إذا كانت البيروقراطية في الدول الاشتراكية ستقاوم التحول إلي الاقتصاد الحر قيراطًا، فهي في مصر ستقاومه أربعة وعشرين قيراطًا، ليس لأن مصر تربطها علاقة خاصة بالسيد ماركس أو لأنها كانت من دول المنظومة الاشتراكية بل لأن الشعب المصري نفسه هو أقدم عاشق للميري وأكثر شعوب الأرض رغبة في الارتباط به، ولعل من أهم النصائح التي تركها لنا الأجداد ذلك المثل الذي يقول: إن فاتك الميري.. اتمرغ في ترابه. لقد جاءت الاشتراكية إلي مصر فوجدت أرضًا صلبة من الميري فأقامت عليه كل مبانيها الشاهقة.. لقد افترض المثل القديم أن الميري هو غاية المراد في هذه الدنيا، وأن من يفوته هذا الميري عليه أن يبذل محاولة أخيرة هي أن يتمرغ في الغبار الذي يثيره هذا الميري بينما هو منطلق بسرعة، قائل هذا المثل القديم لم يكن يتصور أن هذا الميري سيأتي عليه يوم يستوعب فيه الناس جميعًا، وأنه سيحدث تأثيرات قوية في العقل المصري من شأنها أن تجعل المصريين جميعًا لا يتخيلون مشروعًا كبيرًا ليس حكوميا، هذا هو ما حدث بالضبط بعد تطبيق المبادئ الاشتراكية، لم تعد هناك حاجة لأن تتمرغ في تراب الميري بعد أن انتشر وملأ كل جوانب الحياة، اتسعت رقعة البيروقراطية في مصر بعد أن أصبحت الحكومة مسئولة عن (تعيين) كل الناس في دواليبها بغض النظر عن حاجتها لهم، وضاعت ثروة مصر الحديثة التي راكمتها منذ عهد محمد علي وبدأت الحقيقة المؤلمة تطل برأسها ليس في مصر ولكن في العالم كله، وهي أن سياسة هندسة البشر من أعلي بواسطة الميري لا تجلب سوي الخراب فبدأت علي استحياء تأخذ بالحرية الاقتصادية وبذلك القدر من الحرية السياسية الذي يسمح بنمو ذلك القدر من الاقتصاد الحر. المرة الأولي التي سمعت فيها كلمة (تعيين) كانت في فترة تجنيدي في سلاح الإشارة منذ أكثر من نصف قرن، التعيين هو الطعام، والأفراد الذين سيأتون بهذا الطعام للفصيلة نسميهم نوبتجي قروان، وعندما ينقل جندي من مكان لآخر لابد أن يتبعه تعيينه، ونسمي هذا الإجراء، (إتأمد) في التعيين، وأنا أعتقد أن هذه الكلمة في الأصل كانت (اتأبد) يعني أنه سيحصل علي تعيينه (طعامه) للأبد، أي حتي نهاية خدمته، ولما كنت من هؤلاء الذين يعتقدون أن الناس تفكر بألسنتها وليس بعقولها، أي أن طريقة تفكيرهم تظل محكومة وأسيرة لمفرداتهم، لذلك أقول: إن النسبة الغالبة من المصريين لم تكن تفكر في العمل ولكن في (التأميد في التعيين) ولذلك كنا جميعًا نستخدم كلمة (جاء) عند حديثنا عن التعيين، فنقول: جالك التعيين فين؟ أو فلان جاله التعيين في المكان الفلاني، أي أن التعيين يهبط عليك من السماء، لقد تحولت الحياة إلي قروانة كبيرة، ستجيء إليك.. وانت وحظك. لم نكن نتساءل: أين (يعمل) فلان؟ بل نقول: فلان (في) الحتة الفلانية.. جاله التعيين في الصحة أو في وزارة الزراعة، أما أصحاب المناصب الكبيرة، فقد كنا نستخدم كلمة (ماسك) عند الحديث عنهم.. فلان ماسك السياحة دلوقت.. فلان ماسك الحديد والصلب.. فلان ماسك كذا.. أو فلان مسكوه حتة كويسة وأحواله بقت حلوة.. وتنتقل الحكاية إلي الصحافة خصوصا تلك الصحافة التي يفترض أن تدافع عن المشروع الفردي والاقتصاد الحر، فتسود الصفحات بالصرخات: الحقوا بيبيعوا مصر.. آه يا مصر.. هكذا نشأت جماعة جديدة قوية هي جماعة الحقوا الوطن.