المياه هنا علي المعالج منها فقط، بينما المكررة للشرب أو الطهي أو غسيل الثياب فقط، وكانت الغرامة ثقيلة، وذلك حفاظًا علي أهم مصدر للحياة بعد الهواء. لكن الأمر يختلف في المحروسة، ونظرة إلي ملاعب الجولف التي تزدحم بها مناطق الإسكان البالغة البذخ، تدفع المرء لمزيد من إبداء العجب العجاب!! إهدار أكثر بشاعة، واستفزاز أشد قسوة... نظرًا لما هو متوقع خلال سنوات قليلة قادمة.. وبطريقة ذهبت «السكرة» وجاءت الفكرة، مع توقيع دول المنبع علي اتفاقية جديدة يتم بموجبها توزيع مياه النيل وتفقد مصر ما يصل إلي ثمانية مليارات متر مكعب من المياه سنويا. هذا مع التذكير بأن عدد سكان مصر يتزايد وكذلك الطلب علي المياه، هذا مع احتمال تزايد العجز في نصيب مصر من مياه النيل. إذن نحن قمنا باستغلال سيئ للموارد الطبيعية (الماء هنا) في ظروف أكثر من حرجة، ونستمر في ذلك الاستغلال مجسدين سلوكا كله «سفه» ثم نفكر في حلول ذات نتائج أكثر ضررًا منها مثلا منع زراعة الأرز باعتباره يستهلك مياها أكثر في ريه، وقد تتدرج الحلول لمحاصيل أخري.. هذا مع تكاثر المدن الجديدة ذات «الكيومونات والكومباوندات» في الصحاري مع كل ما يستلزمه ذلك من كميات هائلة من مياه ضائعة تتسرب في الرمال. قبلنا ورضينا طويلا بإهانة النيل، وهو ما أوصانا المصري القديم بعدم تلويث مياهه، وشاهدنا وسكتنا عن إلقاء جثث الحيوانات فيه، والتخلص من مياه الصرف وعادم المصانع وأنواع الكيماويات في مجراه حتي باتت الأسماك تختنق من سمية أصابت النهر الخالد، هذا مع دوام التعدي علي مساره باقتطاع أجزاء من مجراه لبناء مرسي أو ناد أو كازينو بل لتشييد منزل أو مصنع بعد أن أصبحت العوامات «مودة» قديمة، وبعد أن باتت بعض النقابات تتباري في شفط مساحات من شاطئ النيل ثم ردم مساحات إضافية لزوم التوسع و«الرفاهية» وباعتبار النيل ملكية شخصية أو ميراثًا شرعيًا. وبالطبع «وصلت الفكرة» وأدمن سكان الريف رش المياه النقية لكسر حدة الحر ونعومة التراب ومع ازدياد البناء بالمسلح هناك ارتفع معدل الاستهلاك لدي السكان حيث الدش والحمامات ودورات المياه الجديدة خاصة مع زيادة إعداد المتعلمين ومع تطور الحياة عموما يتزامن ذلك مع تزايد كميات المياه التي تستهلكها المصانع بدرجة تدعو للدهشة أحيانا مع مشاريع تشفط تلك المياه ودراسة كافية غالبا. الغريب أننا جميعا نسمع ونقرأ عن أزمة مياه خانقة ومرعبة متوقعة وعن سدود تقوم أكثر من دولة بإقامتها وملايين الهكتارات تبدأ دول أخري في استثمارها في دول المنبع الأفريقية ومع ذلك وبالطريقة المصرية الأثيرة ساعتها يحلها ربنا ووقتها يفرجها الله ويامين يعيش وأحييني النهاردة وبكرة تفرج وغيرها من أقوال غير مأثورة غير صالحة للاستهلاك الواقعي غير مفهومة لدي أبناء الصين وإيطاليا والكويت وقطر بل وأمريكا وإسرائيل خاصة واللجوء إلي القضاء أو التحكيم الدولي غير مأمون ولا هو مضمون بل ويريد البعض أن ندفع ثمن المياه التي يحملها لنا النهر نعرف جميعا ذلك لكن العجب أننا علي الخطأ مصرون وكأنها حالة مرضية تقترب من الميل للانتحار أو الرغبة في تدمير المستقبل وربما الذات. واختتم بلقطة صاحب مقهي يرش الشارع بخرطوم مياه ضخم يمر بالقرب مواطن بسيط يعلق قائلاً والله الميه دي حرام اتقوا الله بكره يحرمكم منها رد صاحب المقهي ضخم الجثة وأنت مال أهلك ثم ألا يستدعي الأمر إصدار تشريع حازم يلزم كل مستهتر بمراعاة المبادئ والأصول في تعامله مع النيل الذي نكرر أن مصر هبته. أم سنظل غائبين عن الوعي لحين إشعار قاتل متناسين مقولة قطرة مياه تساوي حياة.